وحيد يتالم
داهم وحيد ألما لم يخطر على باله قط، ولم يشهد مثل هذا الألم طوال الخمسين سنة التي يتذكرها من عمره، ولا يتوقع سنوات الخمس التي لا يتذكرها من طفولته أنه أصيب بمثل هذا الألم.
قطع الألم نومه الذي جهد في جلبه ، ورفس اللحاف ضاربا عرض الحائط ببرودة الطقس، فالألم اشد من البرد ،وهو الذي يقول" ان برودة جهنم أقسى بكثير من حرِّها " .ومن المؤكد أنه ككل البشر، مر به أنواع مختلفة من الألم.كألم العين ،الإذن،الأنف،الضرس،كسر الذراع ،حرق رجل ،جرح يد ، هرس أصبع ،صفعة خد، فج رأس ،حرقة معدة،إلا ان هذا الألم الذي باغته كان أشد.
انكب على وجهه، ساحبا رجليه نحو بطنه ،يضغط على منطقة الألم ، يعصرها علها تهدأ، فهو لا يريد أحدا من أبنائه أو زوجاتهم ولا بناته أو أحفاده الذين يضمه بيته الكبير سماع ما يحس به،سيصبر، قد يكون الألم عارضا ،كألم القولون الكاذب فيرحل بسرعة، او كألم بحصة تحركت في مجرى البول سينتظر ذوبانها . إلا أن الألم كان عنيدا كثور ،أبى أن يفارق المنطقة، فعض على شفته يمنع خروج الصرخة .
في شبابه ، مر به ألم شبيه عدة مرات ، وكان الدواء عند زوجه ،حين يحضنها ويسكن إليها فيهدأ ذلك الألم .خاصة بعد غياب لأيام بسبب سفر أو مرض. ولكنه ألم خفيف كعضة طفل رضيع لم تنبت أسنانه بعد .أما هذا الوجع لا يعادله قلع ظفر أو هرس خصية بمطرقة ..
تقوى على الألم بلف اللحاف ، كمن يعانق أفعى طويلة ، فحشر طرف اللحاف بين أسنانه يسد منافذ قد تهرب منها الصرخة ، وكوّم الطرف الزائد من اللحاف بين رجليه يدعم الضغط على المنطقة المتألمة. فهو لا يريد أن يكرر صرخة الشهر الماضي ، حين فاق على شخير زوجه ،التي ابتسمت وتركت روحها يخرج من فمها وعينيها، فصرخ يطلب النجدة حين فشل منع الروح من السفر ،صرخ في وجه أولاده ، و في وجه الطبيب الذي قال" لو أن الدنيا كلها اجتمعت فلن يقدروا على منع روح خرجت بأمر الله .ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون."
يخطئ من يظن فقد الأم أو الأب مثل الزوجة، أدرك وحيد هذا متأخرا ، فألأم لا تعوض وكذلك الأب هذا متفق عليه ولكن زوجته كانت معه تواسيه ، وحين يحس بالشوق أو الحنين يهرب إلى حضنها، فتسكن نفسه، ويهدأ شوقه .. ويخطئ من يظن بأنها رحلت عنه ، نعم انتقلت ولم تعد تظهر لهم ، لأولاده أو بناته ، او أقاربه وجيرانه،أما هو فتزوره كل ليلة ، تحدثه قليلا وتطلب منه الصبر ، الصبر على تحمل طعام زوجات أولاده، على تحمل غسل ملابسه الداخلية بيديه ، على تحمل برودة الفراش حين الدخول إليه ، ولكنها ستهرب ، ستتسلل من عالمها الذي رحلت إليه عنوة وتأتي إليه فهي تقدر على ما لا يقدر عليه ..بل إنه نادرا ما أحس بأنها ليست بجانبه ، حتى في اليقظة وكم مرة نادى عليها، وكم من مرة سمع صوتها، تتجول بين الغرف ،وعند الخزن، وفي المطبخ ..
قبل أيام انقطعت، فخاف لأول مرة، ولكنها عادت البارحة واعتذرت لصعوبة لن يفهمها، ووعدته أن لا تعود لقطعه ، بعد أن تأكدت بأنه لن يقدر على الزواج مرة أخرى لأسباب عدة منها، معارضة الأولاد، ومنها حالته الصحية التي كانت أحد الأسباب الرئيسة لشجارهما في السنوات الأخيرة، فهو يريد أن يغزو، وهي تخاف على حصانه من التوقف، فتلهيه ثم ترضيه على طريقتها .
فرح حين أحس بتراجع الألم ، كأنه يستعد للرحيل ،بقي ضاغطا على بطنه ، إلا أنه حرر شفته السفلى من أسنانه واللحاف ، وسمح لفمه أن يزفر فخرج مع الهواء حرف الهاء حارا سخّن طرف اللحاف الملاصق لأنفه ..وحين تأكد من مغادرته ،بسط رجليه واستلقى على ظهره،كأنه أنهى واجبه الزوجي بمهارة فكافأ جسده بالراحة.ومد ذراعه كعادته بعد الواجب يتفقد زوجه اللاهثة ، فهوت بقوة على فراغ ،وارتطمت بالفراش البارد، فتذكر فقدانها، وأنها حنثت بوعدها ،كعادتها حينما تحس برغبته في الغزو وهي تخشى على حصانه ..عندئذ ..لحظتئذ.. باغته الألم ،فجعله يصرخ صرخة أشد ألما وأحد صوتا من بكر تلد .