رُبَ سائلٍ يسألُ .. أين العدل والإنصاف بحق الإنسان-عند معاقبته على الإخفاق- وهو المخلوق للعبادة وحمل الأمانة .. إذا كان قد قـُدِّرَ لهذا الإنسان طبيعة الأنا داخله ، وأصناف الآخـر خارجه ، ومعطيات البيئة من حوله ؛ وإذا لم يُعطَ رجاحة العقل ذي الأبعاد الفكرية الإبداعية ، وقـُدِّرَ عليه الجهل وسطوة الفتن ، وحُرِمَ الإمكانات المادية المُسَاعِـدة .؟
وأنا من الذين يعتقدون بأن الإجابة على مثل هذه التساؤلات- هي وجبة روحية-علمية فكرية أدبية حياتية أساسية ضرورية- لسلامة إسلام الفرد وثبات وقوة إيمانه ، وهي بالغة الأهمية والحساسية من أجل نضوج العقل وصواب الفكر .!
ولكنها ليست متوفرة حتى اليوم في مكتبات الفكر العربي الإسلامي- بالشفافية وقوة الحجة المطلوبتين .!
وأن كل ما هو متوفر حيالها لا يعدو أن يكون تداخل للمفاهيم وتمازج للألفاظ - قد يزيد من تعقيد السؤال وحيرة السائل دون أن يرقى إلى مستوى الجواب ..!
وأعتقد جازماً بأنها- أي الإجابة- لا يُخفيها سوى عدم البحث الجاد عنها – بسبب التخوف اللا مبرر ، أو لعدم الإحساس بأهميتها في بناء كيان الإنسان ، أو لأن السابقين لم يضعوا لها تصوراً ..!
وإني لأرجو أن يُتيح لنا-عامل الزمن - المجال الكافي لكشفها ووضعها بصورة شفافة في إطارٍ متناسقٍ جميلٍ مهيبٍ يليق بحجمها ويُناسب قدراتنا على الفهم والإدراك والاستيعاب .. في ظل الواحة العزيزة .!
وسنتجول الآن - سويةً- في مظانّ حقائق بعض الأمـور ذات الصلة بهذه التساؤلات ، ولنطرق هنا باب الجهل لدى الإنسان .! والذي يقود عادة إلى تساؤلات جدلية بسبب النقص الحاد في الثوابت الفكرية التي تحظى بالإجماع .!
إننا عندما نقول نحن بني آدم .. إنه ليس بيننا من هو أهل للقب الملاك ؛ فإن ذلك ينبغي ألا يقودنا إلى التفكير بالانتقاص من قدر الإنسان- بالمطلق- لصالح الملائكة . فلكلٍ من الفريقين شأنه ومجاله الذي يُناسبه ، والذي لا يُفلح فيه الآخـر ..!
فالملائكة هم خلقٌ كرامٌ ، مخلوقون لأداء مهام محددة لا يحيدون عنها ، وليس بينهم من يتصف بالجهل ؛ ومن هنا فهم لا يقترفون الذنوب ، ولا يعصون أمـر الله ، فهم مُسيّرون ومهيئون لئلا يُخطئوا .
ولو تصورنا وجود مُـذنبٍ من الملائكة- فستكون عقوبته السحق - لحظة الذنب ، وبالتالي فلا يوجد بينهم مُذنب .
أما الإنسان والجن فقد خـُلِقوا لمهمة جسيمة وحَمَلوا أمانة عظيمة ، تلك هي عبادة الله وعدم عصيانه- غيباً ، مما يوجب عليهم الاستقامة- قولاً وعملاً ، سراً وعلانية - في حين أنهم مُهيئون للخطأ والانحراف بحكم طبيعة خلقهم ومقتضيات حياتهم وعلاقاتهم ؛ حيث أن حياتهم الدنيا هي عبارة عن مرحلة اختبار عملي ، في ساحة مليئة بشتى أنواع الفتن – من معوقات ومغريات .
