دموع نذار قبانى
*****
بقلم / عاطف الجندى
ولد نذار توفيق قبانى فى 21 مارس 1923 بمنطقه مئذنه الشحم – حي الشاغور – بمدينة دمشق السورية من أسرة لها باع في الأدب 0 فقد كان عمه الشاعر أحمد أبوخليل القبانى الذى ترجم لموليير و يعد بأنه أول من كتب المسرح الغنائى العربى و لكن نزار خالف كل من سبقوه و عاصروه فهو يبحث دائمًا عن الدهشة لنفسه أولا ً ثم لغيره و يقول عن ذلك :
يوم اشتروا لى قلمًا و دفترًا
قررت أن أكون من عائلة البروق
لا من عائلة الأشجار
و نزار هو شاعر المرأة الأول و قد قال عنه عباس العقاد : أنه قد دخل مخدع المرأة و لم يخرج منه 0
و كان أبوه يملك معملا ً لصناعة الحلوى و لم يكن أديبًا و أمه كانت ربة منزل و حصل نزار على ليسانس الحقوق من جامعة سورية ، و التحق بالسلك الدبلوماسى السورى 1945 م و شغل عدة مناصب دبلوماسية مختلفة فى أماكن متفرقة من العالم و استقال سنة 1966 م ليتفرغ للشعر و أصدر دواوين كثيرة منها على سبيل المثال 00 قالت لى السمراء و طفولة نهد و سامبا و أنت لى و قصائد 000 الخ
و لقد أثر نزار قبانى فى أجيال كثيرة و أنا واحد منهم 0 أعجبت بشعره و أذكر أننى بكيت مرتين عند سماع أشعار نزار أو عند قراءتها 0 المرة الأولى كانت فى صيف 2000 م فى صالون المهندس أحمد ماضى بقرية القرضا بكفر الشيخ عندما سمعت مطربًا يغنى بصوت رخيم و يعزف على ألة العود أغنية بلقيس و هى التى يرثى فيها نزار محبوبته و زوجته بلقيس و الثانية عند قراءة قصيدة الأمير الدمشقى توفيق و التى يرثى فيها ابنه توفيق 0 و قد كتب نزار هاتين القصيدتين بالسكين الذى يجرح قلبه ، فنزف مع نزفه00 و بكيت مع بكائه 0 و قد تأثرت - و مازلت - عندما أقرأ أو أستمع إلى أى منهما 0و القصيدة الأولى و هى قصيدة بلقيس و هى زوجة الشاعر و التى كان قد شاهدها فى إحدى ندواته بكلية التربية ببغداد عام 1962 م و التى وصفها بأنها أطول نخلة فى العراق و تقدم لخطبتها و لكن قوبل طلبه بالرفض لأن أسرتها ترى أنه شاعر ماجن و أشعاره فاضحة و كتب قصة حبه فى قصيدة أسماها " ثمن قصائدى " و يقول فيها :
" و تمضغ النساء
فى المدينة القديمة
قصصنا العظيمة
و يرفع الرجال فى الهواء
قبضاتهم
و تشحذ الفؤوس
كأنها 00 كأنها جريمة
بأن تحبى شاعرًا "
حتى تدخَّلت بعض الشخصيات الهامة فى العراق لدى عائلة بلقيس و بالفعل تزوجها و أنجب منها ابنه عمرو و ابنته زينب و استمر عقد زواجهما عشر سنوات حتى ماتت فى حادث تفجير السفارة العراقية فى بيروت و كانت تعمل فى هذه السفارة فقال فى رثائها قصيدة من اروع ما كتب فى الرثاء و يقول فيها :
" شكرًا لكم 00 شكرًا لكم
فحبيبتى قتلت و صار بوسعكم
أن تشربوا كأسًا
على قبر الشهيدة
و قصيدتى اغتيلت
و هل فى الأرض من أمة ٍ
الا نحن
تغتال القصيدة ؟! "
و يواصل نزار فى و صف محبوبته فيقول عنها بأنها كانت أجمل ملكات بابل و أطول نخلة فى أرض العراق و كيف أن الطواويس و الأيائل تتبعها حين تسير و هى نينوى الخضراء و الغجرية الشقراء و هى أمواج دجلة 0 ثم يتسائل نزار لماذا العرب تغتال أصوات البلابل و أن القبائل العربية دائمًا فى تناحر مع بعضها البعض و يقسم بعينيها على أن يقول على العرب الكلام العجيب فيقول :
" قسمًا بعينيك اللتين إليهما
تأوى ملايين الكواكب
سأقول يا قمرى
عن العرب العجائب
فهل البطولة كذبة ٌ عربية ٌ ؟!
