أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 8 من 8

الموضوع: الخليلية/كتابة القصيدة ترجمةً للحركية الفكرية والنفسية والجسدية للشاعر في سرادق الموت

  1. #1
    عضو مخالف
    تاريخ التسجيل : Mar 2006
    العمر : 42
    المشاركات : 1,799
    المواضيع : 128
    الردود : 1799
    المعدل اليومي : 0.27

    افتراضي الخليلية/كتابة القصيدة ترجمةً للحركية الفكرية والنفسية والجسدية للشاعر في سرادق الموت

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة د. محمد حسن السمان مشاهدة المشاركة

    سرادق الموت
    مازال وجهك يابغداد يحزنني والعمر يمضي وقلبي دائم الحزن
    في الصبح اصحو على أنباء مجزرة في الليل امسي على أنباء مرتهن
    أم الربيعين قد صار الربيع بها أشلاء طفل ومدفون بلا كفن
    عند التقاطع أطراف مقطّعة في القرب منها بقايا الجسم والبدن
    سرادق الموت والتقتيل قد نصبت عند المساجد , في الأحياء في المدن
    والقاتلون صنوف في مشاربهم مابين مرتزق للقتل ممتهن
    أو طائفي مريض القلب تحكمه أضغانه السود , مازالت مع الزمن
    أو جاهل بأمور الدين مجترىء قد كفّر الناس من بغداد لليمن
    من كانت القبلة الغرّاء وجهته عند الصلاة , أخ في الشرع والسنن
    من يقتل النفس مقتول بفعلته لايغفر الـلـه ذنب القتل والفتن
    بالـلـه اسأل يا بغداد , أين همُ أين الذين همُ الفرسان في المحن
    من يحقنون دماء المسلمين , فما يسعون إلا لوجه الـلـه والوطن

