أندهش لأنني لا أجد اليوم في عالمنا العربي مدنا متميزة..
كانت المدن الصغيرة تبقي على روح معمار سوريا والأندلس ..
وتحافظ على تلك العلاقة الحميمية الرائعة بين جار وجار..
وتجعل من الجار قريبا ..
ومن عابر السبيل في الدرب أخا زائرا..
كانت جارتي التي اعتبرتها فيما مضى أما ثانية تحرصنا عند غياب أمي عن بيتنا في الدرب العتيق..
كانت تراقب سلوكنا ..ترسل وابل انتقادها إذا أخطأنا.. تضربنا إن اقتضى التهديب ذلك..
وكانت البلدة التي نسكنها تحاط بها السواقي، والأغراس.. تتوج كل فصل شتاء ببياض لباس كالعروس..
وكانت البلدة صغيرة كأنها بيت لنا نسكنه، ولا يجهل أحد فردا فيه..
كانت تضج بالحب .. بالتعاون.. كنا نحب بعض .. لم نكن نعرف أبدا مناورات أهل المدن الكبرى..
ولا نعرف معنى للحيل والمكائد والكذب.. كنا ربما نكذب ونمارس حيلا لكن ليس قصد الإضرار بالغير..
لم نكن نعرف كيف نضخم من ذواتنا ونجعل الآخرين دوننا قيمة.. لم نكن نعرف فرقا بين الفقير والغني،
كان الفقر والغنى لايظهر على الوجوه، ولا نتعرف عليه في التعامل بين أهل بلدتنا.. كنا نسكن منازل جماعية.. غرف تطل الواحدة على الأخرى..كنا إخوة.. كذلك شاءت الهندسة المعمارية للعيش الجماعي أن نكون..
ولنتوقف لتأمل هذه الهندسة المعمارية التي اكتملت أسسها باكتمال الفتوحات الإسلامية..
ما الذي يميزها عن الهندسة المعمارية لدى أهل الصين ،أهل أوروبا وأمريكا؟
لنبدأ بالحومة حومة بلدتي، ماهي مكوناتها مماذا تتكون؟
سأجيب كتلميذ في القسم الإبتدائي، فاجأه معلمه بسؤال عن مكونات حومته، وبما ان السؤال لم يكن واضحا، فقد سأل معلمه قائلا:" أسي.. هل تعني بالسؤال ما هو عدد المنازل التي توجد في الحومة؟ "
طبعا المعلم لا يسعى إلى معرفة عدد المنازل التي توجد بالحومة، لأن هذا الأمر موكول لخبراء الإحصاء. فما هي المكونات التي تشكل حومة في مدينة مثل بلدتي أهلها من المسلمين؟
أجاب أحد التلاميذ عندما توضح السؤال قائلا:" بما أن الحومة أهلها مسلمين فإن ما يحتاجه المسلم في حومته هو المسجد أليس كذلك؟
رفع تلميذ آخر يده مستئذنا ليضيف شيئا فقال:" وبما أن المسلم يرفع شعار " النظافة من الإيمان" فإن جنب المسجد أو قريبا منه أو بعيدا عنه يوجد حمام".
ثم توالت الإجابات المتعددة والمختلفة حول موضوع مكونات الحومة، وهي أجوبة كانت تنطلق من التذكير بما للدين من أثر على وجود شكل ومكونات المعمار في الحومة التي هي جزء لا يتجزأمن روح البلدة.لكن أحد التلاميذ من الذين لم تكن أيديهم قد ارتفعت بعد بالإجابة بادر المعلم بسؤال قائلا:" أسي ..كنا في سن السادسة والسابعة نقرأ في الكتاب، وكان قريبا من منزلنا، وكان أبي يجتمع بالأحبة من المصلين قرب باب المسجد، أو داخل المسجد، ولم تكن أبوابه تغلق كما نشاهد اليوم..فلماذا تغلق أبواب المساجد مباشرة بعد الصلاة؟
تدخل آخر قائلا:" كانت أمي إذا رافقت أبي عند السفر إلى مدينة بعيدة ولم يكن لهما بتلك المدينة أهل .. ينامان داخل الزاوية وهي مقر للضيافة ملحقة بالمسجد".
ومد تليمذ- كانت تبدو على ملامحه علامة الحزن- يده مصمما على المشاركة مادام الكل قد عبر عن رأيه، لم يشأ أن يصبح شخصا تشار إليه الأصابع، ويتهم بالكسل فأضاف قائلا: " إن أمي تخرج كل يوم جمعة إلى المقبرة ..وقبل زيارة قبر أبي الذي مات منذ سنة، تشتري الريحان، وتحمله معها لتنثره على قبره، كان أبي رحمه الله رجلا لطيفا يحب أمي ويسمح لها بالذهاب إلى السوق لأنها كانت تعرف كيف تتغلب على تجار الخضر والفواكه..".
نظر المعلم إلى ساعته ثم رفع يده هو الآخر وقال وعلى ملامحه تبدو علامات الرضى:" الآن قد عرفنا مماذا تتكون حومتنا أليس كذلك؟ فمن يلخص ما دار بينا من نقاش محددا الأسس التي تعتمد عليها حومتنا، والغاية من وجودها؟
من مسجد.. حمام .. كتاب..زاوية ..مقبرة.. سوق..؟
الإسلام ضد الفردانية، وإن كان يدافع عن الحرية الشخصية!