سرى((أيتها العروس اتركي عملك وأنصتي فقد اقبل الضيف..أ تسمعين ..؟
انه يهز في رفق الكتيفة التي يوصد بها الباب..حذار من أن تعلو وسوسة خلخالك، حذار من أن تسرف خطاك في تعجلها إلى لقياه..أيتها العروس ذري عملك فقد اقبل الضيف في المساء...)).
كانت هذه الصلاة هي ما تبدأ بها كل يوم رحلتها النهارية..وفي المساء تعود لترتلها على أسماع ذاتها..التي كانت تقف صامته.. مندهشة.. من خشوعها وهي تقدم صلاتها.
لم تكن تعلم أبداً أن القدر جبار..وان البشرية سائرة بلا هوادة الى حتف إنسانيتها.. لم تكن تدرك أن القدر جبار سوطه من لهيب لا يرحم..لا يفرق بين الانسانة التي عطائها يفوق سوطه..ومن الإنسان الذي يمص الدم حتى من سوطه.
خرجت بعد أن قدمت صلاتها..عند الباب التفتت إلى صورة لأبيها على الجدار القريب منه.. قد تعمدت وضع الصورة هناك لأنها كانت تستمد من ذكرى أبيها كل صور العطاء والحب والنقاء...حيث ما أن تلتقي عيناها بلحيته البيضاء حتى تدمع وتتمتم متى الحق بك لارتاح...كان والدها الذي توفي اثر نوبة قلبية بعدما سمع نبأ مقتل ابنه الوحيد على يد عصابة نهب استغلت الظرف السيئ الذي يمر به البلد..فقامت تنهب وتسلب وتقتل...ذا مركز ديني مرموق في الحي الذي يعيش فيه..كان معروفا عنه.. يصلي في جماعة ويصوم ويتصدق ولا يرد المحتاج..كان عمره قد تجاوز الخامسة والستين..لحيته البيضاء كانت تضيف لوجه الأبيض هيبة.. ملامحه الصادقة التي يعتريها حزن مبطن لفقدانه شريكة حياته في سن مبكرة تجعل من النظر اليه وجها لوجه أمر في غاية الصعوبة..ابنه الوحيد هيثم كان قد تجاوز السابعة والعشرون عندما واجهته تلك العصابة بسمومها، حيث هو الآخر كان متزنا ذا أخلاق عالية وقد تخرج قبل سنوات من كلية الهندسة وظل يعمل بعد التخرج في مديرية الطرق والجسور دون أن يستقل بالعمل في مكتب خاص لأن والده كان يريد من أولاده جميعا ان يخدموا في المؤسسات الحكومية خدمة منهم لبلدهم وكأنه كان يرد الجميل للأرض التي ولد عليها ولو بشيء بسيط..وعندما قتلته العصابة بكت الإنسانية رحيله لتفانيه في عمله وفي عمل الخير..كان وحيدا بين ثلاثة أخوات أصغرهن قد تجاوز عمرها إحدى عشرة سنة حيث بولادتها توفت الأم.
الكبرى والتي عليها يدور محور قصتنا هذه..هي سرى جميلة هادئة تخرجت قبل سنتين من كلية الإدارة والاقتصاد قسم المحاسبة..ولكفاءتها تعينت في مديرية التربية..اما نهى فقد كانت في سنتها الأخيرة من كلية الآداب قسم اللغة العربية...وهي الأخرى كانت جميلة متزنة.. بارعة في مجال دراستها...والصغيرة واسمها فيان تيمنا بصديقة أختها الكبيرة..حيث كانت فيان مع عائلتها يسكنون بجوارهم...وعاشوا معا حياة جميلة قبل أن يضطر أهل فيان الرحيل لأسباب عرقية.. وعندما ولدت فيان رحلت فيان الأخرى فسمتها باسمها..تخليدا لذكراهم الطيبة.
كانت سرى تملك لها نصيبا كبيرا من المحبة في قلب والدها.. لذا كانت تحضي باهتمام ومتابعة الوالد باستمرار مع انه يوما لم يهمل لا نهى ولا فيان.. لكن بحكم تخرج سرى وعملها فان الوالد كان يعرف تماما بأنها تعيش في خطر دائم لان الظروف التي آلت إليها البلد لا تبشر بخير أبدا...لكن بعد مقتل الابن..لحق به..فترك سرى أمام أصعب مهمة في حياتها وهي اعالت بيت قوامه ثلاثة أشخاص والثلاثة بنات..حيث لارجل يحميهم من ظلم الأقدار التي تأتي بعدها لتنحر كل مقومات الفرحة في هذا البيت.
