أنظر إلى المدى الممتد ما بين السماء والأرض ، وما بين قمة الجبل وسفح الوادي .
في هذه البقعة المرتفعة ، يجثم بيتي الحجري الموروث عن أجدادي، محافظا على شكله وصموده أمام الريح وعواصف الثلج ، تحيطه الأشجار الكهلة الباسقة ، ويمتد السفح أسفل منه ، يثبت تحديه لكل عوامل الجو والتعريه ، ترتص في ثناياه المنازل ما بين قديم وحديث، لا يكاد يرى الناظلر إليها من هذا المكان سوى الأسطح الممتدة على شكل مربعات ، حملت على ظهرها خزانات المياه ولاقطات الأقمار الصناعية .
نسمات خفيفة كانت تهب تداعب وجهي حاملة ذرات التراب فتدمع عيناي وأنا أرقب هذا المنظر ، أتابع امتداد الطريق الملتوية كأنها ثعبان أسود طويل التف حول الجبل يعتصره .
على مستوى بصري كانت أطيار قد فردت اجنحتها للريح سابحة في فضاء واسع ، وطائرات ورقية ملونة حملت أحلام الطفولة محلقة فتكاد تكون في متطاول يدي ، وكأني أحاول أن استمد منها الأمل .
ذكريات ومضت توقظ الماضي من غفلته وأنا أنظر إلى تلك البقعة المحاطة بالأشجار في أسفل السفح ، وكأنها شخوص وقفت تحرس المقبرة القديمة لتمنع سكانها من مغادرتها .
ها أنت ترقد هناك بصمتك وهدوئك ، ينكمش جلدي بقشعريرة سرت في جسدي لمرور ذكراك تقتحم نفسي في لحظات استرخاء كدت أستسلم لها ، فانتفضت كمن لسع على حين غرة ، كأنك تعود للحياة فجأة نافضا عنك الموت .
تطفر دمعة من عيني فتخجل منك أن تنحدر ، أتذكر كم كنت تكره أن ترى دمعاتي تتساقط حزنا ،
كم كنت ترجوني دوما أن لا أبكي ، أبتسم رغما عني ، أمد يدي أحاول أن ألمس الوجه منك ، كم أشتاق إليك ، أتمنى أن ألقي بنفسي بين ذراعيك تأخذني بكل حنينك وشوقك تضمني إلى صدرك .
أه من لوعة الفراق الذي انتزعك من حياتي عنوة ، ومن وحدتي بعدك وعذابي ، لا زلت لا أصدق أن الموت اختطفك مني ، لا زلت أنتظرك ككل يوم ، أنتظر أن تأتيني بكل شوقك وحبك ، وكأن الساعات مرت عليك دهرا في غيابك عني .
أي يد غدر تلك التي حرمتني منك ،، وبأي حق سلبتك الحياة ؟؟ أية وحشية تلك التي حكمت عليك بالموت وأي استهتار ، حرمنا فرحتنا ، وحول عرسنا إلى مأتم .
لم يبق لزفافنا سوى يوم واحد ، ذهبنا لعشنا الصغير الذي ينتظرنا بلهفة ليضمنا ، وكأن القدر أبى إلا أن ندخله سويا ذلك اليوم ، ليودعك وتودعه ، كانت آخر الترتيبات ليكون مهيأ لاستقبالنا في اليوم التالي ، تلمست يدك كل قطعة أثاث ، دخلت كل الحجرات بفرح طفولي جميل ، كم كنت سعيدا يومها ، نظراتك كانت تشع حبا ، كنت تتحدث بصوت عال مليء بالمرح ، تتراقص وتدور حول نفسك ،ها هو الحلم قد تحقق ، سنكون غدا معا ، ضممتني إليك والتفت ذراعك حول وسطي تراقصني وأنت تغني بصوت شجي ملئة الحب ، لم تكن الدنيا لتسعك ، سعادتك غمرت المكان وغمرتني ، وغادرنا بيت أحلامنا على موعد للعودة في الغد ، وأنت لا زلت بمرحك وسعادتك .
لا زلت أرى تلك السيارة وهي متجهة نحوك ، تسابق الريح ، فتخطفك مني وأنت ممسك بيدي ، أي جزع أصابني وأنا أرى جسدك يرتفع إلى ألأعلى ثم يهبط ليرتطم مرة أخرى في مقدمة السيارة فتسقط على أرض الشارع لتمر عليك عجلاتها فتمزقك إلى أشلاء ، أي منظر رهيب يمر أمامي ، وأنا أحوم حول القطع المتناثرة بصراخ مجنون ، لا أدري ما الذي أرى وماذا أفعل ، أي ذهول شل تفكيري ونا أرى نزف دمك يتحول إلى برك على أرض الشارع ، تحاول الأيدي أن تمسك بي فلا يقوى أحد على الإقتراب مني وأنا أجمع أطرافك المبتورة أضمها إلي صدري ، ولا ألبث أن أرفع رأسك لأنظر للوجه المهشم ، ودماءك تخضب مني الثوب والجسد والروح ، ثم أركض بجنوني إلى سائق تلك السيارة لأغرس أظافري في لحم وجهه وأصفعه دون وعي ، أركل السيارة التي داست على روحي حين داستك .
لا أستطيع أن أذكر شيء بعدها ، سوى أني استيقظت لأرى أشباحا في سقف غرفة لا أعرف أين أنا ، منهكة لا أعي شيئا ، أسمع أصواتا من حولي لا أكاد أميزها ، ونور ساطع يخترق عيني ، شبح إنسان يقترب من وجهي ، أنظر إليه لا أكاد أميز ملامحه ، وصوت نحيب يصل إلى أذناي وتمتمات ، وما لبث أن سقط في مسمعي اسمك ، لأعود إلى وعيي بجزع وكأني إعيش اللحظة ذاتها مرة أخرى .
هبت نسمة لسعت وجهي ببرودة المساء ، أجفلتني ، استيقظت من ماض لا أدري كم من الوقت عشت فيه وهو يمر أمامي ، انتفض وأنا أمسح دمعة سقطت رغما عني على عجل ، أجر الخطى لأصل إلى صورتك ، التقطها ، اضمها إلى صدري بحرقة الشوق والألم ألقي نظرة على تلك البقعة ، حيث واراك الثرى .