ولذلك فإن جزاء من أفلح منهم عظيمٌ-عِـظـَمَ نجاحه في حمل الأمانة ، وكذلك عقاب من أخفق فهو عظيم بحجم الإخلال بالعهد مع الخالق .
يقول الحق تبارك وتعالى : (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) الذاريات 56 .
نلاحظ هنا أن الملائكة ليسوا مشمولين بأمـر العبادة ، لأن العبادة المقصودة هنا هي تلك العبادة الطوعية التنافسية التفاضلية – التي يعقبها ثواب أو عقاب ، والتي لا تخلو من خطأ وتقصير ، والتي تزيد أو تنقص - توافقاً مع سلامة التفكير وإخلاص النية وصدق الإرادة وبذل الجهد ؛ فيزيد تبعاً لذلك وينقص الثواب والعقاب . ولا يترتب على التقصير فيها- عقوبة آنية ؛ بل يوجد مجال للتوبة والرجوع والتكفير عن الذنوب وفتح صفحات جديدة ، مما يعني المغفرة والفوز بالجنة لمن أناب إلى ربه – صادقاً – في مرحلة الاختيار .!
يقول الحق أيضا :
(ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ) الأعراف 179 .
الغافلون لا يختلفون كثيراً عن الجاهلين- الذين هم صلب موضوعنا في هذه المقالة المُطـوّلة .. ففي أمـور كثيرة تكون الغفلة سببٌ والجهل نتيجة . فالذين تصفهم الآية هنا بالغافلين هم أولئك الذين يمرون بالأحداث دون وضعها في ميزان المنطق والمبادئ والفطرة الإنسانية ، وتمر عليهم الأيام والسنون دون أن يُلقوا بالاً لما تـُحيطهم به من أكداس العِظات والعِبر ، وكأنما تنازلوا عن وجودهم ، وأبقوا على الأمانة في أعناقهم .!
ويقول الحق : ( وقالوا لولا أُُنزِلَ عليه مَلَكٌ ولو أنزلنا مَلَكَاً لَقُضِي الأمرُ ثم لا يُنظـَرُونَ ) .. الأنعام 8 .
ويقول أيضا : (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ) الإسراء 95 .
في هاتين الآيتين الكريمتين .. يُشير الحقُّ إلى إحدى أشـدُّ درجات الجهل- خطورة ، وأكثرها تفشياً بين بني البشر .. ألا وهي طـَلَبُ الحقيقة الكاملة - جاهزة ، وكأنهم ليسوا معنيين بالبحث عنها ، مما يعني عدم الإرادة لديهم في استعمال العقل الذي يُميـّزهم عن سائر المخلوقات من حولهم- بما يُشبه اعتراضهم على مشيئة الله .!
فيذكـّرهم الخالق جل في علاه - أنه لو تجلّت لهم الحقيقة دون بحث وجهد منهم ، فإن ذلك سيعني العقاب الآني - لمن ضلّ منهم ، ولن تتاح لهم فرصة التوبة ( لَقُضِي الأمرُ ثم لا يُنظـَرُونَ ) . ولن يتمكنوا حينها من عمل ما يستحقون به المغفرة والثواب .
ويقول البارئ جلّ من قائل : (وإن كان كَبُرَ عليك إعراضُهُم فإِنِ استطعتِ أن تبتغي نَفَقاً في الأرض أو سُلَّمَاً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين) .. الأنعام 35 .
هنا يُشير الحق تبارك وتعالى إلى أنّ الإنسان مُخيّـرٌ من ربه ومُسيّرٌ بعقله وراشدٌ بفطرته . ودور الرُسُلِ يكمن في التذكير- ليس إلا ، وهم ليسوا مكلفين بسد كل الذرائع التي يتحجج بها أقوامهم – حتى يؤمنوا . فلو شاء الله لجعل الناس مُسيّرين- ولأتوا حينها أمـر الله كـرهاً أو طوعاً ، غير متسائلين ولا مُجادلين .