سرى تكفلت بأختيها وظلت تعمل وتهتم بهما..لم يكن اعتمادها بالطبع على ما تجنيه من عملها لان الرواتب في بلدنا لا تعيل إنما فقط تديم..لكن لان أوضاعهم كانت جيدة حيث ترك والدها وراءه محلات كان إيجارها كفيلا مع راتبها أن تجعلهم لا يحتاجون ولا يمدون يد.
تكفلت الأيام بجعل سرى أن تنضج أكثر فتكون نسخة من أبيها وأخيها.. حيث ذاع صيت طيبتها وكفاحها ... وأخلاقها وتصرفاتها المتزنة... خاصة في دائرتها..كانت لاترد أي شخص يطلب مساعدتها..بل أحيانا كانت تخرج من غرفتها وتأخذ معاملات البعض خاصة إذا وجدتهم فقراء وتتجول بين الغرف الى ان تنهي تلك المعاملة فتجنبهم على الأقل ويلات الروتين الإداري.. كان الجميع يحمدونها ويدعون لها.. أصبح البعض يذهب خصيصا لرؤيتها...وهكذا درات الأيام وهي تقدم الخير وتفعل المستحيل من اجل الآخرين ...كانت مرتاحة وكانت تقول إذا أنا لم أقدم لأحد المساعدة لااستطيع النوم واظل أتعذب...وووووووو.؟
وإثناء ذلك تخرجت نهى وأصبحت هي الأخرى موظفة تعمل في السلك نفسه اقصد سلك التربية ولكن كمدرسة..اما فيان فكان الزمن في صراع معها لأصابتها بمرض مزمن حيث ظلت تكافح وتبذل جهدها لتستمر ولكي لا تضيف موتا آخرا على صفحات هذا البيت وبالأخص صفحات حياة امها الثانية سرى.. لكن دائما للقدر كلمته التي تفوق كل ألاماني وكل الاحتمالات وكل الأهوال فلم يرحمها ولم يرحم سرى ولا حتى نهى..ففي مساء احد الأيام شحب وجهها فأخذت تخفي نفسها عن أختيها ودخلت غرفتها وهناك دون ان يراها احد ضاق تنفسها لحد ان انقطع فودعت سرى في أعماقها وقبلت نهى في ذاتها..وابتسمت لامها لأخيها لوالدها..ولم تشعر بها الأختان إلا بعد أن أعدا العشاء فذهبت سرى تناديها لكنها لم تجد سوى جثتها وهي مبتسمة فانهارت وعندما تاخرت جاءت نهى لتجد احدهن فارقت الحياة والأخرى قد أغمي عليها..فصاحت وناحت واستغاثت ولم تجد إلا رجلا عجوزا كان يسكن بجوارهم يلبي استغاثتها.. وبعدها بلحظات التم رجال الحي وتذكروا بعد دهر طيبات الرجل الطيب الذي غادرهم قبل سنوات..فاخذوا الصغيرة لدفنها والكبيرة لمستشفى قريبة..استفاقت سرى وهي في غير مكانها الصحيح صاحت أرجوكم أعيدوني..فأعادوها ولكنها لم تجد سوى نهى..ارتمت نهى بين أحضانها وكان لبكائهما صوت آخر خفي لا يسمعه إلا من قتلت الأقدار فيه كل منبعث للحياة.. توالت عليهما الايام سرى تجاوزت الان سنتها الثلاثين ولم تتزوج..الناس ألسنتهم لاترحم..مع ايمانهم أنها أنقى من نقاء الملائكة أنفسهم..ونهى كانت على ابواب عامها السابع والعشرين..وقد ابتسم لها الحظ فتقدم لها احد زملائها في الوظيفة وبعد اقل من شهر تزوجت بالطبع بعد مرور اكثر من سنة ونصف على وفاة أختها..واطمأنت سرى على مصير اختها بل اصبح لها سند تسند ظهرها عليه بعد كد وعناء لا منتهي..عاش زوج الأخت معهم في بيتهم لأنه لم يكن بالأماكن ترك سرى لوحدها.. وهكذا وكأن القدر غفل لبعض الوقت عنهم فأخذت سرى تعتاد على نمط جديد من الحياة حيث سخرت حياتها لخدمة الآخرين..دون جزاء..لكن السنة الناس.. سرى كبرت..سرى لحد الان لم تتزوج.. سرى هل تنتظر شخصا..هل...هل...؟؟؟؟
