تخلقت في رحم الوعد أيقونة حياة ، وازدانت بسمات الخُلق . شقّت غشاء الطلوع لتبين لكل رائي . يحس الآملون انبثاقها في طَلْعِ الكون بكل ما أوتوا من حواس ويدركون بامتزاج المحسوس بالمادي تدفق الوجود الآتي من أحضان الماضي والحاضر والمستقبل لِيُنَمِّي على أديمها وعد الحياة لتثمر غاية منشودة يسعى الكل لحيازتها مادياً أو حسياً عبر سبل متعددة وطرائق مختلفة ، فهناك من سبيله القطف وغيره التذوق وهناك من يقضي حاجته منها بالتأمل في بهاء شكلها وحسن مخبرها؛ فالرغبة في السعادة شأن فطري جُبلت عليه كلُّ نفس ولكنها ليست واحدة في كل نفس . يعرِّفها البعض بأنها ( تتحقق على مستوى الفرد عن طريق العلم والعمل ) ويراها آخرون بأنها ( تتحقق عن طريق الحصول على جميع الملذات التي ترغب فيها النفس الإنسانية ) وآخرون بأنها ( تتم حال سيطرة النفس على قوى الجسم المادية والتحكم فيها ) وغيرهم أنها ( تتم في هذه الحياة الدنيا ) و سواهم بأنها ( تتم حقيقة في الدار الآخرة بعد الانتقال من هذه الدنيا ويحوزها بعض الناس دون البعض الآخر ) ... والسعادة في نظري – مضافاً إلى ما سبق - تكمن في مقابلة الذات بالذات التي تشبهها ؛ ليس كذلك بل التي تطابقها حتى وكأنهما ذات واحدة ، حتى وإن كانت الذاتان شريرتين فالسعادة النابعة - بغض النظر عن كينونتها - مكمنها التلاقي والانصهار المتبادل دون النظر للتصرفات الفردية أو الجماعية أحياناً. والأجمل والأصدق والأجدر بالمثل أن تكونا طيبتين صافيتين منزَّهتين من كل عيب ، والأكثر قيمة ألاَّ يكون التلاقي مكللاً بمجانية النعيم وترف الصدف ،أو منغمساً في نّصَبٍ لم يمسسه لغوب . منطقي أنَّ للصدف شأناً مهماً ، ولكن ليست الصدف العابرة ، فالأحق بالثناء تلك الصدف التي تفضي إلى سعادة الروح ، ولكن لا ينبغي أن نوكل رمة الأمر إليها في رحلة العلائق العظيمة ؛ فلزاماً أن تبدأ الرحلة من القاع إلى السطح ، ومن العمق حتى الشاطئ ، وألاَّ نبتعد كثيراً ونغفل أصل التكوين وأن ندرك أبدا أن الكل ينفلق عن بذرة ولكن التساؤل القائم أين تتلاشى البذرة بعد انفلاقها . بعد أن تكون هيكلاً عظيماً يبلغ عشرات الأمتار علواً ومثلها محيطاً . مثلها مثل الصفر الذي يتلاشى عند ضربه في رقم آخر كالخمسة مثلاً بل أين تتلاشى الخمسة ذاتها أليس الصفر أصلاً ؟ أليست الخمسة أصلاً ؟ أليست البذار أصلاً ؟ ثُمَّ ألا يقال : أنَّ الأصلَ ثابت وكل شيء يعود إلى أصله . الحقيقة الراسخة المدركة تتجلى في أن : وحده الإنسان يعود لأصله ليذوب فيه مجدداً تهيؤاً لرحلة جديدة لكنها أبدية هذه المرة .
النور الذي يشع من بعيد وسط المحيط المظلم يظل أكثر إثارة للطمأنينة حتى وإن بقي بعيداً ، الغاية الأسمى أن يبقى مشعاً تدركه الحواس لا أن تحتويه، حتماً سَيُشْعِرُ بدفءِ الأمن والأمل وهما بداية درب السعادة وغايتها ومنتهاها , تماماً كمثل أي أمرٍ تشتهيه أو ترغبه ولا تدركه سيكفيك توهجه في نفسك ، في ذاتك يخامر عقلك ، يسامر خلجات نفسك ، يتراءى في أفق وجودك ، يلج كل حينٍ حافظة خيالك ، ينساب مع جداول فكرك فيتضوع في كُلِّ كيانك ليعطي مذاقاً خاصاً للسعادة التي تتجلى الصورة المثلى لتكثفها في غياب جزئية منها تشكل بؤرة السعي الحثيث لنيل المبتغى ، وكلما كان النول أصعب كان الإلحاح أكثر حدةً ، ليكون المؤثر أكثر فاعليةً وتكون السعادة أشهى طلباً حينها فقط تنشأ لذة الألم مكمن الطلب التي يُمنحُ المرءُ بموجبها وسام السعادة عن استحقاق .