وهكذا فإن من لا يهتدي بفطرته وعقله وحواسه- حتى بعد تذكيره- فهو ملازم للجهل ، ولن تـُجدي مسايرته نفعاً ، بل إن من يُسايره على هواه قد لا يبعده جهلاً .
وفي شأن الجهل والجاهلين يقول الحق تبارك وتعالى - أيضا :
( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون) .. الأنعام 111 .
وقال على لسان يوسف ( قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) .. يوسف 33 .
ولو منحنا أنفسنا فرصة الوقوف- مُـطولاً- مع الذات متسائلة ومُجيبة ، ومع الآخـر بأصنافه المتنوعة- متعارضاً ومتوافقاً معنا- في محاولة لتحليل وفهم ماهية الجهل ..
فسنجد أنه بمقدورنا القول بأن الجهل يُمثـّل إحدى الصفات الملازمة للإنسان ، وأنه أشبه بشيطان ذاتي شخصي ، وأن أهم ما يحتاجه الجهل ليعلن عن وجوده هي موافقة الإنسان لهوى النفس .
وسنجد أن مقاومة داء الجهل هي إحدى رسائل الإنسان في الحياة ، وهي من أهم جوانب أمانته التي تعهد بحملها .
وأن محاربتنا للجهل في حياة الإنسان ينبغي أن تنصبّ على تطهير أساسيات الفطرة الإنسانية - من شوائب المصطلحات وغموض المفاهيم وتشوه الأفكار . وأنه علينا إعادة ضبط الفطرة وفق معادلة مخلوق ضعيف يحمل أمانة عظيمة ..!
فالإنسان الذي يتمكن من الإحاطة الكاملة بالمعنى الدقيق - لمفهوم الجهل ، ويصل إلى تحديد معالم- مفهوم الجهل بالأمور - سيكون مؤهلاً لكشف مواطن ومداخل ونقاط الضعف التي يدخل منها الجهل . ويُصبح بالنتيجة - ذلك الإنسان- مهيئاً لمقاومة الجهل وتحجيمه والنجاة من سطوته الكاملة- سواء فيما يخص عبادة الإنسان لربه أو في رؤيته لذاته وعلاقته بالمحيط .!
وسيصبح بذلك قادراً على مساعدة الآخـرين ، بل ومُطالباً بها كبند أساسي ضمن بنود إنسانيته ..!
والجهل درجات ، وهو نسبي ، ويبرز في عدة أمور ، فقد يظهر في أمـور ثانوية يمكن التغاضي عنها- جزئياً أو كلياً - مرحلياً أو بصورة دائمة – درءاً لما هو أعظم ..!
وقد يُصيب الجهلُ لدى الإنسان أمـوراً مفصلية- تمس مصيره وكينونته بكاملها ، وفي هذه الحال يكون لعامل الزمن دوراً أساسياً ، فقد يستفحل الجهل بصاحبه ويكون الزمن في صالح الجهل ، فيتطور ويتحول إلى ما يُشبه الحقيقة في ذهن الإنسان- مما يُعطّـل عمل العقل ، ويُـحيل الإنسان إلى مصدرٍ متجـددٍ للجهل .
فمثلاً قد يُقلق الإنسانَ سؤالٌ مُلِحٌ ، فيجد له جواباً خاطئاً - لكنه الوحيد في الساحة تلك الساعة ، فيُحدد ذلك الجواب نقطة البدء والاتجاه - لمسار العقل ، فتـُنسج مبادئ وثوابت الإنسان وفق ذلك الجواب ، ويُفرض الأمر على العقل ، فيعمل على مواءمة الأفكار- حيال المستجدات- لتتناسب مع ذلك المفهوم .
ومع مرور الزمن وتطور الحياة - وتأخر التصحيح - يتعاظم أمـر الانحراف ، وتكبر المعضلة أمام العقل ، وتزيد الهوة بين المنطق الذي هو صورة ولغة العقل السليم ، وبين الجهل المُسيطـر الذي طبع الواقع والأحداث بطابعه ..