سرى ظلت مستمرة دون ان تبالي لان ما تفعله من اجل الإنسانية كفيل بان يسكت تلك الالسنة...وظلت لا تنسى صلاتها اليومية فقد كانت تقدمها كل صباح ومساء..وذات يوم بينما هي في غرفتها تعمل دخل عليها رجل كبير السن من ملامحه يدرك المرء بان الأقدار قد أنهت ما فيه من حياة..يطلب منها مساعدته فلبت وأنهت معاملته..خرج الرجل يدعوا لها..وقبل ان يصل الى باب الغرفة التفت الرجل اليها وقال كانت زوجتي تتمنى رؤيتك فابتسمت له وقالت عساني أراها ذات يوم...انتصف النهار وبدأ الجميع يتهيأ للخروج واعدت هي نفسها للخروج...أخذت حقيبتها وما ان وصلت الى الباب الأمامي للبناية وجدت صبيا في الخامسة عشرة من عمره واقف امام الباب وكأنه يتسول..تذكرت وجه اختها عندما كانت في سنه.. فرقت لحاله واتجهت اليه تسأله عن حاجته..فقال بجفن مكسور...انا أتسول لان أمي مريضة بالسرطان وتحتاج المال لشراء الأدوية... وقعت تلك الكلمات على نفسها كصاعقة مميتة..دمعت عيناها.. مسحت ادمعها..قال الصبي سيدتي لم اقل عنك شيئا فلماذا تبكين..؟
قالت..لاباس صغيري... أين والدك..قال انه فراش لمدرسة مجاورة لبيتنا..كان هنا قبل لحظات وقد رايته...قالت اين بيتكم هل هو في هذه المنطقة..ام هو بعيد..وان كان بعيدا كيف اتيت الى هنا لوحدك..؟
رد نعم انه قريب جدا من هنا...فقالت خذني إلى أمك...كان زملائها ينتظرونها..لكنها لوحت لهم بان يذهبوا..فرحل الآخرون .. وذهبت هي معه الى بيتهم... كان البيت غرفة واحدة مبنية من الطين..ومطبخ صغير..أقول مطبخ انه مكان صغير جدا معد بطريقة بدائية جدا لاعداد الطعام..اقول الطعام....انه فقط ما يجعلهم لا يموتون جوعا..و........دخل الفتى يصيح ماما ماما هذه المرأة تريد ان تراك...دخلت الغرفة ووجدت الام طريحة الفراش..فراش معد على الأرض..وجهها شاحب وكأنه بلا دم...صوتها مبحوح...انها بصراحة على عتبة القبر...ابتسمت لها سرى.. وأرادت المراة أن تنهض لاستقبالها..لكن سرى منعتها..فرحبت بها وهي طريحة فراشها..بعد سؤال وجواب.. قالت سرى بماذا يمكنني ان أساعدك ..دمعت عينا الام..وقالت أنت أول إنسان يدخل علينا ويريد ان يقدم لنا خدمة...المهم انتهى اللقاء وقد دست سرى مبلغا من المال ..هل أقول مبلغا..لا..بل ثلاثة أرباع راتبها..تحت وسادة الام وهمت بالخرج فأمسكت الام بيدها وقبلته..وبكت فبكت هي الأخرى معها..وأمام الباب قبلت الصبي..وقالت له اهتم بأمك ولا تخرج من البيت...خطوات قليلة وكان ذلك الرجل الذي رأته في الدائرة واقف امامها..ابتسم الرجل وقال استجاب الله لدعوتها ..ودعته وخرجت ..كان البيت يقع في زقاق ضيق..وما ان وصلت الى منتصف الزقاق..( حتى هجم عليها مجموعة من الملثمين..وجروها الى دار قديمة قريبة في ذلك الزقاق..حيث تلك الأزقة تمتلئ بمثل هذه البيوت التي استغلها بعض ضعفاء النفوس لتحقيق رغبات غير إنسانية في أماكن هي الأقرب بكل المقاييس إلى الإنسانية الحقيقة.. هناك في مثل هذه الأزقة دائما تجد عنفا مبطنا..عنفا غرسته الأقدار في نفوس أهاليها..لكنه عنف غير مؤذي لأنه لا يتعدى كونه شعور يداهم أعماقهم كلما زاد القدر من ظلمه وجبروته عليهم..لكن لان تلك الأزقة تمتلك صفة قدرية مزمنة وهي الفقر ..ولان الفقراء دائما هم من يتم استغلالهم من قبل الآخرين الطامحين للسلطة والمال..فانها تظل في نظر الساسة على الأقل منبعا للتمرد..اي تمرد كان حتى وان كان تمردا ذاتيا اقصد مجرد كلمات رفض وشكوى... لذلك تجد اللعنات دائما تصب على أزقة هولاء الفقراء... ومن البديهي جدا ان يقوم أصحاب الرغبات والطموح للوصول الى السلطة والمال باستغلال هذه الأزقة لتحقيق مآربهم الشخصية دون مبالاة بما قد يصيب الآخرين...وهكذا يولد العنف نظرة سلبية على تلك الأزقة مع ان الاصل في العنف هو ما ينبثق من أحياء اخرى اهلها يمتلكون الرغبة والطموح وبالطبع المال..).
