المشاركة الأصلية كتبت بواسطة د. علا حسان
فَيَا وَاحَةَ الفِكْرِ الرَّشِيدِ وَرِحْلَةً مَعَ الأَدَبِ السَّامِي وَصَقْلِ المَوَاهِبِ
وَيَا مِنْبَرًا لِلحَقِّ وَالخَيرِ وَالهُدَى وَدَارَ الغَطَارِيفِ الكِرَامِ الكَوَاكِبِ
وَمَا الوَاحَةُ الغَرَّاءُ إِلا مَنَارَةٌ دَلِيلُ الحَيَارَى قِبْلَةٌ لِلمَوَاكِبِ
وَمَا أَمْرُهَا مُذْ كَانَ أَوَّلُ بَعْثِهَا لِغَيرِ وَفَاءٍ أَوْ قَضَاءٍ لِوَاجِبِ
شعار الواحة
أظنها كلمات قوية منحوتة من نخيل واحة مترامية الأطراف ،في طبيعة خلابة تجري فيها
الأنهار العذبة ، وجداول من العنبر ، تنساب ريا وشوقا الى معاني السمو والجمال.
كلمات كأشجار باسقات أصلها ثابت وفرعها في السماء ،يداعبها النسيم العليل
من حين لآخر وكأنك وسط ربوع خضراء ممتدة ، على مرمي البصر ، تزقرق من حولك العصافير وتغرد الطيور ، وتتمايل الأغصان، وتورق الورود ، فتقف فيها مصغيا لذلك النسق الشعري البديع.
يستهلها الشاعر بالإخبار المبدئي عن حقيقة راسخة ،وألم مقيم من خلال الجمل الاسمية المتتالية التي تفيد الثبات والرسوخ:
أَشَدُّ البَلايَا طَعْنُ قِسٍّ لِرَاهِبِ وَرَشْقُ الحَنَايَا مِنْ سِهَامِ التَّرَائِبِ
وَنُجْعَةُ ذِي وُدٍّ وَعَهْدٍ لِنَاكِثٍ وَدَمْعَةُ مَفْجُوعٍ بِغَدْرِ الأَقَارِبِ
ثم يخاطب الشاعر القلب في شجن عميق ، خطاب يصدق مع كل صاحب همة عالية ، ومع كل حر يدافع عن كرامة الأمة ، ويتخذ من الصدق والالتزام منهاجا له :
تَنَحَّتْ بِكَ الأَيَّامُ يَا قَلْبُ فِي الوَرَى وَأَنْحَى عَلَيكَ الدَّهْرُ مِنْ كُلِّ جَانِبِ
يُجَرِّعُكَ الأَقْدَاحَ مِنْ حَنْظَلِ الأَذَى وَيَسْقِي لَكَ الأَتْرَاحَ مِنْ كَأْسِ وَاصِبِ
بِنَجْوَى عَدُوٍّ أَجْفَلَ الحِقْدُ صِدْقَهُ وَبَلْوَى تَجَنِّي صَاحِبٍ تلْوَ صَاحِبِ
وينتقل الى خطاب النفس بلغة بليغة مؤثرة ، يسري فيها ذلك السحر الآتي من موسيقى المد الذي يدل على الفخر رغم الحزن .
