أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: في حضرة برزخي

  1. #1
    الصورة الرمزية عبدالسلام المودني أديب
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    المشاركات : 162
    المواضيع : 36
    الردود : 162
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي في حضرة برزخي

    في حضرة برزخي


    هذه الليلة، لن أتردد أو أتراجع عن قراري. فكرت في الأمر طويلاً، وخلصت أنه يتعين علي وقف كل شيء.
    أعلم أن الموت يربض جواري مذ ولدت، وأنه ينتظر لحظة عدم تركيزي لينقض علي، لأجل ذلك قررت هذه الليلة أن أكون المبادر وأهجم عليه في معاقله السرية لأقضي عليه. ثم إن الحياة ما عادت بنفس طعمها الأول. تشابهت الأشياء حولي وصارت بلا معنى.
    أفكر أن ألقي بنفسي من شرفة شقتي. أدنو بحذر أتسلق الحائط القصير الذي يفصلني عن التحليق. المسافة كافية في اعتقادي لأعانق الموت. أتراجع في اللحظة المناسبة بعدما عادتني صورة نملتي سها التي تملك سوابق في محاولات الانتحار الفاشل. قررت مرة أن تلقي بنفسها من المكان نفسه فانتهت في المستشفى بعظام مكسورة، وعاهة مستديمة.
    تذكرت أني أحتفظ بكمية معقولة من سم الدجاج كافية بأن تقتل جبلاً، كنت قد اشتريته من حلاق الحي الذي مدح مزاياه فقال أنه خال من الكولسترول. وضعته أمامي. قلبي يخفق بشدة. لا لا أريد أن أبدو على صورة تلك الوردة التي نشرت صورتها بالجرائد والمجلات مرفوقة بخبر انتحارها. بدت شاحبة جداً. في حديثهم عن أسباب فعلها قالوا أنها خافت من الفضيحة أمام أهلها ليلة دخلتها خاصة أنها بلا بكارة، وأنها كانت على علاقة مشبوهة مع أرنب بري، قضى منها وطراً وعند أول مناسبة تركها وسافر إلى إسبانيا بعدما حصل على عقد عمل بعثته له شابة بنغالية في السبعين. وقالوا أنها سلكت طرقاً مشبوهة لتؤمن الحشيش لوالدها المدمن. بل ذهبت فضائية أرضية إلى القول أن والدها كان يغتصبها و هي بعد في بطن أمها. وعنها قالوا الكثير. لكن الرأي الذي وجدته أقرب إلى الحقيقة هو ما جاء على لسان مختص في شؤون الجماعات الإسلامية، وقضايا الإرهاب في حوار مباشر مع قناتنا الخرساء، حين قال أنها تعرضت لاغتصاب جماعي مارسته عليها أرجل عدة في الفترة التي كانت تقطن حديقة عمومية، وذهب إلى أن الأمر لم يتوقف عند ذلك بل إنها حامل في شهرها الخامس عشر من شرطي احتقنت مثانته من أثر البيرة فآثر إفراغها فوق رأسها في الحديقة ذاتها. مهما يكن الأمر، فسم الدجاج هذا ورغم مزاياه الصحية الكثيرة إلا أنه لا يلائمني البتة.
    بعوضة لا أعرف من أين تسللت أخذت تحوم حولي محدثة طنيناً مقرفاً. قرأت مرة في مجلة للرسوم المتحركة أن البعوض يمكنه أن يكون ناقلاً لأمراض فتاكة، كالسيدا مثلاً. فزعت من ذلك فاستدعيت كل طاقتي ومكري، وبضربة حذاء مباغتة في هجوم غير متوقع أوقعتها أرضاً. أخمن أنها فكرت ملياً في الانتحار واختارتني وسيلتها لذلك.
