أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: عفواً لم نكن نقصد

  1. #1
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : May 2006
    الدولة : لا حاجة
    المشاركات : 305
    المواضيع : 52
    الردود : 305
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي عفواً لم نكن نقصد

    عفواً لم نكن نقصد !

    في ليلة ظلماء شديدة البرودة فتحت عيني الضارعتين المتوسلتين الخائفتين المرتعشتين، أغمضتهما بسرعة، شيء مخيف زرع الهلع والرعب في أوصالي، تصاعدت أنفاسي، تقطعت، روائح كريهة تخللت عبر مسام أنفي وانسربت في أحشائي تحرضني على القيء.

    هل حقاً أصبحت هنا؟
    أهو حلم كابوسي مزعج؟
    لم أستطع أن أجيب على سؤال أخي، التي أجابت أمي:
    - أبوك في السماء، فوق، بعيداً عن هنا.
    - ولماذا لا تكون السماء قريبة منا، اشتقت إليه، وعدني أن يأتيني بتفاحة، أنا أريد تفاحة يا أمي.

    وتند عنها آهة مكتومة، تطأطئ الرأس بحزن غامر، وتنهمك في غرز الإبرة والخيط بلحاف أبي ذكراها الوحيدة المتبقية لها من رائحته، كان ساكناً في داخلها مثل دمها.

    - يا محمود لأجل التفاحة رحل أبوك!

    ويزعق من قال : "شالوم"
    صرير الحديد وهو يُفتح يقشعر له بدني، فأشعر بالرجفات تتوالى، لن أقبل أن أكون ضعيفة، سأتماسك، سأشد عزيمتي وأقف.

    تهرب السواقي مثل مجنونة، تقهقه الرياح وترقص، الوجه الآسي يقترب، يلتصق بجسدي النحيل وفي عينيه شهوة الافتراس.

    يتمطى سؤاله عن أخي ، فأرد بجسارة لم أعهدها في نفسي:
    - وتسألني عن طفل ما يزال يحلم أن يمسك بين يديه تفاحة.
    يصفعني على وجهي، يرتطم رأسي بالحائط، تدور الدنيا من حولي، كل شيء أراه أسود، كل شيء يدور مثل الرحى فوق رأسي المتهالك.
    - ألم تأكل؟
    - لا ! لم تأكل!
    يبتسم بشماتة، تتلمظ شفتيه لعاب الشبق والعواء، تبتسم شفة وترتجف شفة، تقترب كتف وتنفر كتف، يتقابل الوجهان، تولول الأنهار الحزينة، تبح حنجرتي، تقصف البروق وترعد السماء، يده تمتد نحو ثوبي، يسقط على رأسه عنكبوتاً كان يراقبه فيفر ويوصد الباب .
    أنسجة الأوردة تتكالب، تتشنج، تتصلب، والقلب بحدة يقرع مثل طبال، أيتها العذراء الراقدة في محراب طهارتك المقدس أنجديني، أبي هل حقاً من يشتهي أن يأكل التفاحة إرهابي؟!
    أقسم بالتين والزيتون أنهم مجانين، لا، ليسوا مجانين بل بسطاء لدرجة البلاهة والمقت.

    أمي ألم ينته ترقيع لحاف أبي، أين أخفيت محموداً ؟

    يرتعش القهر على ظلام الأجسام العارية، أسمع صوت الآهات تنم عن فساد خلق وخليقة، تتفتق جراحات الأحلام عن سبي الشجر ورفع الحواجز، زنزانة فاجرة استشرى فيها المنكر من الفحشاء، نساء مخمورات بألعاب الشيطان، أرى وجهه المخيف يقطر منه الفرح المسعور على وضاعة الرؤيا.

    مرات عدة حققوا معي، سألوني بصلابة، بمهانة، بتلذذ وهم يشدون ضفائري، يقلعون أظافري، يمزقون ثوبي ويمررون شفاههم على الأماكن المكشوفة بعد أن تمزق الثوب فلا أصرخ ولا أنتحب لقد صامت العذراء عن الكلام.

    قتلوا أخي، بتبارد معهود قال كابتن الفريق لأمي التي انفجرت مواويل حزنها:
    - عفواً لم نكن نقصد قتله هو من ظهر فجأة أمام السيارة!

