--------------------------------------------------------------------------------
- آلو .. مساء الخير ..
- مساء الخير .. ( ديليشياس فوود ) مدينة نصر
مع حضرتك يا فندم .. ممكن رقم التليفون ..؟..
- ( .......)..
- حضرتك أستاذ ( ...... ) ..؟..
- مظبوط ..
- طلبات حضرتك يا فندم ..
- عاوز من فضلك اتنين ( ..... ) كومبو ، و الكولا لايت
- حضرتك تحب أى أصناف جانبية ؟ ..
- لا .. شكرا ..
يسود الصمت للحظات الا من أصوات التكتكة على لوحة
المفاتيح .. ثم :
-الحساب كده يا فندم ( .... ) و ال ( Order ) هايكون عند
حضرتك فى خلال 35 دقيقة ..
- متشكر جدا ..
- شرفتنا باتصالك يا فندم ..
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
" احنا زى ديل السمكة ، اللى بيترمى ف الزبالة بعد السمكة ماتتشوى .. لكن السمكة من غير الديل ماتعرفش تعوم .. "
من فيلم ( ديل السمكة ) للكاتب ( وحيد حامد )
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
ثمة شئ ما غير طبيعى فى سلوك زوجى أشعر به منذ عدة أيام ..
هو ابن خالتى قبل أن يكون زوجى ، و أعرفه جيدا كما أعرف كف يدى .. هو يكبرنى بثلاث سنوات ، و لكن الحقيقة أنه يرقد بداخله طفل شقى لا يتجاوز الثامنة يتعامل مع الحياة بدهشة كمن يراها للمرة الأولى .. الصراحة أنا " عينى كانت عليه " منذ أن بلغت مبلغ النساء ، ليس لأنه الوحيد من بين اخوته المنخرط فى التعليم الثانوى العام و من بعده التعليم الجامعى ، و ليس لأنه قسيم ممشوق القوام ، و لكنه شئ ما .. شئ راح ينمو فى روحى تجاهه مع نظراته الخجلى التى يرمقنى بها ، و التى شعرت بها تقول الكثير ..شئ أشبه بكيان نورانى شفاف له رائحة أزهار الياسمين و نسيم بارد رقيق ... تسألونى كيف أحسست به ..؟.. لا أدرى .. نحن – بنات حواء- نلحظ هذه الأشياء بسهولة و يسر .. كنّا أطفالا نلعب ، و عندما بلغنا مبلغ النساء و الرجال تم الفصل الاجتماعى و الشرعى الطبيعى بيننا .. هنا بدأت ألاحظ نظراته المختلفة لى ، و بدأ ذلك الشئ الغامض ينمو فى أعماقى ..
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
منذ عدة أيام بدأت ألحظ التغيرات التى طرأت عليه ... صار يعود الى البيت مبكرا – عند منتصف الليل بما يخالف مواعيد عمله – و عندما سألته عن السبب أجاب بأن ضغط العمل صار أقل .. لا " أعد عليه اللقمة " و لكننى لاحظت أنه صار شرها للطعام بصورة غير معتادة – هو لم يكن أكولا قط - .. مرح غير طبيعى انتابه ، و صار يضحك بشكل مفرط لأشياء تافهة أحيانا .. و عندما يجمعنا الفراش يصبح عنيفا لدرجة تجعلنى أتألم هو الذى كان متفهما لطيف المعشر ..
ماذا دهاه ..؟..
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
كان معروفا فى منطقتنا ، و كانوا يسمونه ( الطيار) لسرعته و براعته فى الانطلاق بدراجة والده البخارية و كان أخى الأصغر مبهورا به ، و كان ( سعيد ) – زوجى – يصطحبه معه دوما فى خروجه مع أصدقائه برغم فارق السن .. و فيما بعد زواجنا سألت ( سعيد ) عن سبب ذلك ، فأجاب مبتسما : " كنت عايز أى حاجة تربطنى بيكى.." و رفع أصابعى المستكينة فى يده و لثمها فى حنو ..
بينى و بينكم كنت أنتظر عودة ( حمادة ) أخى الأصغر المراهق من جولاته مع ( سعيد ) و أجلسه أمامى ل " أقرره " فكان "يندلق" و يسرد بحماسة أن " ( سعيد) عمل .. ( سعيد ) سوّى .. الخ .. " و مع كلماته كان ذلك الكيان النورانى النامى فى روحى يتمدد و يتمدد ، و يتخذ بالفعل شكل عاطفة محددة و متدفقة ...
