أحس بدر بلذة عارمة انفعلت لها نفسه وخفق فؤاده حين لاح أمام ناظريه وجه الحياة النائمة وراء نهر أم الربيع المنساب، شعر بشوق جرفه نحو دنياه الفسيحة الأرجاء، نحو منشأ الصبا بأفراحه وأتراحه وملتقى آله وأخدانه. كانت سطوح الدور ـ كما يعاينها جميع الركاب ـ متلاصقة والدروب ضيقة تستقيم وتنحرف ثم تعلو وتنخفض وهي تعزف نغمتها الرتيبة وتجتر طقوسها المعهودة وتكتوي بلظى عزلتها. وفيما وراء ذلك السور العتيق ـ سور القصبة الإسماعيلية ـ بدا حي الكانتنات في كامل أبهته وأوج نخوته، شوارعه الرحبة تمتد في نظام متناسق وقد اصطفت على جنباتها سامقات النخيل فأضفت باخضرار جريدها حلة زاهية على المكان. وتلك المغاني كما تلوح من وراء الزجاج تكللها تيجان من قرميد أحمر وأخضر وتحفها أسوار من إسمنت تدلى منها اللبلاب والياسمين، وبين هذا وذاك لاحت مئذنة شاهقة في قلب المدينة، وغير بعيد عنها مئذنتان أثريتان قامتا بين أسوار القصبة الإسماعيلية.
غير بعيد عن متجر السيد كوستي بائع قطع الغيار وقف بدر وفيليب ـ وكانت الحافلة قد وصلت نقطة النهاية بعد لأي ـ واندمجا في حديث ثنائي. كان فيليب يتكلم والبشاشة تعلو محياه، وقد بدا بقامته المائلة إلى قصر ممتلئ الجسم بض اليدين، ازدان وجهه الأبيض بعينين عسليتين وأنف قرمزي، ولحيته السوداء المشذبة بعناية تغطي سائر الوجه ولم يبد أثر لشفتيه اللتين غرقتا في شعر اللحية الكثيفة والشارب الكث، وآية ذلك كله شعر أسود ناعم انسدل حتى وارى قذاله. وأما بدر فقد أسند ظهره إلى عمود كهربائي وشبك ذراعيه إلى صدره وحقيبته الجلدية بين ساقيه. كان زيه حقا مواتيا بشرته المائلة إلى سمرة، إذ أخذ يرفل في قميص صيفي أبيض شفاف أبانت فرجته عن شعيرات تناثرت في صدره، وسروال أزرق داكن وحداء أسود لامع. كان شعره الفاحم متموجا لصلابة شعيراته وقد مشطه إلى خلف فلاح من الوجه الحالم عينان سوداوان اتسعت حدقتاهما. كان الجو في هذه اللحظة لطيفا تتخلله من حين لآخر نسائم ساخنة تندر بليلة ليلاء، وجعل الظل يزحف رويدا رويدا حتى كاد يغطي واجهات المتاجر والمخابز والحانات وصالونات الحلاقة والخياطة وأبراج الكنيسة منذرا بالغروب. قال فيليب وقد ارتسمت على وجهه سمات الاطمئنان:
ـ اتفقنا إذن، سوف نلتقي يوم الأحد في بار مدام جورج!
اضطرب بدر فعلا لهذا الموعد أول الأمر اضطرابا شديدا حتى كاد يلغيه، فهو لم يعتد أصلا الدخول إلى البارات، لذلك اضطرب خاطره لا رغبة عن الموعد وصاحبه بل أراد أن يبقى كل تواصل لمحض الصدف، ولكن لأمر ما رد وهو يمد يده مودعا:
ـ فليكن بعد غد السبت..
