مسار الهدم .. مسار الإستيطان

د / لطفي زغلول – نابلس


بداية يجدر بنا أن نشير إلى حقيقة مؤكدة مفادها أن واحدا من أخطر أهداف الذين خططوا للإحتلال الإسرائيلي في حزيران / يونيو من العام 1967 ، أنهم وضعوا نصب أعينهم مسارين يتقاطعان ، ويلتقيان في نهاية الأمرعند هدف إستراتيجي واحد ، يتمثل في تهويد الأرض الفلسطينية جغرافيا وديموغرافيا . وهذان المساران هما مسار الهدم ، ومسار الإستيطان .
ولدى استعراض تاريخ المسار الاول الخاص بالهدم والذي تعود جذوره الأولى إلى أيام الإنتداب البريطاني - إلا أننا هنا سوف نكتفي بالإشارة لهذه المرحلة دون الخوض بها - فمن المعروف أن فعاليات الهدم المرافقة للإستيطان ، قد مرت بمراحل عديدة كان أولها وأخطرها على الإطلاق غداة قيام إسرائيل في العام 1948 ، وتهجير المواطنين الفلسطينيين جراء أعمال العنف والإرهاب التي مورست ضدهم آنذاك لترك قراهم وبلداتهم التي كانوا يقيمون عليها ، وكانت تحمل أسماء فلسطينية عربية المنتمى تدل على انتماء عريق للمكان والزمان .
في هذه الفترة بالذات ، عملت الجرافات الإسرائيلية على هدم كل هذه القرى والبلدات وإزالتها من الوجود وتغيير كل معالم الجغرافيا التي كانت تحيط بها ، ولم تعد الأماكن الفلسطينية على الأرض الفلسطينية إلا شريطا من الذكريات يستوطن الذاكرة الفلسطينية التي لم تستطع الجرافات الإسرائيلية أن تأتي عليها ، ذلك أنها ما زالت تذكرها وتعددها قرية قرية وبلدة بلدة ، إضافة إلى أن ثمة خرائط جغرافية قديمة توثق كل ذلك وتمنحه المشروعية والمصداقية والموضوعية التي يستند عليها الرأي الفلسطيني في الحديث عن حقه ، وما كواشين الطابو العثمانية إلا شاهد آخر على هذا الحق .
لقد كانت الفترة ما بين الأعوام "48-67" هي فترة الهدم للوجود الفلسطيني لإقامة الوجود الإسرائيلي ، وأسفرت عن إتمام المرحلة الأولى من مشروع الدولة الإسرائيلية ذلك أنه في العام 1967 استكملت إسرائيل احتلال كل فلسطين باحتلالها الضفة الفلسطينية ، وبذلك بدأت المرحلة الثانية التي اختلفت بعض الشيء عن سابقتها من حيث أن إسرائيل لم تستطع أن تهدم القرى والبلدات المتواجدة فيها ، لكنها وظفت آليتي المصادرة والهدم بأقصى طاقتيهما .
وهنا كان لا بد من منظور هذا الإحتلال من تفعيل آلية هدم كل ما يمكن أن تطاله جرافات الهدم الإسرائيلية التي ما هدأ لها هدير منذ اليوم الأول للإحتلال الإسرائيلي . وبطبيعة الحال فإن هذا الهدم يصاحبه على الفور وضع اليد على الأرض التي هي الهدف الأهم ، بغية إقامة مشروعات إستيطانية عليها " وحدات سكنية ، طرق إلتفافية ، أو أنها صودرت على خلفية دواع أمنية " .
ولسنا هنا بصدد الحديث عن ما اقترفته هذه الجرافات من أعمال هدم وتدمير وإزالة معالم قائمة من بلدات وقرى فلسطينية وآثار ، وشطب تاريخ ، سواء ما قبل العام 1948 ، أو ما بعد العام 1967 ، ذلك أن القائمة طويلة جدا ، وتكاد تستعصي على التعداد .
ما يهمنا هنا هو التقرير الذي صدر مؤخرا عن الأمم المتحدة ، والذي أشار إلى أن الحكم العسكري الإسرائيلي ينوي تفعيل مئات أوامر الهدم لمبان سكنية ومنشآت في المناطق المصنفة " ج " من الضفة الغربية ، والتي تعود ملكيتها إلى مواطنين فلسطينيين ، أقاموا عليها منذ مئات السنين .
وقد كشفت تقارير أن السلطات العسكرية الإسرائيلية ، قد هدمت في الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام 2008 مائة وأربعة وعشرين مبنى قائما " 124 " ، مقارنة بمائة وسبعة مبان في العام 2007 ، الأمر الذي أدى إلى تشريد أربعمائة وخمسة وثلاثين مواطنا فلسطينيا " 435 " ، من بينهم مائة وخمسة وثلاثون طفلا " 135 " يذهبون إلى رياض الأطفال والمدارس .
