جدّي
لا زلت يا جدي كلما انتابني الخوف, أحن إلى رائحة الصوف الدافئ. هل تذكر؟ - إن كان الأموات يملكون ذاكرة-حين كنت في كل مرة أعود فيها من اللعب, لأجد أمي عند الباب تنتظرني بشوق وتحفز الصياد, حاملة ليفة الحمام بيد وبالأخرى قطعة صابون هائلة أشبه بقلعة بيضاء, لو كنت مكاني لهربت أيضا إلى جدك يا جدي, مثلما كنت أفر إليك كمن يعدو من موت محتوم لأغرق رأسي المرعوب في صوف عباءتك الدافئ.
"حدثيني عنه يا جدتي"
جدك دوخ الفرنساوي والانكليز في سوريا وفلسطين.كنت أغار عليه من بارودته التي لم تفارقه يوما حتى قبيل موته. كان حزينا جدا في أيامه الأخيرة لأنه لم يعد يستطيع الضغط على الزناد. رحمة الله عليه.مات بدون مقدمات, كأنه قرر فجأة إنهاء المسألة دفعة واحدة. كان يقول لي:/ قرفت يا فاطمة/ لم أعد أحتمل المزيد, لقد تعقد العالم, أصبح عسيرا على فهمي- أنا الذي كنت أعرف كل شاردة وواردة في القرية, كانت المسألة أبسط في الماضي والعالم أصغر: زرع وضرع ومختار. كانت علاقات الناس أوضح / سلم علي فلان بسلم عليه, سب أبوي بسب ستين أبوه,ضربني بضربو وصلى الله وبارك/ فما الذي حصل يا فاطمة حتى صرنا نجلس متفرجين والأطفال يموتون والبيوت تهدم على رؤوس الناس. يتحدثون عن الانحناء أمام العاصفة حتى لا ننكسر, وهل هناك انكسار أكثر من هذا؟ عندما كنت في جيش الإنقاذ قلت لهم ونحن عائدين إننا لم ننقذ شيئا يا جماعة, فقال الضابط حينها هذه جولة, وانسحابنا هذا انسحاب تكتيكي. فقلت في نفسي حينها يا رب مدّ في عمري قليلا حتى أرى التكتيك ينقذ فلسطين , مرت جولات كثيرة ومدّ الله في عمري كثيرا ولا شيء.
عندما دخلوا الى بغداد حدّق طويلا ببصره المنهك في شاشة التلفزيون, رأيت حينها دمعة نادرة تنزل من عينه التي تبقت بعد إحدى المعارك ثم قال:
نادي أحد الأولاد أحس بأن الوقت قد حان
خرجتُ ملهوفة, و لكنني عندما عدتُ بعد دقائق برفقة عمك, كان قد استدار إلى القبلة وغادر.