و هكذا لكم يا سادة أن تتخيلوا المشاعر التى انتابتنى عندما أتتنى أمى و قبلتنى قائلة فى فرح :
- مبروك يا ( مها ) يا حبيبتى .. ( سعيد ) ابن خالتك طلب ايدك من أبوك..
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _
- " أخبار جوزك ايه ..؟.."
سألتنى ( تهانى ) شقيقتى الكبرى هذا السؤال و هى تقف معى فى مطبخ شقتى الضيق و أنا أصب الشاى الساخن فى كوبين زجاجيين فرفعت رأسى و نظرت لها للحظة و قد فاجأنى السؤال و أحسست معه أنها تعلم بهواجسى ، قبل أن أشيح برأسى مجيبة :
- بخير الحمد لله ..
حملت صينية الشاى و طبق يحوى بعض البسكويت و خرجت معها الى الصالة حيث جلسنا نحسو الشاى ، و راحت هى تثرثر ، و تطلعنى على الثياب الجديدة التى ابتاعتها لأطفالها قبل أن تمر علىّ ، و كنت أنا أتابعها و أتفاعل معها بنصف عقل بينما النصف الآخر غارق فى التغيرات الغريبة التى طرأت على سلوك ( سعيد ) فى الفترة الأخيرة ..
و يبدو أن ( تهانى ) لاحظت شرودى فتوقفت عن الثرثرة ، قائلة :
- لااااه .. دا أنت مش معايا خالص ..
تنبهت الى خلو سلوكى معها من الذوق ، فقلت بابتسامة مرتبكة :
- لا أبدا .. أصلى سرحت شوية ..
تفرست فى وجهى للحظة قبل أن تسألنى بقلق :
- ايه الحكاية يا ( مها ) ..؟.. انت الليلة دى متغيرة خالص .. حصلت حاجة لا قدّر الله ..؟
هل أخبرها ..؟.. لا .. هذه أسرار بيتى ، ولا يصح أن أحكيها .. أشحت برأسى نحو النافذة حيث الظلام الذى بدأ يطغى على صفحة السماء و قلت :
- لا .. ما حصلتش أى حاجة ..
و بينما أرتشف الشاى نهضت هى و جلست بجوارى و ربتت على ظهرى قائلة فى حنان :
- يا ( مها ) يا حبيبتى انت أختى الصغيرة ، و عارفة أد ايه أنا باحبك و مصلحتك تهمنى .. قوليلى يا حبيبتى و ماتخبيش عليا .. ( سعيد ) مزعلك ف حاجة ..؟
أثر فى حنانها ، فترددت للحظات قبل أن أضع كوب الشاى على المنضدة و ألتفت اليها و أقول :
- هو ماعملش حاجة تزعلنى .. بس يعنى .. مش عارفة ... حاساه متغير شوية اليومين دول ، و مش عارفة ايه سبب التغيير ده ..
سألتنى فى اهتمام :
- متغير ازاى يعنى ..؟
رحت أقص عليها تفاصيل مايقلقنى – ليست كل التفاصيل طبعا – و عندما انتهيت سألتنى :
- هىّ دى كل حاجة ..؟
- أيوه ..
ابتسمت متسائلة فى خبث :
- مافيش حاجة تانى يعنى ..؟
احمر وجهى عندما أدركت ما تعنيه ، فخفضت عينىّ قائلة :
- لا .. أبدا ..
اعتدلت قائلة فى جدية :
- تبقى مفيش مشكلة يا حبيبتى .. مادام جوزك كويس معاكى و مش مزعلك و بيصرف كويس على البيت ، و مش مقصر معاكى ف حاجة يبقى مفيش داعى تعملى من الحبة قبة ..