حاولت ان تقاوم..صرخت..استغاثت.. لكنها فشلت..بعدما ادخلوها البيت وفتحوا حقيبتها..لم يجدوا إلا مبلغا صغيرا من المال.. ولاشيء اخر سوى هويتها.. سألوها عن اهلها ..فردت بجفن مكسور انا اعيل عائلتي..فخاب ظنهم بها..لأنهم أرادوا طلب فدية من اهلها.. فتشاوروا..واستقر رأيهم على الاستمتاع بوجودها في ضيافتهم.. واغتصبوها..وووووووو.. وبعدها رموها على إحدى الأرصفة القريبة..الغريب في هذه الأزقة قبل كانت مليئة بالأطفال..حيث كنت تجدهم بالعشرات وهم يصيحون ويلعبون..ولكنهم الآن يكتفون بالنظر من خلال شبابيك صغيرة تطل على عتمة تلك الأزقة دون النزول إليها....عندما استفاقت ..صاحت وبكت.. وصرخت...ربي كنت اتيت لأساعدها هي المريضة...كنت أقدم العون ..فهل جزاء عطائي شرفي...وظلت تنوح دون جدوى لا احد لبى النداء..لا..أهل الأرض ولا حتى اهل السماء..كانت مع نفسها تردد هل هذا هو جزاء الإحسان..مغتصبيها كانوا قد فروا حينها.. لكن الأقدار ارادتها ان تبقى لتتجرع المزيد من الألم..خرجت من الزقاق كمجنونة وتحملت نظرات الناس ونمنماتهم..حتى وصلت الى البيت..دخلت مباشرة الى المطبخ أخذت سكينا.. وتوجهت للحمام..دخلته دون ان تغلق ورائها الباب قطعت إحدى شرايينها..نحرت نفسها..ومن صنيع القدر نفسه ان اختها وزوجها كانا قد خرجا لبيت أهل الزوج..وقد تأخرا بحدود أكثر من اربعة ساعات وخمس وثلاثين دقيقة.. وكان هذا الوقت كفيلا بان تخضب دمها نصب صانع الأقدار... نحرت نفسها وقدمت دمها قربانا لصانع الاقدار..الذي لم يرحمها...وبنحرها لنفسها انتهت رحلة تلك الفتاة التي ظلت تؤمن بالعطاء وتقديم المساعدة ولا ترد أحدا.....واصبح الناس بعدها يقولون عنها بانها كانت تحب شابا وانتظرته لهذا لم تتزوج لحد الان.. وقالوا عنها انها...ووووووووو..السنة الناس لم ترحمها بعد موتها...فقط تلك المرأة وزوجها وابنهما..والذين سلبوا منها ما تبقى لها من مقومات للحياة.. هؤلاء فقط كانوا يعرفون غير ما يعرفه الاخرون...وطوت صفحة من حياة فتاة كانت عذراء ثم اغتصبت ثم انتحرت.
((اذا كنت تريدين ان تمتلئي جرتك ،تزجية لفراغك..فتعالي ..آه تعالي الى بحيرتي..فلسوف يغمر الماء قدميك ولسوف يبوح لهما مثرثرا بسره..)).