كاهنات المعبد
تمهيد أول:
"استحممتُ من أجل الثورِ الهائج
استحممتُ من أجلِ الراعي تموز
ضمختُ جنبيّ بالمراهم
صبغتُ شفتيّ بالعنبرِ الزكيّ الرائحة
و من أجلهِ لونتُ أجفاني بالكحلْ"
( من غنائية زواج إينانا و تموز )
تمهيد ثاني:
" 16مِنْ أَجْلِ أَنَّ بَنَاتِ صِهْيَوْنَ يَتَشَامَخْنَ، وَيَمْشِينَ مَمْدُودَاتِ الأَعْنَاقِ، وَغَامِزَاتٍ بِعُيُونِهِنَّ، وَخَاطِرَاتٍ فِي مَشْيِهِنَّ، وَيُخَشْخِشْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ، 17 يُصْلِعُ السَّيِّدُ هَامَةَ بَنَاتِ صِهْيَوْنَ، وَيُعَرِّي الرَّبُّ عَوْرَتَهُنَّ. 18 يَنْزِعُ السَّيِّدُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ زِينَةَ الْخَلاَخِيلِ وَالضَّفَائِرِ وَالأَهِلَّةِ، 19 وَالْحَلَقِ وَالأَسَاوِرِ وَالْبَرَاقِعِ 20 وَالْعَصَائِبِ وَالسَّلاَسِلِ وَالْمَنَاطِقِ وَحَنَاجِرِ الشَّمَّامَاتِ وَالأَحْرَازِ، 21 وَالْخَوَاتِمِ وَخَزَائِمِ الأَنْفِ، 22 وَالثِّيَابِ الْمُزَخْرَفَةِ وَالْعُطْفِ وَالأَرْدِيَةِ وَالأَكْيَاسِ، 23 وَالْمَرَائِي وَالْقُمْصَانِ وَالْعَمَائِمِ وَالأُزُرِ. 24 فَيَكُونُ عِوَضَ الطِّيبِ عُفُونَةٌ، وَعِوَضَ الْمِنْطَقَةِ حَبْلٌ، وَعِوَضَ الْجَدَائِلِ قَرْعَةٌ، وَعِوَضَ الدِّيبَاجِ زُنَّارُ مِسْحٍ، وَعِوَضَ الْجَمَالِ كَيٌّ! 25 "
( سفر إشعياء الأصحاح الثالث الأية 16 حتى الآية 25 )
...
مقدمة:
في الأزمنة الغابرة، حينما كانت الديانات الوثنية سائدةً في أراضي ما بين النهرين، و أرض كنعان، و البلاد الممتدة على طول نهر النيل حتى أراضي النوبة، كان للناس آلهةٌ متعددة، و كان كل إله يرمزُ لقوةٍ معينة، أو يرتبطُ بطقسٍ معين. كانت هذه الآلهة تتوزعُ في تصنيفها ما بين مذكرٍ و مؤنث، و لطالما برزتْ إحدى هذه الآلهات الإناث كرمزٍ للخصوبة و الجنس. من المثير للاهتمام، أن مثل هذه الإلهة كانت تجمعُ عادةً ما بين الحب و الحرب. نرى مثال ذلك في عتشار، إلهة الحب و الحرب لدى سومر، و التي اختصت مدينة أوروك برعايتها. نفسُ هذه الإلهة هي إينانا البابلية، في امتداد طبيعي للنسخة السومرية. في مصر برزت أيزيس كإلهة للحب و الخصب، و في أثينا برزت أفروديت عند الإغريق، و جمعت بين الحب و الحرب، و كذلك هي النسخة الرومانية منها و المدعوة بفينوس. كان حضور المرأة ضرورياً لتجسد دور إلهة الخصوبة و الجنس في جميع تنويعاتها المكانية، و لهذا برزت ظاهرة ما يُدعى بـ "كاهنات المعبد" في مختلف الحواضر العالمية القديمة، حيث كانت الكاهنة المرأة إحدى تجليات إلهة الخصب المسؤولة عن خلق الحياة، و التي نزلت من السماء إلى الأرض كي تكون مقدسة، و لتحتفظ بالأسرار السماوية لديها.
و رغم انتشار هذه الظاهرة، و وجود ما يدلُ عليها في وثائق و مخطوطات المعابد التي تواجدت في سومر و كنعان و مصر، إلا أني أزعمُ أن منشأها كان في سومر، حيثُ تُقدسُ الإلهة عشتار، و لكي نفهم دور كاهنات المعبد و نفهم طقوسهم، لا بدَّ أن نتحدثَ عن أسطورة الإلهة عشتار، و نزولها إلى العالم السفلي.