فتحت فمى لأعترض ، و لكنها لم تمنحنى الفرصة و تابعت :
- ايه يعنى لما ياكل زيادة شوية .. مش بيتعب ف شغله ..؟.. و بعدين هو انت هاتعدى عليه اللقمة ..؟.. و ايه المشكلة لما يضحك كتير و تبقى فشته عايمة ..؟.. دا انت تحمدى ربنا .. مش أحسن مايبقى بوزه شبرين ..؟.. طب تعالى شوفى ( مراد ) جوزى لمابيبوّز بابقى عايزة أعمل أى حاجة بس يفرد خلقته .. تقومى انت تزعلى لما جوزك يهرج معاكى .. يا شيخة بطلى بطر بقى على نعمة ربنا أحسن تزول منك ..
نظرت اليها و لم أعرف بم أرد ..
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
كانت أيامى معه سعيدة حقا بالرغم من مصاعب الحياة .. اكتشفت بعد زواجى به أنه عبارة عن طفل كبير برغم أنه لف و دار كثيرا .. لا أدرى حقا كيف يجتمع هذا مع ذاك ، و لكنه حدث .. و حتى الان مازالت تفتننى نظرة الدهشة فى عينيه و التى يواجه بها العالم ..
كنت أعمل صباحا ككاتبة حسابات فى احدى المصالح الحكومية و كانت مواعيد عملى متعارضة تماما مع مواعيد عمله ، و لكننا لم نكن نعدم أوقاتا صافية جميلة نقضيها معا يوميا .. و كان يوم الجمعة – يوم العطلة – هو اليوم الذى ننتظره معا طيلة الاسبوع بفارغ الصبر ، لأننا كنّا نقضيه كله معا .. و بعد أن رزقنا الله ب ( منة الله ) اضطررت الى الحصول على اجازة بدون أجر من العمل لرعايتها ، و بالرغم من أن العبء المادى زاد على كاهله ، الا أن ( سعيد ) أبدى ارتياحا لجلوسى فى المنزل
لخوفه الدائم علىّ من " البهدلة " ..
كانت حياتنا معا تسرى بانسيابية كنهر هادئ منتظم حتى بدأ يتغير ..
_ _ _ _ _ _ _ _ _
فى تلك الليلة عاد الى المنزل فى حدود الثانية صباحا ، و كان وجهه ممتقعا قليلا .. ألقى التحية علىّ باقتضاب ، و لاحظت انه كان يترنح قليلا ، سألته بقلق عما أصابه فضحك مجيبا :
- و لا حاجة يا حبيبتى .. انت كل ما تشوفينى توهمينى على نفسى ..؟
ثم تلفت متسائلا :
- هيّ البنت نامت ..؟
و لما أجبته بالايجاب انقض علىّ و قبلنى و راح يهمس فى اذنى بانفعال.. ترى ما هذه الرائحة المنبعثة من فيه ..؟.. ثم راح يسحبنى من ذراعى الى غرفتنا ، فأخذت أتملص منه و أهتف به ليتريّث قليلا أو حتى يستبدل ثيابه ، و لكنه كان فى حالة عقلية غير طبيعية .. عرفت هذا من النظرة التى لمحتها فى عينيه و التى بعثت فى جسدى قشعريرة باردة ..
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
فى الغرفة اعتدل جالسا ، و أسند رأسه الى ظهر الفراش ، و أشعل لفافة تبغ ، و راح ينظر الى السقف و هو ينفث حلقات الدخان .. اعتدلت لاجلس بجواره ، و تسللت أصابعى لتحتضن أصابعه ، و هالنى أننى شعرت بها ترتعش ، فاحتضنتها بقوة ، و رفعت عيناى اليه متسائلة بقلق :
- انت بتترعش ليه يا ( سعيد ) ..؟.. انت عيّان يا حبيبى ..؟
لم يرد ، و شعرت بالرعشة تغزو جسمه كله ، و كانت صدمة حقيقية عندما التقت عيناى بعينيه .. هل أنا أحلم أم أن تلك بالفعل دموعا تحتشد فى عينيه ..؟.. اعتدلت لأجلس على ركبتىّ ، و أمسكت ذراعه هاتفة فى هلع :
- ( سعيد ) .. رد عليا .. مالك يا حبيبى ..؟.. انت بتعيط ليه ..؟
حاول أن يتكلم بصوت متهدج ، الا أن نبراته اختنقت ، و انفجرت الدموع من عينيه كالشلالات ... و تفجرت مشاعرى بدورها ، و لم أدر بنفسى الا و الدموع تنسال من عينىّ أنا الأخرى و أحتضن رأسه فى صدرى و أحرك يدى على ظهره مرددة :
- اهدا يا حبيبى .. اهدا ..
