لي وقفة متأنية مع فنان كبير وصل إلى العالمية بجهد شخصي كبير ، وبعصامية نادرة ، وبفهم عميق لمفهوم المعاصرة .
إنه الفنان محمد رزق ، الذي اشتهر بعاشق النحاس .
ولد محمد رزق بقرية سيف الدين ، مركز كفر سعد ، محافظة دمياط ، مصر ، عام 1937، فهو من نفس محافظتي .
بدأ حياته بكتابة القصة والشعر ، والعزف على الناي ، وقد بدأت قصته مع الفن التشكيلي حينما التحق بالعمل بشركة الحديد والصلب في عام 1959 حيث بدأ اهتمامه بالمعادن .
بمزيد من التأمل المرهف لها ، حيث وجد فيها ضالته المنشودة .
بهرته خامة النحاس الثرية القاسية فوقع أسيرا لها ، حتى اتخذ قراره الحاسم بالاستقالة من العمل ، والتفرغ لمعشوقته ، وكان ذلك عام 1969.
زرت معرضا له في مصيف رأس البر منذ سنوات قلائل ، فكتبت عنه مطولا ، وطالبت عبر جريدة شهيرة هي " الأهرام " أن يسهم هذا الفنان في إثراء البعد الجمالي بمسقط رأسه ، وقد تبنى الدكتور عبد العظيم مرسي وزير محافظ الاقليم آنذاك الفكرة ، ورعى المعرض السابع عشر له ، والذي أقيم على هامش الملتقى الثقافي الأول لمحافظة دمياط، وقد أقيم بالقاعة الخضراء برأس البر .
للفنان ملامحه الفنية التي تتجلى في السيطرة على الخامة ، وقدرته الفذة على بعث الروح في ثنايا العمل فتشعر بأحاسيس أرادها المثال حيث تجد المشاعر الانسانية تتسلل إلى الخامة الصلبة القاسية فتطبعها بطابعها من رقة أو حزن أو غضب ، وغير ذلك من مشاعر متقلبة يلمحها الفنان بثاقب بصيرته .
يحول محمد رزق النحاس الصامت المحايد إلى مادة للدهشة وللتأمل ، والكشف عن طاقة فنية للتعبير عن مختلف المشاعر التي تموج بها نفس الإنسان .
أنظر إليه وهو يطرق النحاس ليشكل لك فرسا جامحا لا حد لانطلاقته ، بكل ما يحمله الفرس من جموح ، وتمرد ونفور من كل قيد ، ثم المحه يصور الفلاحة المصرية برقة تكاد تذوب لها المادة الصلبة ، فلدي رزق قدرة بالغة على أن يتحول الشكل إلى ترددات للسلاسة والنعومة والانسيابية سواء فى منحنيات الثوب أو تموج شعر المرأة حتى تخالها امرأة من لحم ودم .
لا يكتفي رزق بذلك بل يستفيد من قيمة استلهام التراث الفرعوني ، حيث رسوخ الكتلة وتعانقها مع فراغ سماوي مفتوح على رحابة الأفق .
كأن المفردات التي يستقيها من الواقع ما زالت على صلة قوية بمجالها الحيوي عبر اللفتة ، واللمحة ، والإشارة ، والإيماءة ، وهذه من أسرار الصنعة لدى هذا الفنان الكبير .
لاحظ وجه الفلاح المصري المطروق بالنحاس ستبهر لأن نظرة الاصرار والتحدي المفعمة بقيمة الإيمان بالقضاء والقدر تواجهك في انكسارات وسطوع الضوء بنسب غاية في الدقة ، حتى أنك لتشعر أن هذا الوجه الهضيم هو الفلاح الفصيح وقد ابتعث من " أهناسيا " وجاء ليقدم شكواه للحاكم العادل .
المرأة حاضرة على الدوام بجمال ورقة مع انسياب الخطوط ، وبروز النهدين ، وثمة ميل خفيف لرنة مرح عابرة تلمسها في القلة الفخارية التي ترتكن على كف ، مع تطويحة الجسد الممشوق للخلف في دلال وتمنع .
لعبة الاتزان يجيدها الفنان مع موضوعه ، ومع موتيفات شعبية تتكرر في زخرفة موضوعية ، خاصة مع العناصر الشعبية مثل إناء الخزف ، المصباح نمرة 10 ، وضع البلاص مائلا على الرأس وهي مفردات حملها الفنان من بيئته ، بالتحديد من مسقط رأسه بسيف الدين ، ووظفها بفهم ومهارة واقتدار فني يحسد عليه .