...
أسطورة نزول عشتار إلى العالم السفلي
تقولُ الأسطورة حسب ما تحكيه الألواح السومرية، أن الإلهة عشتار قررت النزول إلى "أركلا" مملكة العالم السفلي، حيثُ تعيش بها و تحكمها أختها الرهيبة أريشكجال ( لي تحفظ على مسمى أختها، فرغم أن الأسطورة تسميها أختها صراحة، إلا أن أساطير أخرى تزعم أن عشتار هي ابنة إله القمر سِن، إبن إله الشمس شمش، و أنَّ شمش لم ينجو من أركلا إلا بتدبيرٍ من أبيه إنليل إله الريح، الذي دبر مكيدة ذكية كي يخلص زوجته و نفسه من مخالب أريشكجال ملكة العالم السفلي).
لمملكة العالم السفلي قوانين معروفة، لا يسمحُ لأيّ أحد أن يخرقها، أهمها أن من يدخلها لا يمكن أن يخرج منها، إلا إذا أتى بفداءٍ يساويه منزلةً و يحلُ محلَّه. القانون الثاني لا يسمح لأي أحدٍ بالمثول بين يدي الإلهة أريشكجال حتى يمرُ بالأبواب السبعة، و يتخفف من الملابس التي يلبسها عند كل باب. عندما مثلت عشتار عند البوابة الأولى ذهل الحرس، و لم يدروا كي يتصرفوا، و خصوصا أنها أخذت تطرق الباب و تهدد بأنها سوف توقظ الأموات و تنشر الفوضى.
مثلَ حارس البوابة أمام الملكة أريشكجال، و سألها كيف يجدر به أن يتصرف؟ أمرته بأن يعامل عشتار كأي إمرأة فانية، و أن يتغاضى عن صفتها كإلهة. عندما فتح حارس البوابة للإلهة عشتار البوابة الأولى، أمرها بخلع تاجها العظيم فخلعته. عند البوابة الثانية أمرها بخلع أقراطها من أذنيها. عند البوابة الثالثة خلعت القلادة من عنقها. عند البوابة الرابعة نزع الجواهر التي تزين نهديها. عند البوابة الخامس، نزع الحارس الحزام الذي يطوق وركها. عند البوابة السادسة، نزع الحارس الأساور و الخلاخيل التي تحيط برسغيها و قدميها. عند البوابة السابعة، نزع الغلالة الأخيرة التي تغطي جسدها.
مثلت الإلهة عشتار عاريةً أمام الملكة أريشكجال، و التي ما إن رأتها حتى انفجرت غاضبة في حضورها، و أطلقت عليها ستين لعنة تشمل بلاء العيون، و بلاء الجنبين، و بلاء القلب، و بلاء الأقدام، و بلاء الرأس، حتى فقدت عشتار قواها، و علقتها أريشكجال جثة هامدة في قصرها.
حسب الأسطورة، عندما نزلت عشتار إلى العالم السفلي و غابت عن الأحياء، لم ينزو الثور على بقرته، و لم يخصب الحمار أتانه، و لم يجامع الرجال العذارى من النساء. ارتاع الإله "إيا" - إله الحكمة و المياء العذبة- لما حصل، و خاف أن تفنى الحياة بسبب غياب عشتار و توقف الإخصاب بغيابها. قام "إيا" بحكمته المعهودة بإنشاء مخلوق عجيب دعاه "جميل المحيا"، ليس بأنثى و ليس بذكر، و طلب منه أن يحتال على أريشكجال و يجعلها تعده بأن تهبه ماء الحياة كي يرشه على عشتار. يبدو أن صفة "جميل المحيا" الغريبة أشكلت على أريشكجال، إذ سرعان ما غرر بها و احتال حتى جعلها تقسم بأن تهبه ماء الحياة، حتى بعد أن انفجرت غاضبة بعد أن عرفت أنه سيستخدمه لإحياء الإلهة عشتار.