    الكويت 15/12/2006
    1
    إن محاولة البحث هنا لا تخضع إلى المنظور البلاغي، وإنما بالنقد من منظور أسلوبي حيث نسعى إلى تعليل الظاهرة بعد أن يتقرر وجودها .1
    2وبما أن الشعر هو حالة تمثل لغوي راقية، وأنه تجسد فنيّ لأبلغ مستويات الإبداع اللغوي قولاً وإدراكاً، وبالتالي فهو حساسية انفعالية عالية، يمارسها الإنسان بعد بلوغه مستواها الذي تلاحم حضاري بين الواقع ويمثله الفرد، مع الوجدان الجمعي للغة ويمثلها الموروث اللغوي، وبذلك تتمازج درجات الإبداع بين ما هو فردي وخاص وما هو جمعي وموروث. ومن هنا فإن القصيدة هي خلاصة هذا التوحد الإلهامي الذي به يتحقق (انبثاق اليوم من الأمس) كما يقول رولان بارت . 2
    3
    مجرد قبول النص الأدبي دلالة على أنها جماليات نصوصية مخبوءة داخل لغة النص هذا النص، وعدم استخدامها من قبل يعود إلى أسرار بلاغية لم تتفتق للشعراء بينما تفتقت لهم أسرار إبداعية أخرى استثمروها وأفادوا منها حتى أنهكوها، ولم تعد صالحة لنا كإبداع جديد. . 3
    وبتصريف ما (ما دام الحديث بشأن موسيقا الشعر) يتناسب مع ما عرف عن العرب من أن البحث والتقعيد في فنون الشعر "من نماذج " سنتمثلها احتجاجاً لقاعدة عامة "إن هذه إلا أمثلة " تثبت "أن الشاعر العربي قد تعامل مع الوزن بتحرر وبنفس مفتوحة وقد ساعده طائفة من النقاد القدامى على ذلك، ولم يجعلوا من تحرره عيباً يخل بالقصيدة. 4
    وإنه لم يرو لنا من الشعر إلا نسبة قليلة منه وهذه حقيقة ثابتة بالعقل والنقل وثبوتها بالعقل هو أنه لم يرو لنا من الشعر إلا ما حفظته الذاكرة على مر ما يقارب قرنين من الزمان، وقرنان من الزمان كفيلان بإضاعة الكثير مما قيل، أما ثبوت ذلك بالنقل فهو ما ذكره ابن سلام الجمحي من أن العرب لما جاء الإسلام تشاغلت بالجهاد عن الشعر فلما راجعوا رواية الشعر فلم يلجئوا إلى ديوان مدون ولا تاب مكتوب فألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل فحفظوا أقل ذلك وذهب عنهم منه أكثره" 5
    4
    وهنا في ساحة تلك القصيدة التي نحن بصدد الحديث عنها نحاول أن نتفهم الشاعر من خلال النص والنص من خلال الشاعر، والواضح أن القصيدة كتبت على الشكل المتمثل في البحور والتفعيلات التي استنبطها الخليل من استقرائه للشعر العربي القديم، "والتي تحولت إلى قواعد ثابتة وراسخة سار عليها الشعراء طوال العصور السابقة بوصفها إطاراً صوتياً أو إيقاعيا محايداً وثابتا مفروضاً عليهم سلفا فيمسي –حسب تعريف اليزابيث- إطاراً آليا أو عرفياً يحتذيه الشاعر أو يسير على منواله لينمي من خلاله حركته الشعرية" . 6
    ومن ثم نادت نازك الملائكة إلى الشعر الحر من حيث هو- "إيثار المضمون وذلك كردة فعل مباشرة على إحساس الشاعر الحديث بأن الشعر العمودي قد تحول إلى تجربة شعرية تهتم بالشكل أكثر من اهتمامها بالمضمون وذلك مما جعل المعنى تابعاً للوحدة العروضية للبيت ينتهي في نهايتها مثلما يبتدي في بدايتها. 7
