الإتحاد .. من أجل المتوسط

د / لطفي زغلول – نابلس


الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي مؤخرا إلى إسرائيل ، وخاطب فيها الكنيست الإسرائيلية ، ودافع عن أمنها وأمانها ووجودها ، لم تكن في اعتقادنا روتينية ، وإنما جاءت كمقدمة ودعوة لحضور إسرائيل انطلاقة الإتحاد من أجل المتوسط . هذا الإتحاد الذي تبناه الرئيس الفرنسي ، ومن أهدافه قبول إسرائيل إقليميا ، والإعتراف العربي بها . والتطبيع معها .
وبداية فإن مثل أوروبا المتعلقة قلبا وقالبا بالولايات المتحدة الأميركية ، وتحديدا في عصر الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش ، كمثل من يسمع جعجعة ولا يرى طحنا . أو بمعنى آخر إنه النفاق الذي نراه ، ونسمع عنه في كثير من التصرفات الأوروبية التي باتت مكشوفة ولا تخفى على كل ذي بصر وبصيرة .
وعلى ما يبدو فإن ما قاله الرئيس الفرنسي " نيكولا ساركوزي " في معرض خطابه في الكنيست الإسرائيلية ، ينطبق على هذا النفاق الذي ذهب أدراج الرياح فور مغادرته المنطقة . يومها خاطب الرئيس الفرنسي الكنيست فيما يخص القضية الفلسطينية . القدس عاصمة لدولتين . الإستيطان " والمقصود البؤر الإستيطانية ، وليس كل المشروعات الإستيطانية " لا يجلب الأمن والإستقرار ، ولا الجدار العازل . ولا بد من إيجاد حل لمشكلة اللاجئين .
أما فيما يخص معاناة الشعب اليهودي إبان الحكم النازي ، فلا ينبغي لها أن تشكل قاعدة يرتكز إليها الحكم العسكري الإحتلالي القائم على الإجتياحات ، والإغتيالات ، والإعتقالات ، والحواجز الأمنية ، والإغلاقات ، وإفقار الشعب الفلسطيني ، وإيصاله إلى خطوط لم يسبق أن وصلها من الفقر والعازة .
كلام جميل . إلا أن هناك فرقا كبيرا بين الأقوال والأفعال . وعلى ما يبدو فقد أصبحت " موضة " ، أن يأتي لزيارة إسرائيل رئيس أوروبي ، ويصرح مثل هذه الكلمات والتعابير الرنانة ، إلا أنها في اعتقادنا جوفاء ، لا تسمن ولا تغني من جوع . وفقدت سحرها قبل أن يقفل هذا الرئيس عائدا إلى بلده .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : ماذا فعل الرئيس نيكولا ساركوزي لتحقيق مثل هذه الأفكار على أرض الواقع ؟ . قبل أن تتكرر هذه المسرحية . في اعتقادنا إنه لم يفعل شيئا ، اللهم أنه ترك الشعب الفلسطيني يتلذذ على هذه الكلمات التي طارت نشوتها ، قبل أن يطير هو عائدا إلى باريس عاصمة ملكه السعيد ، برفقة حسنائه .
ولكي تكتمل الصورة الحقيقية التي من أجلها جاء لزيارة إسرائيل ، ها هو يعلن أمام الكنيست أن إسرائيل لن تقف وحدها في مواجهة ما أسماه الإرهاب الفلسطيني من ناحية ، ولا ما تواجهه إسرائيل من تحديات إيرانية خطيرة فيما يخص تصنيع أسلحة نووية . إن إسرائيل تشكل خطا أحمر لكل من يفكر المساس بأمنها وأمانها .
والمزيد المزيد يتكشف من صورة فرنسا التي تريد أن تخدع العالم العربي برقتها ونعومتها وسحرها ورومانسيتها . ها هو مشروعها الإتحاد من أجل المتوسط الذي تعمل جاهدة لتأسيسه ، ها هو يحاول جاهدا ضم أكبر مجموعة عربية له . وتذكيرا فإن هذا الإتحاد هو امتداد وتجسيد لما يسمى " مسار برشلونا " الذي طالب بالتطبيع مع إسرائيل قبل أن يكون هناك سلام مع الفلسطينيين .
وبحجة أن حوض البحر المتوسط يعاني راهنا من عدم وجود أي أفق سياسي . وبحجة انعدام رؤية مستقبلية ، أدت إلى تناقص الإستثمارات ، وتراجع السياسات المشتركة ، وتفاقم المخاطر ، فإنه في خضم هذا التنافس العالمي المحتدم ، فإن أوروبا ودول جنوب ضفة المتوسط تملكان مصلحة أكيدة مشتركة التأسيس سويا لاستراتيجية تنمية مستدامة ، ووضع الإمكانات الضرورية لإنجاح هذه السياسة .