رددتْ أريشكجال في إصرار أن من يدخل أركلا لا يمكنه الخروج منها، و لهذا قامت عشتار -بعد أن رجعت إليها الحياة- باختيار عشيقها تموز كي يحلَّ محلها، في خيانة تعدُ الأولى و الأدهى في نوعها بين العشيقة الأنثى و عشيقها الذكر. انطلقت شياطين السبيتي السبعة من العالم السفلي، و سحبت تموز المسكين لتجعله بديلاً لعشتار يحل محلها. بعد أن رجعت عشتار إلى الأرض أحست بالحزن من دون عشيقها تموز، و ابتهلت إلى أخته كي تذهب لتحل محله. اتفقت أخت تموز مع الإلهة أريشكجال أن تحل محلَّ تموز لستة أشهر، أن يحلَّ هو محلها لمدة الست أشهر الباقية، و بهذا تكونت الدورة السنوية، و أصبح رأس السنة عيداً عظيما يحتفل فيه السومريون بصعود تموز إلى الأرض، حيث يجامع الإلهة عشتار، و تعم البركة، و يحل الخصب.
...
كاهنات المعبد في التراث السومري و البابلي
كما تقدم في الأسطورة، أصبحت بداية السنة السومرية احتفالاً عظيماً يقيمه السومريون احتفاءً بصعود الإله الراعي تموز ليعاشر عشيقته عشتار. هذه المناسبة تتوافقُ مع بداية الربيع، فصل الخصب، و لهذا يحاول السومريون أن يبتهلوا و يقيموا شعائر الأسطورة، حتى يكون فصل الربيع فصلاً خصباً كل سنة. هذه هي المهمة الرئيسية لكاهنات المعبد the pristesses of the temple، أو ما يطلقُ عليهنّ بـ "كاهنات عشتار" أو "كاهنات إنانا". تنتشرُ المعابد المخصصة للإله عشتار في منطقة ما بين النهرين، و تتركزُ بالأخصّ في أوروك عاصمة الدولة السومرية. في معبد عشتار الموجود في أوروك يوجد كبيرة للكاهنات، و هو من أبرز المناصب الفخرية في الدولة. حينما يحتفل السومريون ببداية السنة، يقوم الملك السومري بتمثيل دور الإله تموز، بينما تقوم كبيرة كاهنات المعبد بتمثيل دور الإلهة عشتار. يعاشر الملكُ كبيرة الكاهنات، بينما تهب كاهنات المعبد أنفسهن للرجال الموجودين في المدينة، و يتحولُ المشهد إلى طقس جماعي ديني، حيث ينشغل كل رجل بجماع الكاهنة التي تهب نفسها له ارضاء للإلهة عشتار. كانت كاهنات المعبد يتمتعن بمكانة إجتماعية عظيمة، و لا غرابة حينما نقرأ أنَّ إبنة الملك العظيم سرجون الأكادي و المدعوة إيهودينا، كانت تشغل منصب كبيرة الكاهنات في عصرها.
لا يظل بعض الغموض يحيط بتفاصيل اختيار الكاهنات لمنصبهن، و كيفية وصولهنّ إلى المعبد. هناك من يرجحُ أنهنّ فتيات أيتام، ينشأن و يُربينَ في معابد عشتار، و أن الطقوس المتبعة لتقليدهن هذا المنصب هي طقوس تحاكي أسطورة عشتار، و نزولها إلى العالم السفلي.
أظنُ أن أشهرَ الاسماء التي تتبادر إلى الذهن عند الحديث عن كاهنات المعبد هو اسم العاهرة "شمخات" كما يطيبُ للراوي الشعبي أن يسميها في أسطورة جلجامش. فحسب الأسطورة، خلقت ننخرساك -إلهة الأرض- أنكيدو ليكون نداً لجلجامش بعد أن طغى و تجبر في الأرض، و أصبح أنكيدو يرعى مع الغزلان و الوحوش مما جعل الرعاة و القطعان يجفلون منه. شكى أحد الصيادين ما رآه لجلجامش، فأمره جلجامش بأن يأخذ إحدى كاهنات المعبد، كي تستخدم سحرها الأنثوي في سبيل إغواء و أنسنة أنكيدو. تمضي الأسطورة لتحدثنا كيف استطاعت شمخات أن تغوي أنكيدو، و أن تنام معه لمدة ستة أيام و سبع ليالٍ، في نصٍ يعدُّ الأول من نوعه من حيث الجرأة و الإباحية الواردة فيه:
وصلت الوحوشُ البرية و اتجهتْ إلى الماء
و بعد ذلك أتى أنكيدو، ابن الجبال الذي
يأكل العشبَ مع الغزلان
أتى ليشرب الماء من البركة مع الحيوانات
عندها رأتهُ شمخات-- شخص بدائي
متوحش من أعماق البراري!