في إحصائية للأعوام 2000 – 2007 ، قامت جرافات الإحتلال الإسرائيلي بهدم ألف وستمائة مبنى ومنشأة " 1600 " في أراضي الضفة الغربية المصنفة " ج " وفق اتفاقيات أوسلو . وتشتمل هذه المباني والمنشآت على أماكن سكن ، ورياض أطفال ، وعيادات مرضى وخزانات مياه ، وشبكات كهرباء وهاتف ، ومساجد ، تم تمويلها من قبل المعونات الأميركية واليابانية والبلجيكية والنرويجية .
إلا أن المشكلة الأخطر في غضون الأشهر القادمة تكمن في أن الآلاف من المواطنين الفلسطينيين في المنطقة المصنفة " ج " من أراضي الضفة الغربية يواجهون خطر تشريدهم ، بعد أن هددت سلطات الإحتلال الإسرائيلي بهدم منازلهم ، وهذا التهديد بالهدم لا يستثني أحياء سكنية بأكملها .
تبلغ مساحة المنطقة المصنفة " ج " من أراضي الضفة الغربية ثلاثة آلاف وخمسمائة كم مربع " 3500 " ، وهي تعادل " 60 % " من مساحة الضفة الغربية . وقد انتهجت سلطات الإحتلال الإسرائيلي خطا لا يسمح بإعطاء تراخيص بناء للمواطنين الفلسطينيين على مثل هذه المساحة الكبيرة ، الأمر الذي اضطر هؤلاء المواطنين إلى إقامة مبانيهم دون الحصول على التراخيص التي يعتبرونها غير قانونية ، كونها واقعة تحت الإحتلال العسكري الذي يرفضه الفلسطينيون .
لقد رسمت إسرائيل ، سيناريوهات المراحل القادمة من وجودها وبخاصة المرحلة الحالية التي تسمى مرحلة العملية السلمية ، وبنتها على تصورات خاصة بها انطلاقا من أن كلمتها في المنطقة ستظل هي العليا كونها المنتصرة . وإن أي سلام تطبيعي هو سلامها وهي راعيته ويفترض أن يخدم مصالحها الإستراتيجية ، وهذا السلام ينبغي له أن يكون مع العالم العربي ، ذلك أنه لا يوجد قضية فلسطينية في تفكيرها .
والعالم العربي من منظورها يتسع لطموحاتها وتوجهاتها ومخططاتها وكذلك لضحايا جرافاتها وممارساتها التعسفية الذين هجروا من وطنهم هربا من القتل والدمار والإرهاب والهدم .
كلمة أخيرة .إن استمرار لعبة الهدم والإستيطان المزدوجة هذه وكما يبدو هي الطرح الوحيد والإسهام اللذان يمكن أن تقدمهما إسرائيل لما يسمى العملية السلمية التي تريدها لنفسها دون غيرها ، ومشكلتها أنها راهنت في كثير من الأحيان على الذاكرة الفلسطينية ، أو على النفس الفلسطيني حيث توهمت أنها بكل ممارساتها يمكن أن تغتال هذه الذاكرة ما تختزنه من ذكريات عن الأرض والوطن والتاريخ والتراث .
كما توهمت أن النفس الفلسطيني قصير سرعان ما يلهث وينقطع ، وفي كلا الحالتين أخطأت ذلك أن كل بيت هدم ما زال قائما في تفكير صاحبه الشرعي ، وكل أرض صودرت بغير حق ما زالت مرسومة في وجدانه .
إن إسرائيل في إصرارها على مشروعاتها الإستيطانية ، إنما تنطلق من منظورها العقائدي السياسي المتمثل في أن فلسطين من النهر إلى البحر هي أرض إسرائيل الكبرى . وهو منظور دأبت سياساتها على توظيفه على أرض الواقع منذ اليوم الأول لاستكمال احتلال بقية الأراضي الفلسطينية في العام 1967 .
إنها تستمد قسطا وافرا لطاقة هذا التوجه والتحرك من ظروف دولية وإقليمية مواتية لها جدا . فعلى الصعيد الدولي وتحديدا الولايات المتحدة ، تستغل إسرائيل حمى مزادات الإنتخابات الرئاسية الأميركية ، حيث تفاقمت شهية المرشجين المتنافسين على الأصوات اليهودية ، والتي ترافقها حالات تقمص أميركية واسعة للسياسات والرؤى الإسرائيلية .
وفي ضوء هذا المشهد السياسي الأميركي ، فإنه من المستبعد أن تمارس الإدارة الجمهورية في البيت الأبيض أية ضغوطات فعلية على إسرائيل لثنيها عن مخططاتها هذه ، حتى وإن كانت تتناقض كليا مع كل الوعود الأميركية للفلسطينيين ، والتي بدأت تذهب مح الريح . وإن غدا لناظره قريب .