من عبق البادية
قصة كتبها : محمد بن الطيب الحامدي
عاد مزهوا ، شارباه العريضان يخفقان كجناحي نسر يافع والزمام في يمناه يلوّح به كمن يلوح بسيف بعد نصر . وكان يتبختر وراءه في خيلاء وكأنه قد فهم أن الاحتفال يعقد من أجله . وزغردت المرأة . وتحلّق الأولاد في حذر وتردد حول تلك الدابة الضخمة في كل شيء واللطيفة في كل شيء : عينان سوداوان واسعتان ، وأذنان كلما تقدمت إحداهما تراجعت الأخرى ، ورقبة كرقبة الإبريق ( هكذا وصفها ولده الأوسط فنهره أبوه خوفا من العين ) وذيل طرفه شعر كـأنه فرع غادة ضمخته الحناء .. لمسه أصغر الأولاد وأكثرهم جرأة فأدار الجمل له رأسه محذرا . وقالت البنت :
- أبي ، لماذا رقبته طويلة هكذا ؟
- لو كانت مثل رقبتك لا تكاد تظهر لما استطاع إلى الأكل سبيلا .
فغمغمت والضحك من حولها يلفها إحراجا : لكني آكل بسهولة .
- أبي ما هذه القبة فوق ظهره ؟ كيف نركبه ؟ فردت الزوجة ضاحكة لسعادتها لا لقول ابنها :
- ذاك سنام يا غبي .. كأنك لم تر جملا إلا اليوم !
وصاح الأب : لا تقولي جملا ، إنه حولي ، للتو أتم عامه الأول
وطفق الأولاد يقدمون لجملهم كل ما كانوا يأكلون منه فينهرهم الأب : إنه دابة ويأكل ما تأكله الدواب .
قد استراح الآن من تدلل " أبي نقص " ( وقد حرف اسمه " أبا كامل " فاشتهر التحريف ونُسي الأصل ) . وسيحرث أرضه كيفما يشاء ، ومتى يشاء وبالقدر الذي يشاء . إنه حرّ الآن ، ولن ينتظر حتى " يستعيد جمل أبي نقص الهرم عافيته " . سيصرخ في جمله ليسرع كما يشاء ، بل سيضربه إن استحق ذلك ، بل سيضغط على المحراث حتى يبلغ قلب الأرض كما يشاء ، بل سيسب جمله ويلعنه كيفما يشاء .. إنه جمله وهو حر فيه .
انكسر حر الشمس قليلا بأن مالت عن قبة السماء ، فأخرج المحراث من حظيرة مهجورة وطلب زيتا ورمم ما بلوازم الحراثة من نقص ، وبمهارة فائقة نسقها بشكل توضع به فوق ظهر الجمل فتمسك بسنامه بإحكام .أناخه فأطاع ، ووضع المحراث معلقا بسنامه فواصل اجتراره دون مبالاة ، وأمره أن ينهض فانتفض واقفا . وعاد ابنه الأكبر يسأله : سبحان الله هذا الجمل تبلغ قوته أضعاف قوتك يا أبي فكيف يطيعك وينصاع إليك ؟
- يقال يا عزيزي إن أحد الأنبياء عليه السلام ، لا أدري أيهم ، قد أمر الإبل بأن تطيع من يملكها . وأخفى الولد ابتسامته حتى لا يراه أبوه فتقوم القيامة لحظتها .
وسار الركب : الأب من الأمام وخلفه الجمل بل الحولي متهاديا وخلفهما الأولاد والزوجة باتجاه الحقل ، هناك قرب البحر . وعند شجرة التين العجوز توقف الجميع . وذهبت المرأة تجمع بعض القش لتوقد النار وتعد الشاي المركز ( إذا وضعت فيه عود ثقاب يقف ،، هكذا يعجبه الشاي وإلا فلا ) .. وتحلق الأولاد حول جذع شجرة التين يطاردون يربوعا قفز هناك .. أما هو فقد أنزل المحراث ، وربط كل شيء إلى الحولي وهو يترنم بنغم ( من علاك يا جمل ) ، والحولي يجتر بلا أي اهتمام .. ثم وقف خلف المحراث ويداه تضغطان عليه بشدة ، وصرخ ( زع ) فانطلق الجمل متهاديا والمحراث يشق الأرض في حفيف مطرب .. وصاح الكبير والصغير ( الله أكبر ، ما شاء الله ) .
بلغا آخر الأرض من الجهة البعيدة في مقابل البحر ، وعليه أن يعود الآن بأخدود آخر محاذيا للأول ، وسار الجمل قليلا هادئا كما بدأ .. وفجأة انتفض وجفل وهاج وصار يركض في كل اتجاه ... ذكروا الله كثيرا وصلوا على رسوله حتى جفت الحلوق . ولكن الجمل كان ما إن يواجه البحر ويرى موجه حتى يجفل ويضطرب ويخرج عن طوره ولا يهدأ .
فصاحت المرأة " عين أصابته " .. وبلغ الجهد من الأب مبلغه وهو يقوده ويصرخ ويضرب ويسب ويشتم .. ولكن دون فائدة .. أوقفه عند شجرة التين والبحر من خلفه حتى لا " يطير " وذهب مسرعا إلى البيت وعاد لاهثا يده خلفه ، ثم وقف قبالته ومسك بشدة ملتقى الزمام تحت الفكين قرب الرقبة وذكر الله ثم نحره قائلا : أيها الغبي عندما كان النبي يوصي الإبل بطاعة أربابها ، في أية ربوة كنت ترعى فلم تسمعه .. "
وذهب إلى البحر ليغسل يديه والصياح خلفه ، خطا خطوتين ثم وقف ليقول : لا يأكل الأولاد من لحمه حتى لا تنتقل إليهم عدوى العناد والغباء . " .
________
( زع ) كلمة تقال للجمل حتى يسير في بادية تونس ، ولعل شباب اليوم لا يعرفها
محمد بن الطيب الحامدي