أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: حمامٌ يطير

  1. #1
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Sep 2004
    الدولة : أرض السرد
    المشاركات : 508
    المواضيع : 62
    الردود : 508
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي حمامٌ يطير


    حمامٌ يطير

    بقلم : سمير الفيل


    رأت وداد أن تصعد السطح بسلة الغسيل كي تنشرالملابس ككل صباح ، أحكمت من وضع الإيشارب حول رأسها ، وقفت أمام المرآة ، تعدل من هيئتها . لم تكن بحاجة إلى بودرة أو طلاء شفايف ، فهي حلوة وإن لوحت الشمس بشرتها بسمرة خفيفة ، فقط مدت يدها وأخرجت خصلة شعر صنعت هلالا أشقر على جبهتها ، أحضرت المشابك من الصالة ، قالت الأم مفيدة بلهجة آمرة : " لا تتأخري . أنشري وانزلي على طول " .
    احتضنت سلة الغسيل ، وراحت تغني صاعدة ، ويدها تمسك سلم الدرابزين في لهفة : " مال علي مال .. فرع من الرمان .. " عند العتبة الأخيرة لمحت قطا أرقط ينسل في هدوء من باب السطح الموارب ، ذعرت قليلا ، لكنها ما لبثت أن أخفت خوفها في ضحكة مجلجلة جعلت القط يتوقف برهة ويمسح فروه الناعم في الحائط الأبيض المطلي بالجير ، وهو يرمقها في استغراب .
    زغللت الشمس بصرها حين واجهت السماء بزرقتها المنعشة ، فأغمضت عينيها ، فتحتها بصعوبة ، ونظرت ناحية السور القريب ، لم يكن هناك بالداير الخشبي ، فقط الحمام يهدل بالداخل ، والأعلام مطوية في الركن القريب ، هذا معناه أنه لن يأتي اليوم ، انقبض قلبها ، ولم تعاود الغناء ، فجأة حطت حمامتان على حافة السور . كانت تعرفهما جيدا ، من النوع الهزاز الذي يربيه غريب
    ، معنى هذا أنه قد أتى وانصرف . شعرت أنه هناك ويعد لها مفاجأة ، تورد وجهها من جديد ، وانبثق الدم ، لكنها رأت القط يعود من الباب ويقفز قفزة هائلة ، ثم يمضي في الاتجاه المضاد . ثمة عصافير تمرق فوق رأسها ، وسحابات واهنة تمضي في كسل كأنها تؤدي واجبا ثقيلا ، فالوقت صيف ، وهي تتجه للجنوب حيث الهواء يدفعها أمامه بفتور عجيب .
    كادت تنتهي من نشر قطع الغسيل ، لم يبق في يديها سوى بدلة أبيها " الميري " الزرقاء سائق القطار ، بقطعة النحاس المثبتة على الصدر . سألت نفسها، والقلق يعتصر قلبها : " ماذا لو لم يأت غريب؟ " .
    هو أخبرها أمس أن الست والدته وخالته محاسن وعمه محروس سيزورنهم اليوم . هل حدث في الأمر شيء ؟
    يكاد القلق يقتلها ، وهي تلقي ببصرها ناحية الداير ، حدست : نعم لعله ذهب العمل مبكرا هذا الصباح . حين كلمت أمها الحاج مصيلحي عن زوار قادمين لرؤية البنت ، شوح بيده :" أي بنت . إنها ما تزال طفلة " .
    لم يكمل الطعام فقد سُدت نفسه ، لكنه جلس على الكنبة القديمة المهترئة المطلة على شباك عريض يفضي إلى الطريق يحصي بأصبعيه السنين . كل صفارات قطارات الدنيا كانت تدوي في أذنه هذه الساعة : هل كبرت ابنته حقا وصارت عروسا؟!
    لقد أنهت لتوها دبلومها الفني ، وأتعبتهم في دروس خصوصية جعلتهم على البلاط . لكنه لم يشعر بها إلا طفلة . طفلة مفعوصة بضفيرتين حتي عامين مضيا ، وإن كانت قد طال عودها بعض الشيء . صاح بصوت يغلب عليه وهن خفيف : " هات الشاي ياأم وداد " .