وثمة الكثير مما يفترض أن يقال في هذا الصدد . إذ يفترض بالمؤسسات الإقتصادية لدول جنوب المتوسط أن تقبل بفتح رأسمالها أمام شركاء دوليين ، الأمر الذي يعني فتح الأسواق الداخلية أمام مصالح أجنبية . وهذي هي العولمة بأجلى مظاهرها . وجدير بالذكر أن دول الشمال ما زالت تعتبر دول الجنوب مجرد مناطق لاستخراج المواد الأولية ، أو أنها مجرد أسواق لترويج منتجاتها .
وبطبيعة الحال فإن هذا يفرض على دول الضفة الجنوبية للبحر المتوسط أن تقوم بتسريع الإصلاحات بغية تحسين المناخات القانونية والديموقراطية . إن مناطق شتى في العالم تشهد تقدما على هذا المستوى ، فلم لا تكون هذي الحال في العالم العربي ، ونخص بالذكر دول جنوب المتوسط وشرقه . أما بقية البلدان العربية فهي تابعة للنفوذ الأميركي . ؟ . وإذا ما أرادت دول الضفة الجنوبية من المتوسط أن تستوعب ضمن سيرها نحو دولة القانون والتأسيس لأطر مؤسساتية دائمة ، فإن عليها أن تطرح مبادرات سياسية على مستوى العلاقات بين دول الجنوب ، مثل فتح الحدود بين كل دول المنطقة ، وحرية تنقل الأفراد .
وإذا ما أضفنا إلى كل ذلك طبيعة الأنظمة العربية الإستهلاكية ، فإن الأمر يصبح واضحا كل الوضوح . إن الغاية المتوخاة من هذا الإتحاد تكمن في استمرار تدفق البضائع والتقنيات الأوروبية إلى دول هذا جنوب الحوض المتوسط . بالإضافة إلى تمرير أو تهريب حالة كانت مستعصية ، ويخشى أنها مع الأيام سوف تلين ، والمقصود هنا الإعتراف بدولة إسرائيل وقبولها إقليميا ، والتطبيع معها على كافة الصعد .
وبغض النظر عما أحدثته فكرة هذا الإتحاد من إرباك في صفوف الأوروبيين ، نظراء فرنسا في الإتحاد الأوروبي ، فانقسموا ما بين مؤيد ومتحفظ ومعارض ، فإن الهدف منه هو جمع الأنظمة العربية السياسية ، وبخاصة تلك التي لا تعترف بإسرائيل ، ولا تقيم معها علاقات تطبيع ، والمقصود سوريا ولبنان ، على مائدة واحدة . وبمعنى آخر هو قبول إسرائيل كأمر واقع جاء فرضه بهذه الوسيلة .
لقد هرولت بعض الدول العربية الإفريقة إلى احتفالات انطلاق هذا الإتحاد . إلا أن الرئيس الليبي معمر القذافي ، وكان على حق ، قد حاربه منذ البداية ، فأعلن أنه لن يحضر جلساته ، مشيرا إلى أنه يشكل خطورة على كل من الوحدتين العربية والإفريقية من جهة ، ومن جهة أخرى فهو يتجاوز القضية الفلسطينية بكل إفرازاتها الكارثية . وقد عبر عن رفضه هذا برفض كل ما يتعلق بشؤونه السياسية الملزمة للموقعين على ميثاقه .
كلمة أخيرة . لقد كان على أوروبا ، وفي مقدمتها فرنسا ، أن تتخذ موقفا متوازنا في علاقاتها مع العرب ، وبخاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية . وثمة الكثير الكثير مما ينبغي عليها أن تفعله . والسؤال الذي يطرح نفسه هنا بإلحاح : وماذا قدمت هي وأوروبا غير الفتات من فائض خيراتها ؟ . وهو في الواقع جزء يسير من الأرباح التي يدرها البترول العربي .
إن على أوروبا الخروج من حالة التأرجح بين الولايات المتحدة الأميركية ، وبين الإصطفاف وراءها . إن عليها أن تلتزم بالشرعية الدولية ، فيما يتعلق بكل القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن ، وأولها حق العودة والتعويض . وهذه تخص أساسيات القضية الفلسطينية .
وثمة الكثير الكثير . إن الشعب الفلسطيني الذي ما زال يعاني إفرازات الحصار الكارثية ، يستحق أن يرفع عنه هذا الحصار ، وأن تزال إلى غير رجعة هذه الحواجز الأمنية في إطار إنهاء الإحتلال الإسرائيلي ، وتفكيك المستوطنات ، وإعادة القدس .
ويظل حلم الفلسطينيين في دولة قابلة للحياة . دولة لها علمها ، وعاصمتها القدس ، تتمتع بسيادتها برا وبحر وجوا ، وعلى كل معابرها . دولة متصلة غير مقطعة الأوصال ، حرة تتصرف بخيراتها وإمكاناتها كما تشاء . لعل هذه الدولة تعوض عن بعض ما عاناه الفلسطينيون من آلام ومآس وكوارث . لقد كثر الحديث عن الإتحاد من أجل المتوسط ، إلا أن خلفياته وخلافاته تظل رهن قضايا ساسية اهمها القضية الفلسطينية . وعندها فإن لكل حادث حديثا .