الأخت الفاضلة .. الأستاذة الدكتورة \ نجلاء طمان .. تحية صادقة
أهلاً بعودتك ومرحباً .. وأنتِ في حلٍ من الاعتذار عن التأخير .. وأهلاً بالأخت ريمة الخاني التي انضمّت لحوارنا الحر الجريء .. حيث محاولة الاتفاق على المفاهيم الأساسية للبعد الفكري الفلسفي في الأداء البشري - من أجل فهم ما يدور حول- و داخل - عالمنا العربي الإسلامي - النائم بعضه .. والتائه بعضه الآخر .. والحائر المغلوب على أمره- ما تبقى من إنسانه ..!
هذه المحاولة التي كان لأستاذنا الدكتور \ محمد حسن السمان ؛ والأستاذ الحبيب \ خليل حلاوجي ؛ والدكتورة الفاضلة \ نجلاء طمان .. كان لهم شرف انطلاقتها ؛ وأتمنى أن يحظى استمرارها باهتمام الجميع .!
أما التساؤلات فهي كثيرة .. سأختصرها قدر الإمكان ، وسأتناول كل ما تعرضت له الدكتورة في مداخلتها ..
أولاً الحضارة .. قد أسهبت- الدكتورة نجلاء - في تعريف الحضارة ووصفها ، فكانت كريمة مع القـارئ . وأتفق معها تماماً في أن مثل هذه المفاهيم لها تعريفات متعددة تتسع وتضيق ..
ولكني أُصـرُّ على أن كل التعريفات يجب أن تتحد في الاتجاه الذي سيذهب له خيال القارئ عند قراءة أيٍ منها . حيث أنها تعريفات متعددة - ولكنها تصف وتـُشير إلى ذات المُعـرّف .
وأختلف هنا مع ربط الحضارة بالمسميات والتعاليم الدينية .. ولذلك فأنا أختلف مع ما استدلت به ( الدكتورة )- مع التذكير بأنها قالت نكاد نتفق- ولم تقل نتفق بالمطلق- ولكنه استدلال على كل حال ..
حيث قالت ..( ونكاد نتفق مع المستشرق الإنكليزي (ارنولد توينبي ) الذي يري أن معني الحضارة بمعناها المتخصص يقتصر علي وجهة نظر الإنسان عن الحياة ، وهذا هو الذي ينسجم مع تعريف الحضارة الإسلامية التي يمكن أن تكون مجموعة الأفكار والمفاهيم الإسلامية عن الإنسان والحياة والكون ، وهي بهذا تحدد سلوك الإنسان وطريقته في الحياة ونمط معيشته وتعامله مع الكائنات المحيطة به . ) ..
أوجه الاختلاف : قد اختلف ابتداءً مع الدكتورة في قراءتها لرؤية المستشرق .. حيث أنه يقول بوضوح أن ( معنى الحضارة هو وجهة نظر الإنسان عن الحياة ) ؛ بينما ترجمتها الدكتورة على أنها تـُعادل من حيث التعريف - المفاهيم الإسلامية التي تـُحـدّد للإنسان سلوكه ونمط معيشته وطريقته في الحياة ( أي التي تـُجبـره على نمط معين من الحياة ) .. فهي إذن في الحالة الإسلامية - إجبارية وإن كانت إيجابية .. وبالتالي فهي لا تعبر عن وجهة نظر الإنسان للحياة ؛ ولم تنشأ بسبب رشاد فكـره ونمط ثقافته وتفاعلاته المجتمعية البشرية .
وجه الاختلاف الثاني .. هو أني أرى الحضارة شأناً ونجاحاً- فكرياً بشرياً محضاً ، وهي ليست سوى الدرجة المطلوبة لحياة الإنسان الدنيوية- لتكون أشبه بالحياة المنطقية المثالية ( الأخروية عند المؤمنين ).
أما المعتقد الديني فهو شأن شخصي فردي ينعكس على سلوكيات الإنسان بقدر التزامه الحقيقي به – وليس بقدر التزامه الثقافي به ..
فأنا أرى أن مبادئ المجتمع وأعرافه التي تفرضها بيئته وإمكاناته- تفرض التزاماً ثقافياً على الإنسان- في شكل سلوكيات مُلْـزمة ضرورية لحياة الجماعة- بحكم العقاب والثواب الفوريين - أكثر بكثير مما يفرضه الالتزام الديني – الشخصي- الفردي .
لأن الالتزام وعدم الالتزام الثقافي - يكون ظاهراً للعيان ويؤثر على الآخرين ؛ ولا يمكن التظاهر به والعمل بنقيضه - الأمـر الذي يمكن حصوله في حال الالتزام الديني .
ولذلك فإن الثقافة توجب على الإنسان التفاعل الاجتماعي من خلالها ؛ أو الالتزام الصامت بها ، أو اعتزال المجتمع ، أو التطرف والمواجهة .!
وليس ما نراه اليوم من تطرف وعنف- بطابع إسلامي- إلا نتيجة مؤكدة صارخة للانحراف الفكري الناتج عن دمج المعتقد الديني الملزم للأفراد - بالثقافة البشرية التي تقود حركة وعلاقة المجتمعات .
فالحضارة أياً كان موقعها الجغرافي والتاريخي - فإن الثقافات المتعددة لا تختلف في وصفها ومدحها للحضارة-على أنها هدف قياسي حققه الفكر البشري- ويمكن الاقتداء به أو منافسته ...
ولا يتحقق هذا الوصف وهذا المدح والإجماع حول الحضارة البشرية ولا تـُحتسب نتائجها نجاحاً لصالح الفكر البشري- في حال أنها نشأت على أساس المعتقد الديني والتعاليم الدينية .. إلا تحت مسميات أخـرى ..