    ولو دققنا النظر في كل من يتحدث عن تجربة الشكل الخليلي في آخر فقرتين نجد أن الدكتور عبد السلام والشاعرة نازك الملائكة يستخدمان الفعل (تحول)والمعنى اللغوي لذلك الفعل هو " تَحَوَّل: تنقل من موضع إِلى موضع آخر. والتَّحَوُّل: التَّنَقُّل من موضع إِلى موضع" . 8
    ففي استخدام هذا الفعل اعتراف من الكاتبين أنه كان هناك فائدة ما للشكل الخليلي غير مجرد الإطار، أو كان هناك مساحات من الفنية التي ابتكر لأجل مناسبتها ذلك الشكل الخليلي بأوزانه وقوافيه ولكنه (تحول ) إلى إطار آلي..
    وأكثر العوامل التي تعين على مثل هذه الآلية هو كثرة الاستعمال وبعد العهد عن الأصل. وأنه أحياناً يطغى علينا تقليد القدماء لا لنفع المنهج بقدر تهيبنا لمكانتهم ومحبتنا لهم..
    ونحن نكتسب حركاتنا ونكون علاقتنا عبر التاريخ بالمحاكاة أكثر منه بالتعلم المتدبر للأمر فالأب يقلد أباه وتترسخ تلك العادات التي يحاكيها في العقل اللاواعي عنده، ولكن يبقى أن الابن يتعامل مع هذه المفردات المكتسبة بفهم جزئي..
    فإن منيرفا سيفوس التي عنفتها أمها لأنه قلبت منفضة السجائر الزرقاء قطعت عهداً على نفسها أن لا تقلب أو تلعب بأي طبق أزرق ثانية لئلا تغضب أمها –أو لتفوز بحق الرضا من الأم/الشاعر السابق ، ومن ثم فقد لعبت بمنفضة أخرى ولكنها خضراء، البنت اهتمت أو انتبهت للشكل واللون /الإطار، ولكن الأم كانت تقصد الطبق المتكامل مع ما تؤديه تلك الأطباق من وظائف.. فتتلقى البنت التأنيب لأنها لعبت بواحدة ذات لون أخضر، وعندما اكتشفت أمها الخطأ وضحت لها، وبذلك عرفت منيرفا أن المهم أن تتفهم وضعية هذه الأطباق من خلال استعمالها الذي أعدت له 9
    ولا شك أننا نتفهم مفردات الكون بما تمثله لنا هذه المفردات ، فمن الممكن أن نحتفظ بكرسيين ولكن نفكر في كرسي آخر وحبه أكثر من الثاني لسبب واحد أنه كان الكرسي الذي أقعدني عليه أبي يوم عيد ميلادي بمحبة أو أنه الكرسي الذي كان يحب أبي أن يقعد عليه كثيرا، ويحدثني برفق. 11
    ومن ثم فمن الوارد جدا نفسيا أن نتغاضى عن الفائدة النفعية الحادثة من ذلك الكرسي أمام تلك المتعة الروحية والبصرية والسمعية التي تؤلفها حضرة ذلك الكرسي.
    ولا أحسب إلا أن التراث الشعري الذي ورثناه عن آبائنا يزيدنا إحساساً أن الوزن الشعري والتقفية أو مساحة البيت ما كانت إلا بدافع أعمق من مجرد الإطار، حيث إن هذا الإطار كان يتشكل تبعاً للمضمون مثلما يساهم في تشكيل المضمونِ تبعاً له، بمعنى أن الشكل والمضمون كانا في شد وجذب يؤكد لنا هذا ما روي في الكامل للمبرد حيث تزداد تفعيلة في البيت أو تنقص تفعيلة عن المعتاد، ولعلنا بهذا نتأكد من أن الوزن في بدايته اعتبرت فيه فائدة فنية تتابع التطور الانفعالي والنفسي والتصويري واللغوي عند الشاعر وليس فقط لمجرد الشكلية التي نقلها لنا الزمن عبر أجيال طويلة من الشعراء فقد " يروى أن علياً رضي الله عنه أتي بابن ملجم وقيل له: إنا قد سمعنا من هذا كلاماً ولا نأمن قتله لك? ثم قال علي رضوان الله عليه:
    اشدد حيازيمك للموت =فإن الموت لاقيكـا
    ولا تجزع من الموت =إذا حـل بـواديكـا