    تبرق فكرة جديدة في رأسي، فأبحث بكل جد عن حبل علي أن أحكم ربطه في سقف صالوني الشارد، وأضع كرسياً أقف عليه، وأدفعه برجلي ليتدلى جسدي. ميتة ممتعة بلا شك. أجد في البحث. تخبو عزيمتي عندما تطرقني صور ذباح قديم حكم عليه بالإعدام شنقاً من قبل ذباحين جدد، هوى جسده بقوة ففصل عنه الرأس. فزعت أن أرحل دون رأس فأحيى حياتي الأخرى محروماً من حواسي الأربعة المهمة، وفزعت أكثر أني لن أستطيع أن أغمز بعيني هناك إذا ما استهوتني آنسة محترمة.
    تعيني الحيلة وتقفل أبوابها في وجهي. أدع طريقة الموت جانباً فلن يهزمني مهما حاول. أحمل قلمي. لابد أن أبعث بكلمات تجيب عن أسئلة غيابي الطارئ هذا، ولأقطع الطريق على كل تأويل قد يسيء إلى شرفي. أقرر أن أبدأ بأمي التي أمسكت عن الكلام معي منذ بداية حضراتي هاته.
    أمي الحبيبة. لا ستحسب أني أسخر من عواطفها اتجاهي. هي حساسة جداً، وقد تتعقبني حتى آخر نقطة يمكنني الوصول إليها لتصفعني. أمي الفاضلة. لا لا، ستقول أني أطعن في شرفها وأذكرها باليوم الذي باغتتها تخون أبي مع أخي الأكبر. أمي ستعتبر أني لم أنعل اسمها بلقب، وستنعتني بابن الزانية ممزقة الخطاب دون أن تقرأ سطره الثاني، أعرفها جيداً.
    سأدعها للنهاية حتى أحسم في أمر ماري. فهي سيدة حياتي الأولى، ومسقط قلبي. لكنها خائنة أيضاً فضلت الموت عني ورحلت ونحن بعد في بداية الطريق. لن اكتب لها شيئاً فلدي كلمات عتاب كثيرة، وأشواق مؤجلة سألقيها في وجهها عند أول لقاء بيننا.
    في انتظار ذلك سأبعث لأبي بخطاب وداع. تفر الكلمات من أمامي. حقيقة لاشيء يمكنني كتابته أو قوله لشخص لم اره منذ ولادتي، ولا أعرف أي لغة يتحدث كما أني أجهل عنوانه والأهم من ذلك كله، لا أعرف اسمه.
    إخوتي الكبار. يدفعني الغضب أن ألومهم على الاستمرار في ضربي حتى بعد هذه السن المتقدمة.
    مديري. هو أيضاً يضربني عندما تهجر فراشه زوجته.
    نملتي الشقية سها. سأعلمها أنها ملهمتي في حكاية انتحاري هذا، بيد أن رسالتي لن تصلها لأنها ترقد في مستشفى للأمراض النفسية بعاهة دائمة.
    معلمي. سأبصق في الورقة متخيلاً أنها وجهه كما تمنيت أن أفعل دوماً، وجبنت عن ذلك حتى في خيالاتي الجامحة، لكني سمعت أنه أودع السجن بتهمة اغتصابي وأطفال آخرين كانوا يرتادون فصله للعلم.
    لن أبعث لأحد من صحبي، لأني بكل بساطة لا أملك أحداً، ولست أرجع الأمر لسوء نياتهم فقط بل لعل أنانيتي المفرطة ساهمت في ذلك.
    لن أنتحر الليلة بشقتي، أريد أن أشهد الآخرين على ما سأقوم به. سأخرج وألقي بنفسي في البحر. البحر؟ لا، لا أريد أن أكون وليمة شهية لأسماكه رغم الشائعة التي تقول أنه مل من أجساد أبناء جنسيتي الذين اختاروا أن يكونوا وليمة للبحر وأبنائه عوض أن يكونوا كذلك للوطن وملاّكه.
    ألعن الآن ذاك الضفدع الثمل الذي كان يقود سيارة فارهة هذا الصباح على حذره الشديد عندما داس الفرامل ومنع الموت عني.
    نعم انا محتاج لشيء يصدمني حتى أستفيق في الموت. أقرر الخروج. أدنو من الباب، أفتحه، أطفئ النور. ضوء الصباح يتسلل من نافذتي.
    ماذا؟ هل مضت هذه الليلة أيضاً دون أن أفعلها. أدير معصمي، أنظر لساعة يدي. تأخر الوقت، وعلي أن أنام ساعتين، لأسرع إلى العمل، وإلا أشبعني مديري صفعاً، على عادته، حتى لو لم تهجر زوجته فراشه.


