هبت الريح تحمل رطوبة خانقة.. بدت في الأفق سحب الغبار تدور حول نفسها ترسم دوامات مكفهرة ..
تبتلع الرمال .. تتقدم بسرعة .. ثم تنفث ما ابتلعت حول المعتقل .. تلتف الكثبان حوله .. تحاصره ..
تغيب الدوامات في قلب اللانهاية .. و يرسل الأفق دوامات جديدة .. تحمل المزيد من الكثبان .. الغبار .. و الرطوبة الخانقة .
هاجت الرمال و ماجت .. أظلمت السماء .. و قطبت الصحراء جبينها ..
غابت الكثبان عن أماكنها و عادت تتشكل من جديد .. في مكان جديد .. و بهيئة جديدة .
جمع الرعاة أغنامهم .. نادوا أطفالهم .. و اختفوا في خيامهم المتناثرة هنا و هناك ..
بدت الصحراء مساحة خالية هجرها كل شيء إلا ثورة الرمال .. هدير الرياح .. و وهج الشمس الحارقة .
زمجرت العاصفة و هاجمت المعتقل .. ضربت أسواره .. الأسلاك الشائكة ..
غاب صوت الجرس وسط العاصفة يعلن وقت الفورة .. و برغم الحرارة و الرمال خرج المعتقلون إلى الساحة بخطوات وئيدة ..
كان العرق يسيل على وجوههم .. يتمازج مع دقائق الرمال فيسبب حرقة لاهبة ..
التصقت ثيابهم بأجسادهم .. هاجمهم الغبار .. غطى على البصر .. و تحركت حولهم حشرات الصحراء
بدا عليهم الضيق و الإرهاق.. برغم ذلك تراقصت حلقات متفرقة في أنحاء الساحة يطمئن كل منهم على الآخرين .. ثم ينتقل إلى حلقة أخرى .
دوائر تتشكل .. و سرعان ما تتبعثر للتشكل أخرى .. كسحب الدخان .. أو ككثبان الصحراء التي تحيط بهم .. و التي تشربوا منها معنى الدأب .
دقائق و اجتمعت الحلقات المعتادة .. هنا مساجلة .. هناك حوار .. و في حلقة أخرى درس ديني .. و في غيرها تطرح مواضيع أخرى ..
جذب خالد قاسما و انتحى به جانبا .. جلسا معا .. لطالما كانا معا .. ابنا عم نشأا في بيت واحد .. درسا معا .. قاتلا معا .. و اعتقلا معا ..
كان قاسما غارقا في دوامة من الأفكار .. عيناه تتنقلان بين جدران المعتقل بشرود
أصابعه السمراء تعبث بالرمال .. يرسم عليها أشكالا بلا معنى .. يمسحها .. ثم يرسم أخرى ..
ترفع قبضته القوية بعض الرمل بحنان .. ثم يذرها في الهواء لتهوي إلى الأرض بسرعة مباغتة
شعر خالد بالقلق على صاحبه .. هذا المعتقل غير فيه الكثير .. من لا يعرفه جيدا لن يلاحظ .. عاد يتأمله و القلق يزداد في أعماقه
أخفى قلقه بمهارة و حاول جذب صاحبه من شروده .. دار به في أحاديث شتى .. تناقشا طويلا ..
طرح قاسم قضية نزع السلاح .. هز خالد رأسه باستنكار و تمتم :
انهم يريدون أن يجعلونا فئرانا مذعورة بين مخالب الغول الكبير
تنهد قاسم .. أحنى رأسه قليلا و همس :
ما يؤلمني أن هناك أناس من أبناء جلدتنا يدعون إلى ذلك ..
أيثقون باليهود ؟؟ أتعلم ؟ في بعض الأحيان لا أثق بالمسلم .. أيريدون أن أثق بيهودي ؟؟
زفر خالد بحزن .. اعتدل في جلسته صامتا .. رانت عليهما فترة صمت قصيرة ..
انحنى خالد على أذن قاسم : اقتادوا مازن للتحقيق ..
