سنوات طويلة مرت ، لم أفكر على مرِّها بتغيير حياتي ..
كانت العزوبية بالنسبة لي متعة لا تضاهيها متعة ..
وكان الاغتراب منذ تفتحت عيناي على الحياة هو اختياري .. أو هوَ قدري ..
عندما قرر صديقي الوحيد "محمد" الزواج زارني ، وقبل أن يُلقي عليّ التحية قال لي بصرامة : سأتزوج ولن أسمح لك بصرفي عن قراري ، لا يهم أن أحبها ولا أن أعرفها حتى .. أريد أن أتزوج فقط .. وسأترك لك فلسفتك العقيمة عن الحياة والحب ..
ضحكتُ يومها وجذبته - متمنعاً - إلى الداخل وأنا أسأله : (اشلون كذا .. ؟ ) ..
كان محمد أقرب الناس إليَّ وأحضاهم لقلبي ولم يكن لي صديقٌ سواه .. كان يعتنقُ رأيي ويقاسمني جنوني وكنتُ أحسه أخي وصديقي وولدي ، وكذلكَ أنا بالنسبة له ..
كان يحب أن أقومَ بتحضير طبق الـ أوميليت على الإفطار عندما يزورني - الطبخة الوحيدة التي أجيدها على رأيه - مع أنني في الحقيقة أجيد كل الطرق لطهو البيض ..
في ليلة زفافه وضعتُ اللمسات الفنية الأخيرة على عُشِـه الصغير ورتبتُ له "كرنفالاً " فنياً باذخاً وأرسلتُ إليهِ باقة وردٍ جميلة وبطاقة كتبتُ عليها ( إلى خائن عهد العزوبية مع أجمل الأماني ) ..
رحل محمد عن الدنيا في غرة العام 2000 في حادثة مرورية مفجعة ومروعة .. تركني فيها وحدي نهباً لغربتي وجنوني .. لم أكن رأيتُ ابنته الصغيرة التي بشرني بمولدها وأبت إلا أن ترحلَ معهُ حيثُ رحل فكانت أوفى له مني ..
في الرابعة صباحاً وقبل أذان الفجر وصلتُ من سكة سفر طويلة وتسللتُ إلى غرفة الموتى بـ بريدة .. رفعتُ الكَفَنَ عن وجهه الطاهر الصبوح وعن وجهِ وليدتهِ القمريّ الجميل والوجع يعتصر قلبي وتمتمت مُغالباً دمعي : لمن تركتني يا صديقي .. ؟ .. ستكون الحياة قاسية من بعدك .. ؟ .. لمَ لم تأخذني معك .. ؟
يا ألله .. كم الحياة صعبة ومريرة في بعدك يا صديقي وتوأمَ روحي ..
عشت - بعدها - في الرياض لفترة من الزمن ..
وعشت في جدة أكثر منها دون أصدقاء ولا معارف ..
شـُـغِـلتُ كثيراً بأعمالي ورحلاتي وقصائدي وكتاباتي وأوجاعي ..
لكنني أقولها الآن وأنا بكامل قواي العقلية المعتبرة شرعاً : ( ملّيت ) ..
عائلتي أنموذجية رائعة وعلاقتي بأهلي جميلة جداً .. إن هيَ إلا نفسيتي الغريبة وركوني القديم لـ الوحدة والعزلة والغياب ..
- بعد رحيل محمد - طيوري وأسماكي وأشجاري في بيتي الصغير هم عائلتي وأصدقائي طيلة هذه السنوات من عمري .. حتى الحب الذي آمنتُ به .. اكتشفتُ أنه كذبة كبيرة في هذا الزمن ..
ليتكَ تسمع الآن ما كنتَ تظنه ضرباً من الخيال أن أبوحَ به يوماً ..
محمد .. مليت الغربة .. مليت العزلة .. مليت العزوبية .. مليت الـ أوميليت يا صديقي .