" التحطيب " لعبة الصعيد الأولى تتكرر بمعالجات مختلفة ، وهنا ستلاحظ تناغم الجسد الانساني في ليونته ، مع إيقاع خطو الحصان في شموخه ، بحيث لا يمكنك أن تفصل الجسد الانساني عما عداه فقد تحول إلى ضفيرة واحدة لا تنفصم .
عازفات الكمان ، والناي ، والتشيللو تسللت إلى أعمال رزق ، فهو يستعيد هواية العزف القديمة التي هجرها بعزفه الصعب على النحاس ، وهو يلخص ويحذف ويتقدم خطوة في اتجاه التعبيرية ، واختلال النسب ، إضافة إلى امتزاج وحدات بشرية مع وحدات أخرى مادية دون ان تشعر بالجفاء أو النفور .
للنيل نصيب كبير في أعمال محمد رزق ، فهو مفتاح الحياة في مصر القديمة والمعاصرة ، لكنه قد يتحول مع نقوش ولمسات وطرقات الفنان إلى وحدة مكانية تسفر عن خصوصيتها الجمالية ، حين يزاوج المشهد بين سموق النخيل في الخلفية ، وانسياب الزي الفلاحي كغلالات من ضوء في المقدمة ، فيما يكون سطح الماء هو همزة الوصل بين هذا وذاك . وحتى منظر النيل لا يخلو من مفردة الحصان التي تتردد كوحدة تتحرك باتجاه العمق بنفس زخمها الملتصق بفكرة الشهامة والبطولة .
لا يمكنني أن أغادر هذه الاطلالة النقدية قبل أن أهمس في أذن المتلقي أن محمد رزق محــدّث بارع ، وحكاء من الطراز الأول ، وحدث أن أجريت معه حوارا قبل خمس سنوات ، لحساب صحيفة عربية ، وللأسف لم ينشر رغم أنه امتلأ بذكريات حميمة تكشف عن أهمية أن يجدد الفنان أدواته ، وضرورة أن يغير مراحله الفنية دون أن يستسلم لقولبة الشكل أو جمود الفكرة .
.....................
في لوحة التحطيب .. أبرز لعبة شعبية في صعيد مصر ، وهي تمتد إلى مرحلة متقدمة من تاريخ الفراعنة العظام .
التحطيب ليست لعبة للتسلية أو إذكاء الوقت بقدر ماهي لعبة فروسية ، وتدريب على الشجاعة ، والقدرة على التحمل ، واحترام الخصم .
وقد التقطها الفنان محمد رزق بكل ما تحمله من شرف وفروسية وشموخ ليعبر من خلال النحاس عن كل هذه المعاني .
لا حظ سموق الخصمين ، وكبرياء الفرس ، فالفارس لا يقل شجاعة عن فرسه ، بل يزيد عنه باللمسة الانسانية الخالدة .
ولا شك أن اختيار الفنان لموضوعه لم يأت من فراغ بل جاء نتيجة تفكير واستبصار !
...................
الحصان ذلك الكائن الذي يجمع بين الأسطورة والواقع هو من أهم الموضوعات العربية التي التصقت بتاريخنا القومي ، وتثير داخلنا كل مشاعر العزة والشموخ . .
وهاهو الفنان محمد رزق يحاول أن يقدم " تفصيلة " حية للحصان باختياره الرأس المعرفة ، وهنا يبرع في تجسيد الحرية والانطلاق ، والجموح ، بقدر كبير من الليونة ، والانسيابية ، متجاوزا المادة بصلابتها وبرودتها ليثير فينا الاحساس بالدفء ، والشموخ .
لا حظ أن رزق ينتمي إلى قرية " سيف الدين " وهي من قرى شمال مصر .
لا يكل الفنان ولا يمل في الكشف عن أساليب جديدة للتعامل مع مادته . وهو هنا يتجه إلى التجريد دون أن يتخلى عن سماته الأساسية من انسيابية الشكل ، وانطلاق الشحنة من خلال المادة النحاسية ، ضف إلى ذلك إحساسه المستمر بالتجاوب الحميم مع المادة التي عشقها ، فأضاف إليها ، وأضافت إليه .