    لحظات ورأى البنت قادمة بصينية عليها الشاي في كوب بنور يحبه من أيام كان عريسا . نظر لابنته ، وكأنه يراها لأول مرة ، كانت عروسا فعلا ، واكتشف أن صدرها يعلو قليلا في بروز كاشف ، وأن وجنتيها توردتا وهي تضع الصينية بين يديه : " الشاي ياأبي " .
    أجلسها إلى جانبه ،منذ زمن بعيد لم يفعل ، وسألها : " ألا توجد أخبار عن الوظيفة يا ابنتي؟ " .
    جلست وهي تحدق في منمنمات السجادة النبيتي الحائلة والتي طوت عشرين عاما من زواج أبيها سائق القطار بأمها الطيبة التي لم تسمع لها صوت سوى كلمة واحدة : " حاضر يا أبو وداد " .
    هل يكون غريب حنونا وحازما كأبيها ؟ إنها تحب هذا الأب وتخشاه ، وهي تعرف أن الوظيفة لم تكن هي السؤال المقصود .لكنها ردت :" أبدا وحياتك " . كانت نبرة مستعطفة فيها رجاء حار أن يطوي رفضه ويوافق . أعاد تأمل وجهها ، ومرت سحابة زمن استعادها طفلة شقية بالفستان " الكلووش " تلعب في الزقاق ، وتنط " الأونة " ، ثم تقفزالحبل ، وهو ينهرها أن تصعد لأن المساء يوشك أن يحل .لم يجد فارقا كبيرا بين طفلة الأمس وفتاة اليوم . تململت قليلا مع صمت الأب ، وما لبثت أن جاءت الأم ، وفتحت الموضوع : " اسمع ياحاج . البنت كبرت والعرسان على الأبواب ، ونحن لا نريد أن يطير العريس . لا أحد يضمن أن يأتي مثله . فهو مؤدب ومحبوب من الجميع " .
    سألها بحدة ، وحسم : " معنى هذا انك تعرفيه ، أراك موافقة " . نظرت الأم ناحية وداد ، وتلعثمت : " اسأل ابنتك ! "
    في هذه اللحظة اندفعت البنت من مجلسها على الكنبة : " عن أذنكم ، ألم الغسيل " . استوقفها الأب : " اريدك ياوداد " . أحنت رأسها بنصف نعم خجلى ، وهنا ابتسم الأب بحنان ظن أنه قد نساه : " خير يا ابنتي ، في الغد يمكنهم أن يشربوا القهوة عندنا ".
    لم تشعر بنفسها إلا وهي تطوي السلالم ، وقلبها يكاد يقف من فرط فرحتها . كان غريب يقطع السطح المواجه جيئة وذهابا ، منتظرا قرار الأب ، سألها بلهفة : " ما الأخبار ؟ " .
    هزت رأسها بنصف نعم المتبقية ، وهنا لم يشعر بنفسه إلا وهو يقفز فوق السور العالي ، والدموع تطفر من عينيه يبارك لها ويصيح في الفضاء الأزرق حوله : " جميل جدا . أخيرا وافق " . ردته إلى الواقع في جفاء مصطنع : " أبي صعب ، لتوصي أمك لتكون متهاودة في الكلام " .
    قال وهو يرمقها بحب يكاد يفيض من قلبه الفرح :" قعدة الرجالة أنا وأبوك وعمي محروس . الحريم للزيارة فقط يافالحة" .
    هي الآن قد انتهت من نشر آخر قطعتين ، ولم يظهر ، قلبها يعتصره انقباض مخيف ، ودت أن تبكي ، لقد انخرطت في البكاء فعلا ، ولم تشعر إلا ويد سمراء معروقة تمسح الخصلة النافرة : " لماذا يبكي القمر ؟"
    حبست الباقي من دموعها :" لماذا تأخرت ؟ لقد خاصمتك " .
    زفر متعبا والعرق يتفصد من جبهته ، والحمام كان قد خرج من أقفاصه وراح يستعد لدورانه الصباحي الجميل :" ياست الكل كنت أشتري الجاتوه ، والشيكولاتة . ألا تريدين هذه الأشياء ؟ "
    ردت بغضب، وهي تبعد يده : " أمن أجل هذا تنسى موعدنا . من أولها تنوي الهرب " .
    غشيت سحابة حزن وجهه : " كان نفسي يكون أبي موجودا معانا هذا اليوم " .
    ردت بخشوع : " الرحمة على أموات المسلمين ".
    تركت يدها لدموع قليلة تفر من مقلتيه ، وكان عليها أن تستجيب لصوت الأم ، وهي تنادي عليها بعتاب ولوم : " وداد .. تأخرت يا عروسة ! " .