    والشعر إنما يصح بأن تحذف اشدد فتقول:
    حيازيمك للموت فإن الموت لاقيكا
    ولكن الفصحاء من العرب يزيدون ما عليه المعنى، ولا يعتدون به في الوزن، ويحذفون من الوزن، علماً بأن المخاطب يعلم ما يريدونه. فهو إذا قال: حيازيمك للموت، فقد أضمر أشدد فأظهره، ولم يعتد.
    قال: وحدثني أبو عثمان المازني قال: فصحاء العرب ينشدون كثيراً:
    لسعد بن الضبـاب إذا غـدا =أحب إلينا منك فا فرس حمر

    وإنما الشعر:
    لعمري لسعد بن الضباب إذا غدا" 12
    وهذا صراع المساحة المقررة مع المعنى ونفس الشاعر..
    وقريب مما سبق أن نزع قدامة بن جعفر كلمة من حشو بيت لأبي عدي العيشمي:
    نحن الرؤوس وما الرؤوس إذا سمت=في المجد للأقوام كالأذناب
    فقد أسقط كلمة (للأقوام) على أنها "حشو لا منفعة فيه ولو أسقطها الشاعر لجاء البيت كالتالي "في المجد كالأذناب" ثلاث تفعيلات في الشطر الأول واثنتين في الشطر الثاني"13 وهذا على مبدأ ما أورده المبرد من توافق المساحة النفسية مع المساحة العروضية المطروحة..
    وقصيدة عبيدة بن الأبرص : 14
    أقفر من أهله ملحوب فالقطبيات فالذنوب،
    حيث زحف واستخدم أكثر من وزن شعري تبعاً للتطور النفسي الحادث واللغوي المتفاعل مع الناحية النفسية..
    وقصيدة للأسود بن يعفر الشاعر الجاهلي الذي كتب قصيدة من خمسة أبيات على أربعة أوزان : 15
    إنا ذممنا على ما خيلت سعد بن زيد وعمرو من تميم
    ولعله يزيد من إيماننا أن الشكل الخليلي له توافقات وتداخلات مع المشاعر الإنسانية ووجه الشبه بينهما هو التنوع والتعدد والبساطة أحينا والتعقد أو الازدواج أحيانا أخرى، والمتداول كالذي وصلنا من بحور الخليل، والمتخفي كالذي ألمح إليه الزمخشري بقوله: " 16والنظم على وزن مخترع خارج على أوان الخليل لا يقدح في كونه شعراً، ولا يخرجه عن كونه شعراً" فيكمل قوله ونظرته وجهة نظر الجاحظ الذي يرفض المحفوظات من الأوزان ويترك الأمر للنفس الشاعرة أن تبتكر حوارها الموسيقي حيث العروض بأنه: أدب مستبرد ومذهب مرذول" 17
    والأمثلة كثيرة في الحماسة وفي غيرها ولعل القارئ يجد سعة من التفصيل والشرح في "الخطيئة والتكفير/ الصوت القديم الجديد" للدكتور عبد الله الغذامي..
    وهناك القصائد القائمة على تفعيلة واحدة
    وهناك من شعراء العرب من أرسلوا القافية
    ولعل أكثر ضربة لمجرد فكرة الشكلانية لأوزان جدودنا من قدامى الشعراء في ذكر أبيات لعروة بن الورد –وهو جاهلي أيضاً-18 فإن مثل هذه الأبيات فرضت على قارئها الذي يريد أن يقف على تفعيلاتها أن يكتبها بطريقة كتابة الشعر الحر:
    يا هند بنت أبي ذراع =أخلفتني ظني ووترتني عشقي
    ونكحت راعي ثلة يثمرها=والدهر فائته بما يبقي
    ويقول الدكتور عبد الله الغذامي: "ولن نجد وزنا ثابتاً إلا إذا نحن كتبناها بطريقة الشعر الحر كالتالي:
    يا هند بنت أبي ذراع مستفعلن متفاعلاتن
    اخلفتني ظني مستفعلن فعلن
    ووترتني عشقي متفاعلن فعلن
    ونكحت راعي ثلة متفاعلن مستفعلن
    يثمرها مفتعلن
    والدهر فائته بما مستفعلن متفاعلن
    يبقي فعلن.
    فيصبح على وزن الكامل بطريقة الشعر الحر19 ..
    محاولة تعليل لسيادة ومصالحة
    بين الشكل والمضمون عند الشعراء الذين نراهم التزموا بالمساحات والقواعد المقررة بواسطة استقراء الخليلي للواقع المتوفر أمامه من منقولات ومرويات من الشعر العربي..
    وفي ذلك سنستخدم بعض قواعد علم النفس البدهية في نشأة ونمو بعض العادات الحركية أو النفسية أو اللغوية..
    فمن المعتاد أننا نقوم بحركات كثيرة جدا بشكل تلقائي وتخرج كثير من كلمات المعاملات والتي تساعد في علاقاتنا الاجتماعية بشكل تلقائي وفي كثير بشكل محدد بمساحات معينة اعتدنا عليها أو نشأنا في جو أسري يؤيدها ويلتزمها فكانت تخرج بنفس القدر مهما اختلفت المواقف والأجواء..
    - طبعاً ليس الاختلاف الجذري بين المواقف ولكن باختلاف بسيط بحيث يكون مبررا لممارسة الإنسان لعاداته وطبيعته-
    فالعامل الذي يتدرب في المصنع يجد صعوبة أول الأمر وكذلك لذة في الإنجاز والإبداع في تعلم حرفة العمل على ماكينة أو في نسيج أو أو .. ولكنه بعد فترة زمنية تجده يمارس هذا العمل بشكل لا يحتاج إلى مجهود كبير، بل وقد يتعود جسمه على عدد معين من الساعات في العمل أو حركات معينة يؤديها بنفس القدر والفترة الزمنية بغير تفكير عميق في الأمر فضلا عن أن يكون هناك تفكير أصلا..