يشكل تعدد مكونات السعادة فارقاً في أشكالها وقد يجعل منها سبباً مباشراً في تكون المقابل السلبي لها ؛ فالطير الجارح الذي يحلق لساعات ، ويديم النظر بثبات بغية اقتناص عصفور أوقعته منيته في مجال حاجة الجارح ، يشكل له نجاحه في أداء مهمته سعادة بالغة بينما تشكل هذه السعادة تعاسة وشقاءً للطرف الآخر ، وكذلك الأسد الذي يقضي زمناً في التربص ، ومثله أو أكثر في المطاردة تكمن سعادته في الظفر بهذه الطريدة ، وفي ذات الحين تكون مكمن النهاية الحزينة للطريدة وإن كانت غزالاً رقيقاً بريئاً ، لم تفلح براءته في درء الخطر عنه ؛ لأن فيه سعادة الآخر . ذات الأمر ينطبق على الإنسان ، فالمجرم الذي يخطط لجريمته ولا يعبأ بعبء الترصد حين يتمكن من تنفيذها دون أن يُكتشف أمره تلفُه نشوى تَحَقُقِ المراد الذاتي المتمثل في سفك دم بريء ، ويشرب نخب سعادته – المزيفة في نظر المنطق وفي نظر الآخرين – حتى الثمالة ، في المقابل يشكل التوصل للجاني سعادة للطرف الآخر كانت المأساة قد غيبتها .
يشكل المخزون الهائل والمختلط من التصرفات والأحداث وحتى الأفكار المكوِّن الرئيس لحياة الفرد والموجِّه لمسيرته ؛ فالأفعال الناتجة عنه ، أو الواقعة عليه وردودها تشكل الممول لنمط وجوده لأن بقاءها في رصيد الذكريات قابل للاسترجاع في أي لحظة ، وبما أنها قابلة للاسترجاع حتماً ستكون ذات تأثير في الحاضر وحتى في المستقبل الذي يحدده – غالباً- الفعل الآني ، وبالتأكيد سيكون مع دورة الحياة ضرباً من الماضي . ويؤدي هذا المزج وهذا التعدد وهذا التعاقب إلى تَخَثُّرِ العاطفة التي تتأثر بالمحيط كما يتأثر جبل الرمل بحركة الريح ووجهتها ، فبقاء العاطفة على حال معينة ضرب من الوهم ، فهو رهن بناتج الأفعال ونوعها وبالفاعلين وبالمفعول بهم وفيهم ومعهم . والسياق العام للحياة يثبت بما لا يُبقي مجالاً للشك سعي كلِّ من في الكون لنيل هذا المطلوب الغالي ، ولكن الواقع يثبت تعدد الرؤى والتأويلات بحسب تعدد حالات المخلوقات ؛ فقطف وردة يسعد القاطف لكنه في الوقت عينه يُدمي المقطوف .
وبما أن إدراك الكمال قصر على بعض الثوابت كوجود الله ووحدانيته والبعث واليوم الآخر والحساب وما في حكمها .. فإن السعادة شيء نسبي لا يدرك تمام الإدراك ولا يُنال حسب الطلب ، أو حين الحاجة إليه ؛ لأن السعادة ببساطة ليست ربيبة الرغبة ، ولن تكون حليفاً للنزوات .
وتبقى النفس البشرية حائرة بين الانجذاب إلى ، والنفور مِنْ ، ويبقى سعيُ المرء دائماً وحثيثاً لمقابلة ذاتٍ تركن إليها ذاتُه ، وتلقى فيها مؤنساً مماثلاً ، ينبذان سوياً كُلَّ نابٍ ، ويثلجان لكُلِّ طيِّبٍ وإنْ نَدر، وينجذبان فطرياً ولو دون إرادة ودونما غاية. وهذه غاية الإدراك .