ظل يبكى بين ذراعىّ قليلا ، قبل أن يهدأ و يعتدل جالسا و يمسح دموعه و يتكلم ..
حكى لى بصوت متهدج من أثر البكاء تفاصيل اللقاء الذى تم بينه و بين رئيسه فى العمل الذى أبلغه ببرود متناه – على حد تعبيره – أنه مفصول من عمله لأن طاقة العمل بالفرع – و التى تأثرت من جراء المقاطعة – لم تعد تتحمل هذا العدد الكبير من الموظفين ، و منحه ثلاثة أشهر من الراتب كمكافأة ، و طلب منه تسليم عهدته الى المشرف ...
هوت كلماته على مسامعى كالصاعقة ، فنظرت اليه مصدومة لوهلة ، و انتزعنى من ذهولى – لحسن الحظ– بكاء الطفلة التى استيقظت فى هذه اللحظة فنهضت أحملها من مهدها ، و أرضعتها قليلا ، و رحت أهدهدها حتى نامت ، بينما المفاجأة الرهيبة ماتزال تزلزل كيانى .. نحن الآن بلا عمل .. بلا مورد رزق ..
عدت الى ( سعيد ) فوجدته لايزال متمددا على الفراش يحدق شاردا فى فراغ الغرفة .. تمددت بجواره .. التصقت به .. امتدت أصابعى لتلمس أصابعه .. همست :
- ليه ماقلتليش من ساعتها ..؟
قبضت أصابعه على أصابعى برقة و هو يتمتم :
- ماحبيتش أشيلك الهم ..
أسندت رأسى الى كتفه و تساءلت :
- طب و هانعمل ايه ..؟
صمت للحظات قبل أن يجيب :
- أنا رحت لمحامى و أخدت معايا صورة عقد العمل اللى بينى و بين الشركة ، و سألته عن امكانية انى أقدم شكوى ضد الشركة ف مكتب العمل أو فى التأمينات الاجتماعية ، فقاللى بعد ما درس العقد انى أصرف نظر ..
- ليه بس ..؟
- عشان فيه بند ف العقد بينص ان الشركة من حقها انها تفصل أى موظف لديها لأى سبب تراه مناسبا و من مصلحة العمل ..
- طب و التأمينات ..؟
- تأميناتى محفوظة لغاية ما يتأمن عليا ف أى مكان تانى أشتغل فيه ..
وصمت لحظة قبل أن يستطرد ..
- أنا ماقصرتش يا ( مها ) .. من ساعتها و أنا داير ألف كل يوم أدور على أى شغلانة ، لما هلكت ، و مافيش فايدة ..
احتضنت رأسه بين ذراعىّ و أنا أقول :
- بعد الشر عليك يا حبيبى .. و لا يهمك ، بكره ان شاء الله تلاقى شغلانة كويسة ، و انا هاقطع الأجازة و أرجع شغلى ، و ها تفرج باذن الله ..
استكان رأسه على صدرى و سمعته يتساءل و النعاس يغزو نبرات صوته :
- طب و ( منة ) ..؟
- هابقى افوت كل يوم الصبح أعديها على ماما ، و آخدها الضهر و انا راجعة ..
و رحت أفكر .. ياللمسكين .. لقد ظل طيلة الأيام السابقة ينوء بهذا النبأ المشئوم وحده ، و يرفض ازعاجى به .. اذن فهذا هو سبب التغير المفاجئ الذى أصابه ، كان يبالغ فى المرح و تناول الطعام حتى لا أشعر بشئ مما يثقل كاهله ( 2 ) .. بل لعل عنفه معى كان محاولة لاشعورية منه لاثبات قوته و رجولته التى جرحها فصله من العمل بهذا الشكل المفاجئ و المهين ..
حقا انها لورطة كبيرة ، و لكن الله سبحانه و تعالى موجود ، وهو خير حافظ ، و هو أرحم الراحمين ..
كان ( سعيد) قد استغرق بالفعل فى نعاس عميق بين ذراعىّ بينما تصاعدت أصوات مكبرات الصوت قادمة من المساجد المجاورة حاملة آيات القرآن الكريم السابقة لآذان فجر يوم جديد ...
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _
نهاية الحلقة الثالثة