أم مثلنا التاريخ كاذب ؟! "
و يواصل نزار وصف محبوبته فهى الشهيدة و القصيدة و ملكة سبأ و هى رمز الأمجاد السومرية و هى العصفورة الأحلى و الأيقونة الأغلى و يلوم نفسه و يسألها هل ظلمها عندما أتى بها من بغداد إلى بيروت لتموت فيها ؟!
" أترى ظلمتك إذ نقلتك
ذات يوم ٍ00 من ضفاف الأعظمية ؟!
بيروت تقتل
كل يوم واحدًا فينا
و تبحث كل يوم ٍ
عن ضحية ! "
و يواصل نزار فيقول بإن الموت فى كل شبر ٍ من أرض بيروت و إننا عدنا إلى العصور البربرية ، و هو يهاجم كل من تسبب فى مقتل حبيبته بلقيس ، و تمتزج القصيدة و تتراوح بين الوصف الجميل للمحبوبة و الهجوم على من تسبب بموتها بإسلوب رشيق يقدم الدهشة للقارىء ، فيقول :
" هل تعرفون حبيبى بلقيس ؟!
فهى أهم ما كتبوه
فى كتب الغرام
كانت مزيجًا رائعًا
بين القطيفة و الرخام
كان البنفسج بين عينيها
ينام 00و لاينام "
ثم ينهى قصيدته بأن هذه القصيدة ليست مرثية و لكن بكائية على ما وصل إليه حال العرب فنراه يقول :
" بلقيس
ليست هذه مرثية ٌ
لكن على العرب السلام "
و عندما مات ابنه توفيق فى عام 1973 م ، كتب قصيدة تجسد معنى فراق الابن و مدى لوعة الأب و كيف أصبح نزار مكسورًا مثل كلماته و بأنه لن يغنى لأن دمعه ملأ دواة أشعاره التى يكتب منها فيقول :
" مكسَّرة ٌ كجفون أبيك هى الكلماتْ
و مقصوصة ٌ كجناح أبيك
هى المفردات ْ
فكيف يغنى المغنى ؟!
و قد ملأ الدمع كل الدواة ؟!
و ماذا سأكتب يابنى
و موتك ألغى جميع اللغات ؟!
هو هنا الأب و الشاعر الذى لا يجد ما يكتبه ، و هو يعانى من لوعتين فى آن ٍ واحد ٍ ، اللوعة الأولى هى فراق ابنه توفيق و ما أصعبها من فاجعة و الثانية التى تزيد مرارة الإحساس بهذه الفاجعة هى غربته فى لندن و الإحساس بفقدان دفء الوطن و الأصدقاء الذين كانوا سيخففون عنه بطبيعة الحال وهو فى لندن لا يعرفه أحد ، و كيف أنه أصبح مشطورًا هو و ابنه كصفصافة قسمت إلى شطرتين 0 و هو الآن فى موقف يذكره – مع الفارق بالطبع – بالحسين رضى الله عنه و الإمام علىّ كرم الله وجهه00 فيقول :
" لأى سماءٍ نمد يدينا ؟!