    واعتياد الإنسان لهذه العادات والطبائع لا ينفي إمكانيات أخرى في متابعة تلك الأعمال، ولكن فقط يؤكد التلقائية في ممارسة العمل التي ورثها العقل من كثرة الممارسة..
    ولعل العادات اللغوية تتوارثها البيئات والمجتمعات كاملة من خلال العقل الجمعي للأمة أو المجتمع..
    ولا نبعد كثيرا حين نقول إن التزام المتعارف عليه الآن من مساحة عروضية في البيت أو القافية :
    1- لا يلغي تلك الطاقات التي استخدمها أجدادنها وأنها في متناولنا متى ألغينا التصرف التلقائي من أذهاننا.
    2- أن ممارستها لا تعني القيود والتقيد بقدر ما تعني الاعتياد الناشئ عن النشأة والممارسة الطويلة (على مستوى الشعور/ اللاشعور الجمعي –الأسري للفرد).
    3- سهولة أن يتحول الأمر إلى مجرد روتين ليس أكثر، ولكن المشكلة وقعت في أننا نحاسب الشعر نفسه على هذه الروتينية ولم نحاسب تلك الفطرة التي حولت (كما قلنا) تلك الحركية الإيقاعية (الجدود) إلى روتينية شكلية نستعملها كالإناء في طبخ الكلمات..
    ومن ثم فإننا يمكن أن نخرج إلى أن:
    - تقييم الشكل وإمكاناته في الشعر القديم تقييم قاصر..
    - وتقييم الشكل في الشعر الحديث تقييم غير كامل لأنه اعتمد على مقدمة تقييمه للشكل القديم بانفصاله عن المضمون.
    ولكن هل تبقى العادة المتوارثة في اللاشعور أو المكتسبة من بيئة ما أو جو ما غير ذات معنى، ولا تشير لشيء؟
    هذا ما لا يفكر فيه صاحب العادة نفسه ولعلنا نطرح تصوراً لمناسبة تلك العادة لمضمون حياة شاعرنا صاحب (سرادق الموت) الذي اختار نظام العمودين مجالا لحركته النفسية والشعرية..
    لعلني هنا لا أبتعد حين أشابه بين تلك العادة الإيقاعية المتوارثة وبين النحو الفطري الذي أنبأنا عنه شيخنا عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز.
    وجينات الفكر المتوارثة هنا تحوم حول ما قاله الدكتور المسدي من"أن نسيج الإبداع الفني لدى الأديب من التلقائية بحيث يغدو كولد لا يصحبه الإدراك في لحظة نشأته الأولى"20
    وهناك في حياة الشاعر الدكتور محمد حسن السمان صاحب (سرادق الموت) ما يثبت:
    - أن يكون أسيراً للحالةالإبداعية في القصيدة ولإحساسه العميق: فهو حين كتب في أحد ولديه هذا البيت:
    يا أقرب الناس من قلبي ومن خلدي=أنت الوحيد الذي في حبه أثقُ
    أُخذ عليه المعنى هنا، ولكنه رد بكل بساطة:
    هذا ما أحسسته وقت الكتابة.
    ومن هنا فهو لا يستسلم لحالة الصنعة وحرفة الشعر وأدواته، بل يترك المساحة الكاملة أو المطلوبة أو الواجبة لإحساسه وكلماته وحركاته الفكرية والنفسية لكي ترسم نفسها على الورقة، ولا ننسى أن ذلك بعد أن قضى سنين طويلة في دراسة أدوات الشعر العربي /الغربي.. فانصبت كما قلنا كالعادة التي يمارسها بتلقائية وصارت تصطبغ بلمسات إحساسه مثلما تقرر عليه أحياناً..
    فإن مارس الشكل العمودي بمساحات عروضية متساوية فقد أثبت لنا من قبل أنه لا يخضع إلا للحالة التي يحس بها، وأن الشكل العروضي يأتي في المقام الثاني ولعل ما يثبت هذا وقوفه في عروض القصيدة على متحرك21 :
    بالله أسأل يا بغداد أين هم=أين الذين هم الفرسان في المحن
    ورغم أن نقاد القصيدة الذين مروا عليها أخبروه أنه ممنوع الوقوف على متحرك، إلا أنه لمس فيها معادلة غير مسبوقة وتعبيرا كاملاً ومنضبطاً عن إحساسه وقت الكتابة، وابن جني من خلال تلك اللمسات يؤكد لنا شاعرية صاحب سرادق الموت!! ولم لا؟ وهو قريب من عمل غيلان الربعي حيث أقوى في أحد أشطر أرجوزة له فعلق ابن جني على هذه المخالفة من الشاعر بقوله (إن مجيء هذا البيت في هذه القصيدة مخالفاً لجميع أبياتها يدل على قوة شاعرها وشرف صناعته وأن ما وجد من تتالي قوافيها على جر مواضعها ليس شيئاً سعى فيه، ولا إكراه طبعه عليه، وإنما هو مذهب قاده إلى علو طبقته وجوهر فصاحته".
    وقريب من موقف ابن جني موقف قدامة والخليل من الزحاف بقلة ..
    ولكن شاعرنا السمان هنا لا يتوقف عند حد مجرد هذا الثناء على موقفه الذي يشبه من زاوية ما موقف غيلان، وإنما نجد لوقوفه على ذلك المتحرك (انسجاما ) مع الشطر الثاني ما فيه من بلاغية لا يعادلها وقوف على ساكن إطلاقا 22