كأن يُـقال أن الفكر البشري الأرضي في مجتمع ما - نجح في الإجماع والاتفاق على الامتثال لتعاليم السماء .. وهذا من المستحيلات ..
لأن ذلك يعني وصول الإنسان إلى درجة يشبه عندها الملائكة في التزامها الديني وعلاقتها بالخالق ؛ وإن حدث ذلك فلن يكون لفكـر الإنسان دور ولا فضل فيه .
وقد يكون في قصة أبينا آدم وأمنا حواء- عليهما السلام .. مع الشجرة .. مثالٌ مُبسّط ٌ ومؤكدٌ ؛ حيث أمرهما المعتقد الديني باجتنابها والاستقرار في الجنة- والتي هي أنسب الأماكن لبناء حضارة تقوم على معتقد ديني .. ؛ بينما قادهما فكرهما البشري إلى محاولة بناء الحضارة التي تناسبهما وتنبع من أفكارهما البشرية .
كما أن المنطق يقول أن الحضارة لا تزول إلا بخطأ أساسي في بنائها ،أو بزوال أو نضوب مصادرها الفكرية ووصول نظرياتها الثقافية المُـؤسِسَةِ لها إلى طريق مسدود- وفشلها في الحفاظ على استقرار المجتمع ، وفشل ثقافتها في التواصل مع بقية الثقافات ؛ أو أن تلك الحضارة كانت مفروضة ومرفوضة عند الإنسان في مجتمعها ، ولم تصل به إلى المرحلة التي تستحق معها لقب الحضارة الإنسانية- في فكره .. فلم يتذوق المجتمع طعمها ، ولم توفر الحضارة بذلك - لنفسها آليات الاستمرار والاستقرار- وبالتالي تفشل الحضارة في القدرة على البقاء ..
حيث أن الاستقرار الذي يولـّد تناغماً وتكاملاً بين مكونات المجتمع يُـعـدُّ الأساس الذي تقوم عليه الحضارة .
والاستقرار بهذا المعنى يُـعـدُّ الثمرة الأساسية للثقافة الرشيدة القويمة لأي مجتمع .
وبالتالي .. فأنا أنظر إلى مسمى ومفهوم الحضارة البشرية- بمعزل عن المسميات والتعاليم الدينية- كما هو الحال كذلك مع مفاهيم الثقافة والمدنية والعلم – مثلاً .
فلو جاز لنا أن نقول حضارة إسلامية وثقافة إسلامية .. فمعنى ذلك أن الإسلام هو المصدر الفكري لتلك الثقافة ، وهو عامل الاستقرار الذي أَسَّسَ لقيام تلك الحضارة ..
ومن هنا تبرز إحدى الإشكاليات الأدبية والفكرية .. فعلمنا وإيماننا بأن الإسلام دين سماوي ، وبأن القرآن هو مصدر تشريعاته وتعاليمه .. وأن هذا القرآن ثابت محفوظ لم يطله تغيير ..
ذلك يعني أن النتيجة كان يجب أن تكون استمرار تلك الثقافة ومن ثم استقرار المجتمع واستمرار بقاء ونمو تلك الحضارة .
وعندما نقول أنه يوجد الآن كيان معنوي يُسمى الثقافة الإسلامية ، ونقول مع ذلك بأن حضارة إسلامية قد ظهرت في مرحلة تاريخية ؛ ثم تراجعت ولم تعد موجودة عمليا ..
فكأنما نقول أن الحضارة لا علاقة لها بالثقافة .. أو نقول قد زالت الحضارة وبقيت الثقافة التي أنتجت تلك الحضارة .
تقول الدكتورة .. نجلاء .. ( وقد راعي المسلمون في حضارتهم الإسلامية أن توجه البيوت نحو الكعبة التي هي قبلة المسلمين ) ... ؛ وتقول ( وليس لقوة مهما بلغت أن تهزم أو تهدم حضارة قائمة على ثقافة صحيحة سليمة جامعة. ) ..
والسؤال .. لماذا هُـزمت وهُـدمت الحضارة الإسلامية ، القائمة على الثقافة الإسلامية .. إذن ..؟ .. هل كانت الثقافة إسلامية - ولكن ليست صحيحة .. وهل يجوز القول بهذا ..!
الجواب من وجهة نظري لن يكون سوى أحد ثلاثة احتمالات .. إما أنه لم تقم حضارة إسلامية – أصلاً . أو أنها لم تقم على ثقافة إسلامية .
أو أنه لا يوجد شيء اسمه حضارة إسلامية أو ثقافة إسلامية .. وهذا ما أراه وأقول به .
أتفق تماماً مع الدكتورة .. نجلاء .. حين تقول ( الحضارة خاصة والعلم عام ) .. إلا أني أرى أن الدين عام أيضاً شأنه شأن العلم . لا سيما ديننا الإسلامي- حيث أنه خاتم الأديان ، ونبيه مبعوث للناس كافة .
ومن هنا فإنه إذا حق لنا أن نقول – حضارة إسلامية – فإنه يمكننا كذلك أن نقول حضارة علمية .
وأنا أقول .. أن ثقافة عربية عامة - ضعيفة المادة الفكرية - لا تصلح لقيام حضارة- كانت قد قامت في مرحلة تاريخية سابقة .. على أنقاض الجاهلية العربية -القبلية - التي هدمها الإسلام .
ثم قامت على حسابها (على أنقاضها)- ثقافات عروبية مناطقية محلية لم تفلح حتى في إقامة دولة- ناهيك عن بناء حضارة .
القادم .. تكملة المشاركة : الحضارة والمسلمون والإسلام .. ومعادلة الحضارة والثقافة والمدنية ..
التكملة ستأتي حـالاً .. أشكركم ..