انتفض قاسم .. نظر إلى خالد بتوتر .. اجتذب صوته من أعماق صدره خافتا مبحوحا و همس : و لم تقل إلا الآن ؟!! من أين عرفت .. و متى كان ذلـ ... ؟
ربت خالد على يده بهدوء و قاطعه : رأيتك مهموما فترددت .. لكن يجب أن تعلموا .. لم أخبر أحدا..
أجال قاسم عينيه في وجه صاحبه .. صرخت أعماقه بأسى لا حدود له .. كلمة واحدة ( الاستجواب ) قد تعني فقدهم لأخيهم ..
أغمض عينيه .. تساءل في أعماقه .. ماذا سيفعلون به ؟ أي جرم سيلصقون بمازن ؟ ماذا .. أفاق من أفكاره على كف خالد تربت على يده بهدوء ..
فتح عينيه .. تلاقت نظراتهما لحظات قبل أن يهمس خالد بتردد : مازن قوي صلب .. لن يجنوا مما يفعلونه إلا نار تأكل قلوبهم الحقيرة ..
هز قاسم رأسه ببطء ثم تمتم بخفوت : ليس الأمر كذلك يا خالد .. فقط ..
صمت بتردد .. فأطرق خالد بحزن .. إنه يفهم .. يعلم أنهم قد لا يرون مازن بعد ذلك .. قد لا يرون أخاهم إلى الأبد
اعتدل قاسم فجأة و هتف : لكن متى ؟ و كيف عرفت أنت ؟
رفع خالد رأسه .. تأمل صاحبه ثوان ثم همس : اليوم صباحا .. رأيتهم من الكوة الداخلية .. نسيها الحارس مفتوحة لدقائق .. و حينها ..
صمت خالد فتنهد قاسم و هم بقول شيء ما .. لكنه ضم شفتيه فجأة و عقد حاجبيه بدهشة و استنكار .. استدار خالد بسرعة ..
رجل هادئ الملامح معتدل القامة .. يقف بزي مدني مع مدير السجن أمام باب مكتب الأخير .. نظر خالد إلى قاسم بتساؤل ..
غمغم قاسم ببضع كلمات خافتة قبل أن ينهض قائلا لخالد : دعنا نذهب إلى حلقة السجال .. أريد أن أتأكد من شيء صغير ..
شعر خالد بالدهشة .. لكنه لحق بابن عمه بهدوء .. انضما إلى الجلسة القريبة من موضع الرجلين
رحب الجميع بهما .. عاد قاسم ينظر إلى الرجلين بتمعن .. اختلس خالد نظرة إلى وجه صاحبه .. مال عليه و همس : أتعرفه ؟؟
منحه قاسم نظرة غامضة قبل أن يعود بعينيه إلى الرجلين .. غمرت الدهشة خالدا .. كاد أن يعلق بشيء إلا أن قاسم همس :
الآن تأكدت .. إنه ثعبان يهودي .. ينفث سمه دوما بهدوء .. و لا تشعر به إلا بعد فوات الأوان .. إنه وغد باقعة .. كيف لم أعرفه منذ البداية ؟
تراجع خالد بدهشة .. أدار عينيه إلى حيث يقف الرجلان و تأمل اليهودي بفضول ..
سأل قاسم بخفوت : ما اسمه ؟؟
قطب قاسم حاجبيه مجيبا : ليفي .. ليفي عازر
ارتفع صوت الجرس بغتة معلنا انتهاء وقت الفورة .. فنهض الجميع إلى زنزاناتهم .. تأمل خالد قاسم و هو يهرع بسرعة إلى الداخل ..
تنهد بقلق و عاد بعينيه إلى الرجلين .. ترى .. أي شر مستطير سيحمل المدعو ليفي إلى المعتقل ؟؟
××××××××××
الريح تضرب الجدران بقسوة و عنف .. و حبات الرمال لم تعدم طريقة تندفع بها إلى تلك الزنزانة لتملأها بالغبار ..
تناثرت الرمال الناعمة على الأرض و بين الشقوق .. دارت خصلات الريح قليلا ثم خمدت أنفاسها بين الجدران الصماء ..