    وبما كان من حسن التوحد وروعته بين شاعرنا وبين معناه وبين موروثات بيئته التي تتأكد لنا على الأخص في (تأنيث كلمة سرادق) 23 ، وما حدنا عنه من تفسير (الجسم والبدن) بما يوضحه من العامية السورية.
    بما كان من موقفه في (أنت الوحيد الذي في حبه أثق) وفي الوقوف على ساكن خضوعاً للحالة الانفعالية وكأنه يحكيها لنا بالكتابة يمكننا أن نقرر أن الشكل العمودي (ولا ننسى علم الشاعر بطاقات النظم التي عند الجدود) –أن هذا الشكل ليس مجرد إناء يطهو فيه الشاعر أو يتابع كلماته وهي تستحم في حوض استحمام، وإنما هو محاكاة كاملة لأسلوب الشاعر الحياتي أو الطبعي في حواره الحياتي ..
    ومن يتوفر له فرصة للقاء بالشاعر في محادثة وجهاً لوجه يجده يتوقف لحظات معدودة كلما زرع عددا من الكلمات المحسوبة في سمع المتلقي .. ويركز عينيه بشكل شبه حاد، يوحي إلى الرائي بأنها لحظة تفكير وتجميع واستعداد، وهل يناسب تلك الوقفة المتدبرة التي يمارسها الشاعر في حالات انفعاله بالموقف الحواري المعتاد في حياته العادية إلا وقفة الإشباع لحركة الروي؟!
    إن آخر البيت تحول هنا من كونه مجرد نهاية لعدد من التفعيلات إلى / محاكاة لحركة الشاعر الفكرية حالة الحديث/ ولعلها الحالة التي تناسب دوما أسلوب الحكماء الكبار في السن حين يمارسون الحديث لغرض التأثير والتركيز.
    لعلها وقفة التفكير والنضج والخبرة والوزن لكل كلمة يقولونها..
    ولعل هذه المحاولة للتحليل تؤيد لنا تعريفهم الأسلوب بأنه "بصمات تحملها صياغة الخطاب فتكون كالشهادة التي لا تمحي وهذه الصورة صاغها بروست Prost مونان ودي لوفير".24
    ولست هنا بناقد بلاغي ولكني أقرأ من زاوية النقد بمنظور أسلوبي ذلك المنظور الذي يسعى إلى تعليل الظاهرة بعد أن تقرر وجودها"25
    الشاعر هنا يقيم معادلة بين الحركة الفعلية لأفكاره ونظراته وبين وقفاته وإشباعاته في كتابة القصيدة باعتماد الشكل العمودي26 فإن دوافع الحرية والتشكيل النفسي والفني والتطوير والاستقلالية التي سجلها الشعر الحر لنفسه قد سجلها لنا الشاعر الآن في (ٍسرادق الموت) غير منافٍ للواقع الفكري والعصري والقضية والشعور ولا طاقات اللغة الرهيبة التي أمكننا الوقوع عليها وتحليلها بتفصيل 27 .
    إن الشكل الخليلي إن عد في العصر الحالي مجرد روتينيات إيقاعية 28، فهو عند السمان مناسب تماماً للحالة والحركة والمساحة النفسية.
    وأما عن مساحة العروض التي تقررت هنا في ثمانية تفعيلات البسيط فإننا نجد لها تفسيرات كثيرة لا تتعارض مع هذا الوجود الحي في إشباع حرف الروي، فهي من زوايا نذكر منها:
    - أولاً إن مساحة العروض اختارها الشاعر بإرادته أو كتب حسب حالته التي استدعت البسيط.
    - لا ننسى ما قدمنا من أن المساحة قد تزيد وقد تنقص ودللنا على ذلك عند المبرد وغيره.
    - رغم المساحة المتكررة في قدرها هنا، فإن الشاعر اخترقها أحياناً، بأن جعل من شطر ما جملة واحدة، أو جعل في شطر جملتين، أو جعل البيت كله جملة واحدة، أو تراجع بحركة نفسية انفعالية كما في (هم) في مساحة البيت ، فحتى لو اعتبر تكرار نفس المساحة العروضية تقييداً، فقد اخترقه الشاعر بنفس المعيار الذي وضعته نازك الملائكة كمحاولة لدفع الملل المترتب على تكرار نفس التفعيلة وتتلخص المحاولة في : "تنويع اللغة وتوزيع مراكز الثقل فيها وترتيب الأفكار، فهذه كلها عناصر تعويض تخفف من نوع النغم الممل".
    - إن الشاعر في مرحلته العمرية هذه بالتأكيد صار يحفظ خبراته وكأنه لو ألقاها –وهذا شائع- لشعَرْنا في كثير من الأحيان أنها محفوظات لديه تبعا لطول المعاشرة وكثرة التفكير فيها وتحديدها و و ، ولا بأس من النظام في كل شيء حتى في فترة الحديث نظاما ً للترتيب وليس للتقييد.
    - وفوق هذا وذاك: هل أثر عن العرب الأوائل نص شعري مكتوب؟ أو بصيغة أخرى: هل هناك جزم من أحد أن الشطر الذي كتبت كلماته مع بعضها في عصر متأخر كانت يلقيها الشاعر المؤلف في العصر الجاهلي –أو حتى فيما بعده من عصور- كان يلقيها بغير احتمال أية وقفات ممكنة لأي غرض من أغراض الإلقاء كالتشويق والإثارة وغيرها.؟؟ إن اللغة تحمل في صوتيتها طاقات قد لا يمكننا التعبير عنها بالكتابة بأي شكل؟!