" في السوق " .. لا شك أن القرية المصرية تمثل مخزونا هائلا للفنان ، وهو هنا يستفيد من التراث الفرعوني عبر استخدام ال" بروفيل الجانبي " ، وكذلك التعبير عن إحساس الفرد بالطمأنينة داخل الجماعة ، وثمة مفردات منها : حزم القش ، والسقيفة ، والديك الرومي ، ولاحظ أن القرويات اللائي يسرن في خلفية المشهد يكملن هذا القدر من المشهدية التي تميز تلك اللوحة .
يقدم الفنان كل ذلك بنوع من التجاوب العميق لما وراء المشهد من ذكريات حميمة تعيده إلى طفولته البعيدة .
العامل وهو يطرق الحديد . هنا روح الفنان االذي يمثل الثقة والإصرار .
كأن من يقوم بالطرق هنا هو الفنان نفسه " محمد رزق " ..
ولا شك أن التكوين الرأسي للجسد الإنساني تعامد مع التشكيل الأفقي في تناغم فريد ينقل لنا شحنة التوتر..
أريد ان اتوقف قليلا امام هذه اللوحة الساحرة ..
البنات الريفيات ..
لاحظ ان الفنان رغم انه يطرق على النحاس إلا ان روح الفتنة حاضرة ..
الرقة والجمال تسري في اللوحة ..
ثلاث بنات ريفيات يسرن في دلال ..
ذاهبات إلى الترعة ليملأن جرارهن بالماء ..
من الترعة حيث الخضرة تطل عليهن وتمنحهن هذا الخفر البديع .
البنت الأولى هي الأطول ،
وبيدها قلة تعطي الطرف الأيمن انسيابية .
البنت الوسطى ضحكتها صاخبة ..
بأعين مفنجلة لا تخشى أحدا ..
اما البنت الثالثة على اليسار فهي تطرق في حياء ..
طيعة هي الخامة في يد محمد رزق ..
والثلاثة ثابتة في التراث الشعبي العريق ..
بنات قرويات ولكن لهن رنة خلخال تصدح في طرقات القرية .
والجمال لا يخفى في عجين لدن أو نحاس مطروق ..
وسبحان من وهب النسوة الجمال والدلال والريق الحلال !
الفنان محمد رزق له قدرات متعددة في التفاعل مع المادة الصلبة . أنظر إلى العصفور هنا وكيف تحورت أعضاؤه.. عاشق النحاس الذي حول المادة الصلبة إلى مادة طيعة للتعبير الفني ، نبغ في تصوير كل مفردات الطبيعة . وتراه قد أضفى عليها شيئا من سحر الخيال . فكل أعماله بدون استثناء يهيمن عليها الاحساس القوي بالجمال ، وانسياب الخطوط ، وعنفوان التجربة .
أقام محمد رزق أكثر من 17 معرضا فنيا داخل مصر وخارجها ،كما أقام سلسلة معارض خاصة مرافقا لمعرض رمسيس الثاني في خمس ولايات امريكية ، هي :
ـ متحف التاريخ الطبيعي بمدينة دنفر عام 1987.
ـ متحف التاريخ الطبيعي بمدينة بوسطون عام 1988 .
ـ متحف منت بمدينة شارلوت عام 1989 .
ـ مدينة هاي بوينت بولاية نورث كارولاينا 1990 .
ـ متحف التاريخ الطبيعي بمدينة دالاس عام 1991.
إضافة إلى كل ما سبق فإن أعماله تزين أهم الفنادق والأماكن بمصر من فنادق مثل هيلتون وإيتاب وميريديان ، ومستشفيات مثل السلام ، وبنوك مثل البنك السويسري وبنك تنمية الصادرات ، وشركات مثل الحديد والصلب بحلوان والدخيلة والنصر للسيارات ، ودور صحف كالأهرام .
جدير بالذكر أن محمد رزق قد حصل على جائزة وزارة الثقافة التشجيعية عام 1962، وقام المركز القومي للأفلام التسجيلية بإنتاج فيلم تسجيلي عنه عام 1982، كما قامت قناة النيل الفضائية بإنتاج فيلم تسجيلي عن أعماله عام 1997.
وقد مثل مصر في معارض كثيرة نذكر منها :
ـ معرض الفن المعاصر بباريس عام 1968.
ـ معرض الفن المصري المعاصر ببروكسل عام 1976.
ـ معرض الجامعة العربية ببيروت عام 1986.
تحية إلى الفنان الكبير محمد رزق الذي تحدث بجمال مشرق وعبر تفاهم حي وحميم مع النحاس .ونظرة قريبة أخرى مع فنان ىخر .