    محمود كان ما يزال ينتظر أن تأتيه أمي بالتفاحة، أخفته في السقيفة عند الفران أبي يوسف، الطفل أراد الخروج لقضاء حاجته فسولت له نفسه بالتجول أمام الفرن، وكما هو معروف كانت سيارة التفتيش مسرعة تنفض من حولها الغبار كأنه ثورة ريح عاتية!

    أراقوا دمه ثم فتحوا رشاشات بنادقهم على المتجمهرين، نزل الكابتن صرخ في وجه أمي:
    - أين محمود؟

    حين صم السؤال أذنها ما كان اللحاف قد انتهى ولا كنت أنا خرجت، حملت جثمان الذي ارتخى بين يديها وعلى صدرها اليابس وأخذت تنظر في وجهه الوردي، وقالت جملتها: الله يا بلد .

    سبحان من يغير ولا يتغير، هيئتي، ملابسي الممزقة، لساني الذي تدلى، عيناي التي جحظت، شفتاي التي تشققت وتورمت، ما عدت قابلة للسؤال فدفعوني بقسوة نحو الطريق، أصابعي الراجفة تمسكت بتراب الأرض، حنين الهواء البلدي المشبع بقزحية الربيع أنعش جسدي المنهك، راحت عيناي تجوس في الآفاق، أفق أبي وصديقه الصغير، أخيراً سيحقق حلمه ويعطيه من سبقه أكثر من تفاحة.

    5/12/ 2004

  2. #2
    الصورة الرمزية الصباح الخالدي قلم متميز
    تاريخ التسجيل : Dec 2005
    الدولة : InMyHome
    المشاركات : 5,766
    المواضيع : 83
    الردود : 5766
    المعدل اليومي : 0.86

    افتراضي

    ذكرتني بألويفر تويست
    قصة جميلة ممزوجة بخواطر رائعة
    اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهيمَ. إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

  3. #3
    أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2006
    المشاركات : 9,079
    المواضيع : 101
    الردود : 9079
    المعدل اليومي : 1.38

    افتراضي


    سها...
    مؤلم جدا مشاهدة طفل وهو غارق بدمائه ..ولا يكون للمرء حول ولاقوة...
    أ ليس كذلك...فكيف اذ كان الطفل ابن او اخ.....او حتى صديق....بل وغريب...فهو يبقى طفل..
    استطعت ببراعة من تصور مشاهد الاستجواب الخارجي والداخلي...
    الداخلي...سؤال الطفل عن التفاحة والسماء...والخارجي...استجواب السجن..وابهرني وصفك الجريء لما يحدث داخل المعتقلات.
    امام...النهاية...فكانت بحق ذات دلالات وافية يمكن للمرء الذي يتمعن النظر اليها ان يستخلص بجملة امور..
    طلب العفو...بعدم القصد...جاء صورة مماثلة للواقع....الحي والذي اصبح يحدث للكثيرين كل يوم...
    ولااعلم لماذا تصرخ الام..الله يابلد...
    ولاتصرخ....الله يامحمود....
    لان محمود له الاولية...فالانسان قبل الارض...لان الارض اصلا وجدت لتسهل للانسان حياته..
    المهم...اسجل اعجابي الكبير...
    تقديري ومحبتي
    جوتيار

  4. #4
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : May 2006
    الدولة : لا حاجة
    المشاركات : 305
    المواضيع : 52
    الردود : 305
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي

    أيضاً أسجل إعجابي الكبير بقراءتك الواعية التي ترفد كل حرف بجملة حروف
    أشكرك جوتيار
    أتمنى لك مستقبلاً مشرقاً بالقراءات النقدية الواعية التي ترصد وتبني على رصدها دلالات جميلة.
    دمت بخير ومحبتي دائمة

المواضيع المتشابهه

  1. لم نكن نعرف الجليد....ولا البرود
    بواسطة شاهر حيدر الحربي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 20-04-2018, 11:00 PM
  2. كــأنا لـم نكن يــومًا (\شعر: أميرة عمارة)
    بواسطة أميرة عمارة في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 38
    آخر مشاركة: 17-11-2009, 09:59 PM
  3. لِمَ لَْمْ يأتِ الحب ؟
    بواسطة مؤمن مجدي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 15-02-2007, 03:25 PM
  4. عفوا...
    بواسطة نهى فريد في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 19
    آخر مشاركة: 08-06-2004, 10:30 PM
  5. عفواً
    بواسطة إسكندرانى في المنتدى أَدَبُ العَامِيَّة العَرَبِيَّةِ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 28-05-2004, 05:07 PM