و لا أحد
فى شوارع لندن يبكى علينا
يهاجمنا الموت فى كل صوب ٍ
و يقطعنا مثل صفصافتين
فأذكر حين أراك عليًا
و تذكر حين َ ترانى الحسين "
و يمضى نزار فى بكائيته و رثائه لابنه بهذا الحس الصادق الوارف المشاعر و الكلمات المعبرة ، فها هو يحمله فوق ظهره كمئذنة ٍ كسرت و هو يجمع كل ثيابه و يقبل قمصانه العاطرة و صورته فوق جواز سفره و يصرخ مثل المجنون الذى فقد عقله 0
و قد أحسن الشاعر اختيار المئذنة التى كسرت فى الإشارة إلى ابنه الذى توفى و المئذنة هنا هى دليل الطهر و النقاء لما تحمله من دلالات دينية و روحية فى نفس كل مسلم0
و يدور بكاميرا حزينة يصور كل شىء فى صورة رائعة و يستخدم تقنية " الفلاش باك " و يتحدث عن ماضى توفيق ابنه ، هذا الأمير الجميل و الخرافى الذى كان مثل المرايا نقاء فيقول عنه :
" سأخبركم عن أميرى الجميل
عن الكان مثل المرايا نقاء
و مثل السنابل طولا ً
و مثل النخيل
و كان صديق الخراف الصغيرة
كان صديق العصافير
كان صديق الهديل "
و نزار لا يصدق أنه مات ، فكل كلام الأطباءعن موت ابنه – فى رأيه – كذب 00
هو الرفض القاطع لموت ابنه و الهروب النفسى و الإنكار لعدم قدرته أو قدره غيره لتحمل مثل هذا الموقف و لو لوقت قصير ، حتى أكاليل الزهور على قبر ابنه أصبحت كذبًا فى رأيه و أن الموت ما هو الا نكته سخيفه لا نقوى على تحملها فيقول :
" فموتك يا ولدى نكتة ٌ
و قد يصبح الموت أقسى النكات "
و يتذكر نزار حياة ابنه بالقاهرة و كيف كان توفيق يعبر كوبرى الزمالك و كيف كان يدخل نادى الجزيرة و علاقته مع أصدقائه و شقته بالقاهرة و سريره و لوحاته و كيف كان يصنع شايه و يلبس ملابسه و يسقى زهوره فى الصباح، حتى كتب الطب التى كان يدرسها تتسائل الآن عنه و يختم الفقرة السادسة من القصيدة ببيت مؤثر فيقول عن ابنه :
" يا نخلة العمر ، كيف أصدق
أنك ترحل مثل الأغنيات
و أن شهادتك الجامعية يومًا
ستصبح صك الوفاة ؟! "
ثم يتجه ناحية الموت و يخاطبه و يقول له 00 لوكان لك ابن أيها الموت لأدركت معنى وفاة الأبناء و لو كان لموتك عقل لسأله ، كيف يفسر موت البلابل و الياسمين و كيف يذبح الأولاد الطيبين بلا شفقة أو رحمة رغم أنهم لم يزرعوا الشوك يومًا 0
و يختم قصيدته بإنتظار جسور الزمالك – حيث كان يقيم توفيق – لمرور ابنه و كيف هى لوعة الحمام الدمشقى لفراقه و يسأله نزار و يخاطب ابنه هنا ويقول له و لا ينتظر الإجابة بالطبع 00 كيف وجدت الحياة فى الموت و كيف أخبارك فيه و يتمنى أن يرجع ابنه فى له فى آخر الصيف ، فنراه يقول :
" أتوفيق 00 إن جسور الزمالك
ترقب كل صباح ٍ خطاك
و إن الحمام الدمشقي يحمل
تحت جناحيه 00 دفء هواك
فيا قرة العين 00
كيف وجدت الحياة هناك ؟!
فهل ستفكر فينا قليلا ً
و ترجع فى آخر الصيف حتى نراك ؟!
أتوفيق 00 إنى جبان ٌ
أما رثائك
فارحم أباك "
و الشاعر هنا صادق إلى أقصى درجة ، فها هو بعد موت الأحباب يعيش فى لوعة و حزن صادق يكتب منه نزار و يدهشنا بقصائده ؟!
إن نزار قبانى شاعر كبير و مدرسة تتلمذ فيها العديد من شعراء الوطن العربى ، بل أنه أثر فى الذائقة العربية بأسرها بقصائده الوطنية و العاطفية سواء من وقف إلى جانبه و أحب و دافع عن شعره و من هاجم نزار لخروجه عن التابو فى بعض الأحيان ، لكن لم يختلف أثنان على شاعرية نزار و أستاذيته 0
***
عاطف الجندى
القاهرة