  2. #2
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Sep 2004
    الدولة : أرض السرد
    المشاركات : 508
    المواضيع : 62
    الردود : 508
    المعدل اليومي : 0.07

    Post

    * قصة " حمام يطير " من مجموعة بعنوان " دفتر أحوال " .
    لكن هذه النسخة طالتها تعديلات محدودة .
    تحياتي للأصدقاء من اهل الواحة .

    سمير

  3. #3
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Dec 2005
    المشاركات : 2,362
    المواضيع : 139
    الردود : 2362
    المعدل اليومي : 0.35

    افتراضي

    الأديب والقاص الأستاذ / سمير الفيل

    شكرا على هذه القصة الرقيقة ..حملتنى الى افلام شادية وعبد الحليم
    مرة اخرى ... انت متعلق بقصص الأبيض واسود .. وانا كذلك
    رحلة عذبه جميلة مليئة بالآمال والأحلام

    اعجبتنى لحظات لهفة اللقاء والاثارة والقلق واحتمالات ضياع الأحلام باختفاء غريب .... وحمام و الغرام .. والعصافير من فوق راسها بشارة الخير

    عجبنى اشارتك الى اسلوب موافقة قائد قطار الحياة والتقاليد الاجتماعية السائدة فى المجتمع المصرى والوالدة المطيعة لسى السيد

    اخافنى القط كنذير ولكن الحمد لله جت سليمة !

    البنت امورة وروحها جميلة صادقة ولابد ان تنتهى القصة نهاية جميلة موائمة لشبابها وألا تتحطم احلامها - فالله احكم الحاكمين

    وكأننى رايت هذه البنت امس وعايشت قصة شبيهه بقصتها !!

    ارتباكات - لا تدقق كثيرا !

    تحياتى نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  4. #4
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Sep 2004
    الدولة : أرض السرد
    المشاركات : 508
    المواضيع : 62
    الردود : 508
    المعدل اليومي : 0.07

    Post

    نسيبة بنت كعب :

    اعجبتنى لحظات لهفة اللقاء والاثارة والقلق واحتمالات ضياع الأحلام باختفاء غريب .... وحمام و الغرام .. والعصافير من فوق راسها بشارة الخير

    عجبنى اشارتك الى اسلوب موافقة قائد قطار الحياة والتقاليد الاجتماعية السائدة فى المجتمع المصرى والوالدة المطيعة لسى السيد

    اخافنى القط كنذير ولكن الحمد لله جت سليمة !

    البنت امورة وروحها جميلة صادقة ولابد ان تنتهى القصة نهاية جميلة موائمة لشبابها وألا تتحطم احلامها - فالله احكم الحاكمين

    وكأننى رايت هذه البنت امس وعايشت قصة شبيهه بقصتها !!

    .........................

    نسيبة بنت كعب

    في الحياة تتوالى علينا الأحداث حتى أننا لنوشك أن نقول :
    لقد مررت بهذه التجربة من قبل .. أو أن هذا الموقف بعينه جربته .
    وفي الكتابة يحدث نفس الشيء . وهذا نتيجة تراكم الخبرات ..
    إشارتك لأفلام الأسود والبيض ربما تتسلل لذاتك نتيجة الأجواء الرومانسية التي ظللت فترات الأربعينات والخمسينات والستينات .حقا كانت مرحلة في غاية ا؟لأهمية .
    بالفعل إنها بنت " أمورة " وطيبة ، كأنها التي مارست فعل الطيران ومنحت غريب سعادة غامرة غسلت أيامه القائظة بحنان حقيقي .
    ثم ان للطيران مواقيته ، وناسه ، وإشاراته الفريدة .

    تحياتي ..

  5. #5
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,137
    المواضيع : 318
    الردود : 21137
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    براعة القاص تجعلنا نعيش النص ـ حب إبن الجيران وحيرة الأب
    الذي الذي ترهقه القلة وضيق ذات اليد، فيحمل هم البنت التي
    أصبحت عروسة . ولكن حنان الأبوة يغلب عليه ليسمح بالفرحة
    أن تدخل البيت.
    السرد جميل شائق، والفكرة حانية بمعانيها ، دافئة بأسلوبها
    والأداء طيب.
    متى نحتضن كتاباتك في واحتنا من جديد.

  6. #6
    الصورة الرمزية آمال المصري عضو الإدارة العليا
    أمينة سر الإدارة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    الدولة : Egypt
    المشاركات : 23,786
    المواضيع : 392
    الردود : 23786
    المعدل اليومي : 4.13

    افتراضي

    من الأدب القصصي الاجتماعي جاءت تلك الرائعة التي تحمل الدفء الأسري وروح العائلة البسيطة بعاداتها واحتواء عائلها رغم ضيق ذات اليد
    شكرا لك أديبنا الفاضل
    ومرحبا بك في واحتك
    تحاياي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

المواضيع المتشابهه

  1. الفيل يطير !
    بواسطة جمال علوش في المنتدى أَدَبُ الطِّفْلِ (لأطفالنا نحكي)
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 30-05-2020, 12:23 PM
  2. حمّام.....
    بواسطة ريمة الخاني في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 22
    آخر مشاركة: 19-02-2017, 08:20 PM
  3. علمتني الحياة .. رائعة مصطفى حمام
    بواسطة إدريس الشعشوعي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 23-01-2005, 04:23 AM
  4. كان لبني عذره ؟ صنمٌ يقال له ((((( حمام )))) ؟
    بواسطة نعيمه الهاشمي في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 21-12-2004, 02:55 PM
  5. قصيدة.....حمام الأقصى
    بواسطة بن عمر غاني في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 18-10-2004, 12:02 PM