    وأسألكم -إخوتي الكرام - الدعاءَ

  2. #2
    عضو مخالف
    تاريخ التسجيل : Mar 2006
    العمر : 42
    المشاركات : 1,799
    المواضيع : 128
    الردود : 1799
    المعدل اليومي : 0.27

    افتراضي

    1 أسلوب طه حسين في ضوء الدرس اللغوي الحديث صـ9 الدكتور البدراوي زهران نقلا عن الأسلوب والأسلوبية للمسدي صـ48، 49 ومراجعه / دار المعارف.
    2 الصوت القديم الجديد دراسات في الجذور العربية لموسيقى الشعر الحديث صـ5 د. عبد الله الغذامي الهيئة المصرية العامة للكتاب 1987م.
    3الصوت القديم الجديد دراسات في الجذور العربية لموسيقى الشعر الحديث صـ6 د. عبد الله الغذامي الهيئة المصرية العامة للكتاب 1987م.
    4نفس المرجع السابق 104.
    5ابن سلام الجمحي طبقات الشعراء 10 نقلا عن الصوت القديم الجديد صـ105.
    6 موسيقى الشعر صـ23 للدكتور عبد السلام سلام كلية الآداب جامعة الزقازيق ًــ23، 24.
    7 الصوت القديم الجديد صـ41.
    8 لسان العرب
    9 الطب النفسي والتحليل النفسي صــ106 إريك برن ترجمة إبراهيم سلامة إبراهيم مراجعة د. فهيم كلير.. الهيئة المصرية العامة للكتاب.
    10 رؤية في الشعر الجاهلي / دراسة تحليلية في حركية الشعر العربي
    د/ هلال الجهاد
    11 وفي هذا من الحرية والاستمتاع واللذة والتنفيس لطاقة الحياة ما فيه، مما يجعل المرء يبذل كثيرا من حرياته الأخرى مقابل هذه الحرية الكامنة في لذة التفاعل الروحي مع الذكرى.. ولا شك أن هذه ممارسات مشروعة للمخزونات النفسية.
    12الكامل في الأدب للمبرد الجزء مكتبة مشكاة الإسلامية على الإنترنت..
    13الصوت القديم الجديد 103
    14الصوت القديم الجديد صــ79، 80، 81، 82، 83، 84، 85، 86.
    15الصوت القديم الجديد 86، 87.
    16 د. عبد الله الغذامي صـ89 نقلا عن الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه مسوسيقى الشعر ص51
    17 العيون الغامرة// الدماميني صـ 89
    18 الصوت القديم الجديد صــ92، 93
    19 الصوت القديم الجديد 92.
    20 من الأسلوبية والأسلوب نقلا عن الصوت القديم الجديد صـ9.
    21فكرة تفسير الحوار في البدل والمبدل منه صــ 31.
    22انظر الدراسة في تحليل البيت (حركية الكلمة في سرادق الموت للشاعر د. محمد حسن السمان) أحمد حسن محمد.
    23انظر الدراسة في تحليل البيت:
    سرادق الموت والتقتيل قد نصبت=عند المساجد في الأحياء والمدن
    (حركية الكلمة في سرادق الموت للشاعر د. محمد حسن السمان) أحمد حسن محمد
    24 الصوت القديم الجديد صـ9
    25 الأسلوبية والأسلوب صـ48، 49 ومراجعه نقلا عن الصوت القديم الجديدصـ9.
    26فكرة الحوار والحكاية (البدل والمبدل منه) صــ30، 31
    27حركية الكلمة في سرادق الموت للشاعر محمد السمان – الكاتب أحمد حسن
    28البدل والمبدل منه صـ6.. بين توظيف التراث وحفظه..

  3. #3
    الصورة الرمزية مجذوب العيد المشراوي شاعر
    تاريخ التسجيل : Oct 2004
    المشاركات : 4,730
    المواضيع : 234
    الردود : 4730
    المعدل اليومي : 0.66

    افتراضي

    أحمد قرأت واستفدت وكنت فارسا في ما تقول .