تأملها بشرود .. حتى الريح قتلتها هذه القضبان الفولاذية .. و هم ؟ .. هم أحياء موتى .. هز رأسه كأنه ينفض عنه تلك الأفكار
ماذا يريد المحتل منهم إلا أن يستسلموا لليأس و الإحباط ؟؟
هم أحياء رغما عن أنف الصهاينة .. و إن مات واحد منهم فإن آخر يولد ليحمل الراية و يكمل الطريق
تنهد .. التفت إلى الفتى المريض إلى جواره .. شعر بقبضة باردة تعتصر أعماقه ..
إنه بحاجة إلى الدواء .. إلى ما يساعد جسده على المقاومة ..
و هؤلاء الحقراء يرفضون حتى أن يعطوه جرعة من دواء .. إلى متى سيحتمل ؟
مال رأس عادل قليلا .. سعل بضعف .. شعر محمود بالغيظ يملأ قلبه ..لكن ماذا بيده أن يفعل ؟
زفر بحزن .. ثنى ركبته و أسند ساعده إليها ثم رفع عادلا بين ذراعيه
و أراح الجسد الضئيل المرتجف على صدره القوي بحنان بالغ
شد على كتفه برفق .. تأمل الوجه الفتي الشاحب .. العينين المغمضتين .. الشفتين المنفرجتين ..
شعر بخفقان قلبه يتسارع .. بيديه ترتجفان .. مال و طبع قبلة حانية على جبهة الفتى .. شعر باستعار الحمى يلذع شفتيه
باغته صوت مرتجف يهمس بفزع : محمود .. هل .. ؟
رفع رأسه بسرعة .. اغتصب ابتسامة من بحر آلامه و هز رأسه نافيا مطمئنا ..
أغمض سالم عينيه و تنهد بعمق هامسا بصوت بدا فيه ارتياح العالم كله : الحمد لله .. لقد أفزعتني
عاد محمود يهز رأسه بهدوء قبل أن يسأله : أنتهت الفورة ؟؟
هز سالم رأسه بالإيجاب و اقترب منهما ليتحسس جبهة عادل بقلق .. تراجع هامسا بغضب : يجب أن يعالجوه .. يجب أن يفعلوا ..
أطرق محمود بحزن .. لم يجد شيئا يقوله .. مرة أخرى : ماذا بيدهم أن يفعلوا ؟؟
دخل الجميع .. أولهم قاسم .. كانت ملامحه تشي بالتردد و القلق ..
نهض محمود .. أغرق صاحبه بنظراته الثاقبة ثم انثنى إلى العائدين يسألهم أخبار الرفاق
اجتمعوا إليه .. نفلوا أخبار الجميع و تحياتهم .. سردوا عليه آخر ما جد من أحداث كان يعرف أغلبها ..
استمع طويلا .. ناقشهم في أمور عدة ثم استدار ليعود إلى عادل .. توقف و أخذ يتأمل قاسما ..
كان يريح رأس الفتى على ساعده و يتمتم ببعض كلمات .. انحنى عليه و قبله بحنو .. رفع عينيه ..
اصطدمت نظراته الهائمة بعيني محمود المتسائلتين .. نظر إليه بتوتر ثم بعثر نظراته يمينا و شمالا ..
اتجه محمود إليه .. جلس إلى جواره و همس بهدوء : ما آخر الأخبار ؟
تمتم قاسم بصوت خافت : ألم تحصل عليها من الرفاق ؟؟
هز محمود رأسه بحزم قائلا : أريد الذي لا يعرفه غيرك .. و غير من أخبرك
صمت لحظات قبل أن يخرج صوته حزينا هامسا : اقتادوه للاستجواب
تجمد محمود .. اندفعت أمام عينيه مشاهد كثيرة .. تذكر وجوها مضت إلى تلك الحجرة المظلمة و لم تعد ..
هز رأسه بتوتر محاولا نفض تلك الصور المؤلمة .. تمالك نفسه قليلا و تمتم : من أخبرك ؟ و متى ؟
أجاب قاسم بسرعة : خالد .. خالد الغزاوي .. رآهم من النافذة الداخلية صباح اليوم ..