    عبدالسلام المودني

  2. #2
    أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2006
    المشاركات : 9,079
    المواضيع : 101
    الردود : 9079
    المعدل اليومي : 1.38

    افتراضي

    المودني .......
    في حضرة برزخي / لااعلم هل اردت ان تدخلني منذ البدء في اجوائك البرزخية هذه / ام انك اردت ان توقف الذهن عند حد معين من التفكير / بحيث لايخرج من هذا الاطار البرزخي / مهما يكن فقد اجدت في خلق ذلك التوتر داخل نفس المتلقي قبل ان يلج النص ويعرف تفاصيله التي وجدتها تعتمد على استرداد واسترجاع / لاحداث توالت سواء على المستوى الفردي أم الجماعي / فانها احداث اثرت على ذهنية السارد بشكل لم يكن باستطاعته ان يتجنبها / او حتى يتغافل عنها لكونها كانت اعمق من ان يتجاهلها عقله الباطن/ وقد قمت بهذا الاسترداد بحرفية / حيث جعلت من الزمان وتعاقبه ينساب مع انسيابية الحكي /التمكن من خيط السرد، ومن مساره عبر ازمنة الحكي والقراءة والكتابة / لغة جميلة / مشابة بالرمزية / اعطت للنص جماله ودلالته الغوية /الفضاء متداخل/ مكان الحكي/ والاحداث جملة / وتحكم في سيرورة الزمن وتواليه/ والسيطرة على سردية الحدث القصصي من حيث التوالي والتواتر/ توظيف الحدث بشكل منطقي / بحيث يتناسب وجو القصة العام / لقد اثرت في النص اكثر من موضوع وفكرة / ضمن سياق سردي مترابط / وهذا يحسب لك اكيد.

    دمت بخير
    محبتي لك
    كل عام وانت بخير
    جوتيار

  3. #3
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    العمر : 54
    المشاركات : 3,604
    المواضيع : 420
    الردود : 3604
    المعدل اليومي : 0.55

    افتراضي

    كلنا او جميعنا لنا هاجسنا الخاص لكننا نهبط اخيرا للواقع ولا حيلة للهروب
    تحيه وتقدير
    فرسان الثقافة

  4. #4
    الصورة الرمزية وفاء شوكت خضر أديبة وقاصة
    تاريخ التسجيل : May 2006
    الدولة : موطن الحزن والفقد
    المشاركات : 9,734
    المواضيع : 296
    الردود : 9734
    المعدل اليومي : 1.48

    افتراضي

    تسلل مع سبق الإصرار والترصد من صفحة ما أن أنهيت قراءتها حتى قفزت بعيدا ..

    أسلوب قصصي يعجبني ، رمزية رائعة وإسقاطات سياسية متعمدة ، لها اثرها على المجتمع ،
    خلقيا واقتصاديا ونفسيا واجتماعيا ..

    احترامي أيها الفاضل .
    //عندما تشتد المواقف الأشداء هم المستمرون//

  5. #5
    أديب
    تاريخ التسجيل : Jan 2007
    المشاركات : 271
    المواضيع : 44
    الردود : 271
    المعدل اليومي : 0.04

    افتراضي

    عبد السلام المودني كاتب له بصمة خاصة ،وهو من صنف الكتاب الذين يحبون سماع التعليق اكثر من الرد،وهو متمكن وبارع في قلمه ، اغلب النصوص التي ينشرها -على الاقل التي قرأتها في مواقع عدة- تندد بالفقر والجهل والتخلف التي تظهر نتيجتها بوضوح في عهر المرأة وشراسة الرجل
    ومصر دوما في نصوصه وضع المكان في المقبرة وما حولها فالظلام لون اساسي في نصوصه ..
    عبد السلام احترمك كثيرا ..علاء

المواضيع المتشابهه

  1. في حضرة موتي ـ قصة ـ
    بواسطة عبدالسلام المودني في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 26-09-2016, 05:47 PM
  2. في حضرة الحمامة ......
    بواسطة خالد علي الناصر في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 24-01-2015, 07:05 PM
  3. سئمت من التسبيح في حضرة النوى..
    بواسطة محمد الأمين سعيدي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 31-07-2006, 01:42 PM
  4. إن الرجال أطفال في حضرة النساء
    بواسطة د . حقي إسماعيل في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 05-01-2006, 02:26 PM
  5. في حضرة الاحساس
    بواسطة نضال نجار في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 03-11-2003, 06:15 PM