    أقول 50سنة ونحن نبحث عن الأشكال الأخرى فما الذي أتينا به ؟

    الأزمة وقعت عندما ظننا الشعر هو التفعيلة ولم ندرك أن الشعر شرحته التفعيلة .

    كان أنعاما وشرحته التفعيلات أما اليوم فالكل يأخذ بالتفعيلة ليكتب شعرا . هذه الطريقة لن تلد شعرا لأن الشعر كان قبلها .. شكرا

  4. #4

  5. #5

  6. #6

  7. #7
    الصورة الرمزية د. محمد حسن السمان شاعر وناقد
    تاريخ التسجيل : Aug 2005
    المشاركات : 4,319
    المواضيع : 59
    الردود : 4319
    المعدل اليومي : 0.63

    افتراضي

    سلام الـلـه عليكم
    الغالي الأديب والناقد واللغوي الفذ
    أحمد حسن

    أنت تدهشني دوما بقدراتك , لاشك بأن العمل الأدبي أو الفني , يشبه ماسة يبدعها الأديب او الفنان , ولكن هذه الماسة الثمينة , لايظهر القها أو قيمتها أو بريقها , إلا بوجود جواهري ماهر , يقدر قيمتها ويشرح للآخرين مزاياها , بما يمتلك من احساس مرهف وأدوات ومقدرة على الاراءة , والحقيقة , لو أن لوحات رامبرانت , لم يتح لها المتذوق والناقد , الذي يفهم قيمة الابداع بها , وبعطي القيمة حقها ويشرحها للناس , لما كانت في أرقى المتاحف العالمية , بل لبقيت معلقة في صالات بعض البيوت القديمة , أو ربما في مخازن الامتعة القديمة .
    ما يدهشني هو ما أراه هنا , فهو ليس حالة عمل وناقد , إنما أشهد حالة ابداعية في النقد , تكشف عن تذوق أدبي متفوق , ومخزون ثقافي كبير , ووضع الجزئيات في تكامل غير مسبوق , شيّق التقديم , بليغ اللغة والحجة , إنها دراسة أدبية أكاديمية غير مسبوقة .

    كم أتمنى أن أرى هذا العمل كتابا ورقيا , يحوي بين دفتيه هذه الدراسة الأكاديمية الابداعية .

    د. محمد حسن السمان

  8. #8
    عضو مخالف
    تاريخ التسجيل : Mar 2006
    العمر : 42
    المشاركات : 1,799
    المواضيع : 128
    الردود : 1799
    المعدل اليومي : 0.27

    افتراضي

    وكذلك لو أن لوحات شاعرية أنفاس الدكتور
    محمد حسن السمان
    لم توجد لما كان هناك متذوق أسمه أحمد ..
    ينتظر منك رضا الأب..
    ومن ثم فكان أولى به أن يفتح الطريق أمام الآخرين لكي يتعودوا
    رصد الجمال المختلف عما عهدوا..
    أتدري يا أبا الإنسان والدنيا!!
    أفكر أحيانا في عمل رائع يخلد ذكرك بين الناس، فلا أجد أكثر من ملامح قلبك عملاً شعريا أو
    فنيا لم توفه بلاغة التحليل حقه حتى الآن..
    ولكن بالتأكيد سيحمله للأجيال القادمة من يولدون من هذا القلب..
    ويزرعون باسمه بلاغة فنية جديدة..
    ليؤسسوا مدراس تحمل جناحيك..
    وملامح وجهك الغالي..

المواضيع المتشابهه

  1. سرادق الموت
    بواسطة د. محمد حسن السمان في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 124
    آخر مشاركة: 09-06-2023, 06:46 PM
  2. تأملات شاردة في محراب سرادقٍ نبيل: "سرادق الموت لشاعرنا الفذ الدكتور محمد حسن السمان
    بواسطة د. مصطفى عراقي في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 14-09-2012, 01:57 AM
  3. اللغة / الصورة / الاستدعاء .. في (سرادق الموت) عند الشاعر الدكتور محمد حسن السمان
    بواسطة أحمد حسن محمد في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 31-05-2007, 11:04 AM
  4. حركية الكلمة وامتدادات دوائرها في سرادق الموت للشاعر د. محمد حسن السمان
    بواسطة أحمد حسن محمد في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 25
    آخر مشاركة: 14-05-2007, 04:39 PM
  5. آثر السجود فى الأمراض العصبية والنفسية
    بواسطة منى محمود حسان في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 12-04-2006, 11:31 AM