ران عليهما صمت ثقيل قطعه قاسم هامسا : ماذا الآن ؟ ألا يمكننا فعل شيء ؟
أطرق محمود بحزن هامسا : ماذا الآن ؟؟ لا شيء يا قاسم .. لا شيء .. سننتظر عودته .. إن .. إن عاد
غمغم قاسم بصوت مختنق : ذاك الرجل .. إنه ليفي يا محمود ..
لم يبد على محمود أنه سمعه .. كاد قاسم أن يعيد قوله لولا أن هز محمود رأسه قائلا : لقد عرفته مذ دخل علينا تلك المرة
قطب قاسم حاجبيه و همس : لماذا هو هنا ؟ أخشى أنه وراء ما يحدث لمازن
أدار محمود عينيه ببطء إلى قاسم .. تلاقت نظراتهما .. أعاد محمود جملة قاسم ببطء : وراء ما يحدث لمازن ..
حدق في وجهه صاحبه متمتما : علينا أن نحذر يا قاسم .. أن نحذر كثيرا .. الثعبان بيننا
تنهد قاسم و هز رأسه موافقا ثم نهض إلى حيث يجلس سالم .. تابعه محمود ببصره قليلا ثم التفت إلى عادل ..
ارتسمت ابتسامة حانية على وجهه عانقتها نظرات عادل المرهقة ..
لقد أفاق الفتى .
××××××××××
الريح الهائجة .. الرمال المتطايرة .. هتفت أعماقه بعتاب : أي ألم حملته أيتها العاصفة بين صفعاتك الغادرة ؟
لماذا لا تكتفي عواصف الصحراء بالرمال ؟ لماذا تعشق دواماتها حمل الألم ؟
هاجت في أعماقه أفكار شتى .. أشاح عن نافذته الصغيرة ..
أي نجمة تلك التي ستخرج من قبتها لتعانق عينيه في ليلة كهذه ؟
أي نجمة يستطيع لمعانها أن يمحو شيئا من الأحزان المتعانقة بين جدران هذه الزنزانة
طاف بنظراته في العتمة المختلطة بأنفاس المجاهدين و أفكار الأسرى .. و أحلام الإنسان ..
بحثت عيناه عن محمود .. رآه في الزاوية المقابلة .. أحس في جلسته بشرود حزين ..
أي شيء جد يا ترى ؟؟ أعلم محمود بالخبر ؟؟ و لكن كيف ؟؟
عاد بعينيه إلى الرمال يسألها إجابة سؤال يحيره و يقلقه كثيرا ..
شعر بمن يتحرك إلى جواره .. رفع عينيه .. تمتم متسائلا : ماذا هناك يا قاسم ؟
تنهد قاسم و همس : ليفي هنا ..
انتفض سالم .. اكتست نظراته برغبة في عدم التصديق .. لم يعرف ليفي يوما .. لكن ما سمعه عنه يكفي ليثير في أعماقه كل القلق .. والخوف
عاد قاسم يهمس بألم : و مازن .. اقتيد للاستجواب
تراجع سالم بحركة حادة .. شعر بقلبه ينتفض و ينتفض .. بفمه جف .. و بالزمن توقف من حوله .. خرج صوته مختنقا هامسا :
مازن ؟؟ لا .. يا إلهي .. ألا يكفيه كل ما حدث ؟
حدق قاسم في وجه صاحبه بتوتر ثم همس : ماذا حدث ؟؟
أطرق سالم بحزن هامسا بتردد : أنا آسف .. لم أخبركم .. لقد .. لقد توفت أم مازن أول أمس
شعر قاسم كأنه في قلب دوامة من الدوامات التي تضرب الجدران حوله .. تسارعت نبضات قلبه .. شعر بدمعة تحاول جاهدة القفز إلى عينيه
أمسك بكتف سالم بغتة هاتفا : لمَ لم تقل من قبل يا سالم ؟ لم ؟
أشاح سالم بوجهه في مرارة و أطرق قاسم بحزن .. نبض قلباهما بكلمة واحدة : رحماك يا رب
××××××××××
يتبع بإذن الله
تحياتي
غموض