أدبنا العربي المعاصر وظاهرته المتجددة
يلاحظ في بعض كتابات أدبنا العربي المعاصر ظاهرة متجددة، هي ظاهرة الإبهام والتعقيد – في الأداء والمضمون على السواء – أو الرمزية والتلويح، وتبدو أكثر ما تبدو في الشعر الحديث، وفي القصة القصيرة، وفي الرواية والمسرحية، والخاطرة وفي طريقة تناول بعض الدراسات الفلسفية، والفكرية والنقدية أيضا. وقد يقف القارئ العادي أمام كل هذا حائرا، لا يدري إذا كان القصور في فهمه هو، أم في هذا الأداء المعقد المبهم الذي يتعذر عليه فهمه حتى يكاد لا يفقه منه شيئا..؟؟
وأحيانا كثيرا، تمتلك هذا القارئ خيبة فكرية كبيرة عندما يبذل الجهد الذهني في القراءة ليصل في النهاية إلى فكرة بسيطة، وقد تكون بديهية لكن المؤلف ألبسها ثوبا أكبر منها، وراح ينسج مضمونها سطورا من التعقيد والغموض في الأسلوب لتبدو على نصيب وافر من العمق والتفلسف، الأمر الذي يلجأ إليه كثير من الكتاب الناشئين وغير الناشئين متناسين أن مسؤولية الأديب العربي كبيرة جدا في عصرنا الحالي، وأنها أكبر وأخطر من أي عصر مضى في ظل المخاطر الظاهرة والمتخفية المحدقة من كل جانب.. وخصوصا الجانب الفكري منها..
وقد يجد القارئ نفسه أحيانا كذلك في متاهات من رموز غامضة تبدو له كالأحاجي، وصيغ غريبة عليه يخيل إليه أنها لا تمت إلى اللغة العربية الفصحى بصلة، كما أنها ليست من العامية التي ألف تداولها.. فما يكون منه إلا أن ينحي الكتاب أو المجلة جانبا يائسا حانقا أو يستبدل صفحة الانترنيت بصفحة أخرى لمواقع قد تكون عديمة النفع أو كثيرة الضرر.. فإذا كان من هواة المطالعة والذين لا يستبدلونها بهواية أخرى قد يجد ذهنه مطمورا في قراءات غير مجدية كتبت للتسلية وتضييع الوقت فقط، ليملأ بها وقت فراغه، ويخسر الأدب قارئا جادا كان من الممكن أن يُجعل منه المواطن الذي يراد له: الثقافة، والعقيدة القويمة المنهج، والوعي والتفاعل مع جل مكونات حاضرنا اليوم من أدب وفكر وقضايا دينية وثقافية واجتماعية وسياسية.. وفي ذلك ما فيه من الفائدة لمجتمع نام كمجتمعنا العربي حيث هذا النوع من المواطنين يؤلف الغالبية العظمى من القراء فيه، والذين يمكن أن يعتبر الكثير منهم من أنصاف المثقفين أو دونهم مع اعتبار أنه لو تيسرت لهم القراءات الجادة المفيدة في الأدب والفكر سيتفتح وعيهم ويصبحون مع الزمن مثقفين بالفعل فلا شيء يصقل الثقافة كالإدمان على المطالعة الجادة..
ومع أن تراثنا العربي يوجد به بعض من الأدب الرمزي الذي لجأ إليه أدباء قدامى كأدباء المعتزلة وغيرهم، الذين عمدوا إلى التورية والتعمية خوفا من السلطات المناوئة لمعتقداتهم في تلك الحقبة العصيبة التي مروا بها، أو أدباء الصوفية ضنا بأفكارهم الرمزية والسامية – كما كانوا يعتقدون – على العامة التي تسيء فهمها.. لكن الصلة انقطعت بيننا وبين هذا الأدب الرمزي الدخيل بحيث أنه لم يصل إلى مرحلة التثبيت الفكري حتى، ومنهاج مسيرة أدبنا العربي الأصيل لا يسير على منواله، فصفحات تاريخ أدبائنا العرب الكبار - والذين أنشئوا بما حباهم الله من مجهود فكري أصيل عالما أدبيا وفكريا زاخرا بكل ما تدوم منفعته- تشهد بهذا، ولو أن أدبائنا المعاصرين يستلهمون أحيانا شخصياتنا التاريخية وأساطيرنا، وطقوسنا، وتقاليدنا الشعبية فيتخذون منها رموزا لكن طريقة تناولها تأتي متأثرة إلى حد بعيد بالطرق الغربية الحديثة، وليس في هذا التأثر ما يضير إذا كان ملائما لنفسيتنا الإسلامية.. إنما الذي يضير حقا هو أن نأخذه في سبيل المباهاة بالتجدد ولو جاء غريبا عنا، أو سبيل التقليد والتبعية للغرب بأفكاره وفلسفته الغير مبنية على أسس قويمة (تربط ما بين الأرض والسماء بمنظور "أن لله سبحانه في خلقه شؤون") والذي ما زال بيننا وبينه هوة واسعة من الأفضل أن ننصب عليها الجسور لنجتازها بحذر وروية من أن نقفزها متجاهلين خطورة القفزة وكذا الحفر الفكرية والعقائدية التي أودى نفسه في مطباتها..
وبما أن هذا العصر هو عصر الرقمية بامتياز، ولأن رواد المنتديات منهم فئة كبيرة ترتاد صفحات الانترنيت للمطالعة والبحث فيما تركته بذور الأدباء - سواء المعاصرون أو الذين تركوا دنياهم إلى رحمته الله وغفرانه - من غرس فكري مثمر، فكل أديب أو مفكر مطالب اليوم وأكثر من أي وقت مضى بزرع بذور فكر خيّر يحصد إن شاء الله غلته بين يدي رب كريم..
لكل هذا، على الأديب العربي اليوم ليكون عطاؤه مجديا - في ظل الخطر المحدق بالفكر العربي الإسلامي على الخصوص، وليضمن لكتاباته أكبر عدد ممكن من القراء والمتفاعلين -، أن يكتب أدبا واضح المعالم، سهل المأخذ، مع الحفاظ في الدرجة الأولى على الأداء الفني، فالبساطة في الأداء لا تتعارض مطلقا مع عمق الفكرة وجديتها ومع أصول الفن الرفيع. وهذا كله لا يحتاج إلى جهد كبير وإلى موهبة وأصالة، كون الأديب الأصيل اليوم هو من استطاع الاجتهاد في تبسيط الأفكار المعقدة وتقريبها من الأذهان، ليجعلها في متناول الجميع على حسب اختلاف ثقافتهم، مستعينا بموهبته الفنية التي قد لا تتوفر دائما لمن يعالجون قضايا الفلسفة والفكر كما تتوفر للأدباء حيث الخطاب المستهدف من أكبر عدد من القراء..