أَعِينِي عَلَى الأَحْزَانِ يَا نَفْسُ إِنَّنِي أُغَالِبُ بِالصَّبْرِ الذِي هُوَ غَالِبِي
وَلا تَشْتَكِي حَرْبَ اللَيَالِي فَإِنَّمَا حِرَابُ اللَيَالِي هَذَّبَتْ بِالتَّجَارِبِ
وَلا تَقْنَطِي ، فَخْرُ النُّفُوسِ بِمَا ارْتَقَتْ وَمِنْهَا اللوَاتِي فَخْرُهَا فِي المَثَالِبِ
كما يعود الشاعر الى العودة الى المفاخرة والمباهاة بالثبات على الحق ، وبالتطلع نحو الآمال الكبار التي تقصر عنها النفوس المتخاذلة ، مستخدما في ذلك المقابلة الذكية :
إِذَا رَكِبَ الأَقْوَامُ مَرْكبَ شَهْوَةٍ رَكِبْتُ إِلَى الإِحْسَانِ خَيرَ المَرَاكِبِ
وَإِنْ خَاضَ أَهْلُ الوَجْدِ فِي ضَحْلِ وَهْمِهِمْ أَخُضْ فِي بِحَارِ المَجْدِ مِنْ غَيرِ قَارِبِ
وَلَسْتُ أُبَالِي مِنْ غَرَابِيبَ نُعَّبٍ وَلا اهْتَزَّ صَدْحِي مِنْ صَرِيرِ الجَنَادِبِ
أَسِيرُ عَلَى دَرْبِي وَأَبْذُلُ هِمَّتِي لأَرْفَعَ صَرْحًا لِلعُلا وَالمَنَاقِبِ
وَأَبْنِي مَعَ الأَحْرَارِ مَجْدًا لأُمَّةٍ بِدِينِ الهُدَى نَرْجُو حَمِيدَ العَوَاقِبِ
إن شاعرنا يرشق الحاسدين بسهام الشعر ، وهي أشد فتكا وأعظم تأثيرا، ويا لها من أهداف نبيلة يضعها الشاعر نصب فؤاده وعينيه.
أَنَا حَاتِمٌ بِالحِلْمِ يَا أُمُّ حَازِمٌ وَقَدْ كُنْتُ ذَا عَزْمٍ وَلا زِلْتُ يَا أَبِي
فَلِي هِمَّةٌ لَمْ تُعْنَ إِلا بِأُمَّةٍ وَمِثْلِيَ لَمْ يُخْلَقْ لِغَيرِ النَّجَائِبِ
وَلَو شِئْتُ مَجْدِي كَانَ أَدْنَى إِلَى يَدِي وَأَقْرَبَ مِمَّا بَينَ وَأَنْفِي وَشَارِبِي
وَلَكِنْ هُنَا نَجْنِي غَدَ المَجْدِ وَالعُلا مَعًا، وَالأَمَانِي مِنْ نَبِيلِ المَآرِبِ
ما أروع هذه الأبيات الجزلة القوية ، وأحسبها شعار للواحة الغراء ، يجب أن يكتب على صفحتها الاولى ، ليخبر مرتاديها بالمنهج القويم الذي تتخذه لها ، وبالقيم والمثل السامية التي تنهض بها :
فَيَا وَاحَةَ الفِكْرِ الرَّشِيدِ وَرِحْلَةً مَعَ الأَدَبِ السَّامِي وَصَقْلِ المَوَاهِبِ
وَيَا مِنْبَرًا لِلحَقِّ وَالخَيرِ وَالهُدَى وَدَارَ الغَطَارِيفِ الكِرَامِ الكَوَاكِبِ
بِفَخْرٍ قِفِي فَوْقَ النُّجُومِ الثَّوَاقِبِ وَلا تَحْتَفِي إِلا بِأَعْلَى المَـرَاتِبِ
وَمَا الوَاحَـــةُ الغَرَّاءُ إِلا مَنَارَةٌ دَلِيلُ الحَيَارَى قِبْلَةٌ لِلمَــوَاكِبِ
وَمَا أَمْــرُهَا مُذْ كَانَ أَوَّلُ بَعْثِهَا لِغَيرِ وَفَاءٍ أَوْ قَضَاءٍ لِوَاجِبِ
بِهَا رِفْعَةُ الأَيَّامِ مِنْهَاجُ صَفْوِهَا وَإِنْ سَاوَرَتْهَا بِالخُطُوبِ الحَوَازِبِ
إنه نص يحمل الكثير من الصور واللوحات المتناسقة التي تبدو فيها اللمسات والرتوش الأخيرة بريشة شاعر احترف الرسم التخيلي والتشكيل البنائي .
وأراها قصيدة تستحق دراسة وافية ، نتأمل خلالها تلك المشاهد المتتالية التي جاءت في سياق قوي ولكن يحول بيننا وبين ذلك ضيق الوقت .
مع خالص تقديري لقلمك الحر أيها الشاعر القدير .
علا حسّان