وفي أحسن الأحوال ستتطور وظيفة ذلك العقل- تفاعلاً مع الواقع وطلباً للمنطق- ويصبح منتجاً للأسئلة المُحيّـرة لصاحبه وللآخرين ..!
ومن خلال تعريف الجهل فيما استعرضنا من آيات قرآنية ، وبالتبصّـر في مواقف الحياة العملية- من حولنا ، أستطيع تعريف الجهل على أنه سيطرة الفكر على العقل – بدل إنتاج العقل للفكر ، وهو خللٌ يُعـطـّل أو يُعيق عمل العقل الطبيعي التفاعلي- لدى الإنسان ، فيبدو الإنسان عاجزاً عن رؤية بعض الجوانب الأساسية الفاصلة من كينونته وصيرورته كإنسان ، والتي يراها غيره بديهية صارخة ..!
حيث أن العقل هو العنصر المسئول عن إنتاج الأفكار التي تـُعالج متطلبات الحياة الإنسانية ورغبات النفس البشرية وميول القلب وحاجيات الروح – وفق معتقدات الإنسان وثقافته ومبادئه ومعطياته وقدراته ..!
كما أستطيع تعريف الجهل على أنه مرضٌ(فيروس) ثقافي يستقر في فكر الإنسان فيُحدث خللاً في ميزانه المنطقي فيُلوث فطرته مما يؤدي إلى تشوه بصيرته فلا يعود عقله قادراً على رؤية الفواصل والحدود بين المنطق واللا منطق ، فيجد الإنسان صعوبة بالغة في قبول أفكار الآخرين المغايرة لما بات يعتقده ، وعندما يُدرك ضعف حجته ، فإنه يلجأ إلى المكابرة والعناد ، ظناً منه أن اعترافه بخطئه وصواب الآخرين هو مساسٌ بكرامته .
والحقيقة أن الجاهل بأي أمـرٍ هو كل إنسانٍ لا يملك القدرة الفكرية للتحاور والدفاع المنطقي عن ذلك الأمـر الذي يعتقده - بغض النظر عن صواب فكرته من عدمها – مرحلياً ؛ .. وأكثر منه جهالة ذلك الذي يستطيع التحاور ولا يستطيع التراجع عن قناعاته عندما يثبت له بُطلانها .!
فالجاهل لا يملك ميزاناً فطرياً سليماً يُمَكـِّنـُهُ من الوقوف عند نقطة مناسبة بين خطئه وصواب الآخرين ؛ لأنه لا يستطيع التوفيق بين ضعفه كمخلوق وقوته كحامل أمانة- وقراءة الواقع في ضوء ذلك .!
ولذلك فإن مُحاورة الجاهل- أو معالجته تتطلب من الطرف الآخر حنكة وموهبة وإلماماً تاماً بحيثيات الجهل لدى الجاهل وملابساته الفكرية .
فالجاهل لا يعلم بجهله ، أي أنه مريضٌ لا يدري بمرضه ، وبذلك فهو لن يتناول العلاج طواعية ؛ ويستلزم علاجه توافر واشتراك مُعطيات كثيرة - لعل الحظ والقدر يُمثلان نسبة كبيرة منها .. فذكاء وبلاغة المُحاور ، وموضوع ومستوى الجهل ، والأوضاع المعيشية للجاهل ، والبيئة وموروثاته وثقافة المجتمع - من حوله ، وما أبقى الجهل من قدرة للفطرة الإنسانية لدى الجاهل على الاستجابة لمنطق الحق .. كلها أمور ينبغي أن تتكامل وتعمل في ذات الاتجاه لإزالة طبقات الجهل وإفساح المجال أمام العقل ليعود للعمل بصورة طبيعية ..!
والله تعالى أعلم ، والله ولي التوفيق ..