"ها هو ذا يا شمخات! أطلقي ذراعيكِ المضمومين
اكشفي عن عورتكِ كي يجامعكِ.
لا تتردي- امتصي طاقته!
عندما يراكِ، سوف يقتربُ منكِ
انشري ردائكِ كي يضطجعَ عليهِ فوقكِ
و أدي في سبيل ذلك الوظيفة البدائية للمرأة!
حيواناتهُ، التي نشأ معها في البرية، سوف تتنكرهُ و تتركه
و شهوته سوف تربطهُ بكِ."
( جلجامش : اللوح الاول )
لقد نجحت شمخات في مهمتها، و استطاعت أن تأنسن أنكيدو و تطوعه ليصبح صديقاً عزيزاً لجلجامش بعد حين. من المثير للاهتمام، أن عشتار التي استطاعت إحدى كاهناتها أن تطوّع أنكيدو لخدمة أهداف جلجامش، سوف تبادل جلجامش و أنكيدو العداء بعد فترة، و تسعى لإرسالهم إلى خمبابا و الثور السماوي كي تتخلص منهم و تنتقم من جلجامش الذي تنكر لحبها على الخصوص.
...
إنتهاء مهنة كاهنات المعبد على يد اليهودية
مع دخول التوحيد للمنطقة ممثلاً باليهودية، سقطت جميع الآلهة المتعددة بما فيها عشتار، و سقطت معها كاهنات معبدها لينظرَ إليهنّ المجتمع باحتقار، و لتجرّم مهنتهنّ و تتحول من إحدى أهم الوظائف في السلم الإجتماعي، إلى أحقر مهنة عرفها التاريخ في نظر المجتمع. لقد أصبحن يعرفنَ بـ "فتيات البغاء" بعد أن كنَّ كاهنات معبد عشتار المقدسات، و أصبح التشريع اليهودي يهددهن بأشنع أنواع العقوبات و الامتهان بسبب مهنتهنّ، كما في النصين التاليين:
" 16مِنْ أَجْلِ أَنَّ بَنَاتِ صِهْيَوْنَ يَتَشَامَخْنَ، وَيَمْشِينَ مَمْدُودَاتِ الأَعْنَاقِ، وَغَامِزَاتٍ بِعُيُونِهِنَّ، وَخَاطِرَاتٍ فِي مَشْيِهِنَّ، وَيُخَشْخِشْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ، 17 يُصْلِعُ السَّيِّدُ هَامَةَ بَنَاتِ صِهْيَوْنَ، وَيُعَرِّي الرَّبُّ عَوْرَتَهُنَّ. 18 يَنْزِعُ السَّيِّدُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ زِينَةَ الْخَلاَخِيلِ وَالضَّفَائِرِ وَالأَهِلَّةِ، 19 وَالْحَلَقِ وَالأَسَاوِرِ وَالْبَرَاقِعِ 20 وَالْعَصَائِبِ وَالسَّلاَسِلِ وَالْمَنَاطِقِ وَحَنَاجِرِ الشَّمَّامَاتِ وَالأَحْرَازِ، 21 وَالْخَوَاتِمِ وَخَزَائِمِ الأَنْفِ، 22 وَالثِّيَابِ الْمُزَخْرَفَةِ وَالْعُطْفِ وَالأَرْدِيَةِ وَالأَكْيَاسِ، 23 وَالْمَرَائِي وَالْقُمْصَانِ وَالْعَمَائِمِ وَالأُزُرِ. 24 فَيَكُونُ عِوَضَ الطِّيبِ عُفُونَةٌ، وَعِوَضَ الْمِنْطَقَةِ حَبْلٌ، وَعِوَضَ الْجَدَائِلِ قَرْعَةٌ، وَعِوَضَ الدِّيبَاجِ زُنَّارُ مِسْحٍ، وَعِوَضَ الْجَمَالِ كَيٌّ! 25 "
( سفر إشعياء الأصحاح الثالث الأية 16 حتى الآية 25 )
"و عاد بنو اسرائيل يعملون الشر في عيني الرب وعبدوا البعليم والعشتاروث وآلهة آرام وآلهة صيدون وآلهة موآب وآلهة بني عمون وآلهة الفلسطينيون وتركوا الرب ولم يعبدوه"
( سفر القضاة: الإصحاح العاشرة- الآية السادسة )