**تحرك بدر في بطء يقطع الشارع الطويل حتى انتهى عند مقر قيادة الحاكم "لاكومب". جد في مشيه وهو يعبر الطريق الإسفلتي الترب إلى حي سيدي بوكيل.. صادف في طريقه وجوها كثيرة من معارفه وجيرانه في الحي، وأبرزهم الحسين الدباغ يقود دراجته العتيقة ويحمل على مؤخرتها ما أعد من جلود غنم مدبوغة، وعرضها على بعض زبائنه النصارى في حي الكانتنات. وصل الفتى إلى زنيقة اليهود وانعطف عن يسار أفضى به إلى ساحة السوق، وكانت فسيحة ترباء شبه فارغة إلا من حلقة شعبية أمها سكان الحي والأحياء المجاورة لتزجية الوقت. كانت الحركة والنشاط يحتدان في الساحة طيلة يوم الإثنين فيكتظ السوق عن آخره بما يعرض في كل أنحائه من ضروب السلع، تغزوه جحافل البدو الرحل من القرى والدواوير المجاورة لبيع سمن أو زرع أو شاة، ومن ثم ابتياع ما يكفي لمدة أسبوع من سكر وشاي وشموع، ولا يهدأ فيه تيار السابلة إلا قبيل الغروب. اصطفت في جنبات الساحة المستطيلة خربات من قصدير وحوانيت أعدت أصلا كمتاجر للتبضع، وفي الجانب الآخر أقيم المسجد الأعظم تعلوه صومعته السامقة المشرفة على سطوح دور حي سيدي بوكيل والزرايب وأكواخ حي المرس ومغاني الكانتنات الأنيقة. حول بدر بصره إلى ما وراء ساحة السوق غربا مجيلا إياه في الأزقة الضيقة ودروبها الملتوية التربى، وهذه البيوت المتلاصقة في غير نظام وقد تناسلت كالجراد وتفطرت بعض حيطانها المشرفة على الوادي، وبين الحي والوادي جثا ضريح سيدي بوكيل أبيض كالحمامة، تعلوه قبة مستديرة تطل على النهر وقد ازدان قطرها بثلاث كويرات نحاسية شدت إلى بعضها في هيئة عمودية. لم تلبث عينا الفتى أن استقرتا في ساحة العنطيز، تلك الضفة التي فوق رمالها عبث وتسلى ولها، وفي أغوار النهر المنساب سبح وغطس ومن على قمة تلك الحصيدة أو الربوة الشاهقة قفز فأثارت حركاته البهلوانية، قبل أن ينغمس في أعماق النهر، إعجاب خلانه ورفاق طفولته.. ومن كمثل "دينا" اليهودية الوديعة والجارة بالجنب، حاز السبق في الإعجاب؟ تذكر وهو يتملى في هذه المعالم الخالدة ما تجرعه من مرارة في سبيل دينا!
** وهذا الغاب الملتف بأشجار الصفصاف يجذب بصره جذبا فيثير فيه إحساسا كادت نفسه تنفطر من جراء إيلامه.."يا إلهي، هل أنت محاسب مخلوقك الضعيف على كبوات صباه وأفراسه؟" ومهما يكن فقد أثار منظر الغاب في نفسه ذكريات ما فتئت تربض في وعيه الباطن كالبركان لا يلبث يثور مهما طال به الرقاد.. حلقت حوله أطياف الأيام الخوالي وذكر فيما ذكر يوم شخص دور العريس بينما تقمصت دينا دور العروس، وكيف شيعه أترابه الشياطين في زفة انطلقت من جنب الوادي إلى ضريح سيدي بوكيل، وأطلقوا حناجرهم على السجية بغناء طفولي برئ وأهازيج شعبية من موروث حيهم ـ حي سيدي بوكيل طبعا ـ ثم انتصبوا وراء السور مشغلين آذانهم، حتى إذا خلا الجو لسلطان زمانه انقض على فريسته مجسدا دوره الرجولي في عبث الصبيان، وكاد يصيب الهدف لولا صياح الصبية المحتد ومقاومتها الشديدة. والحق إن هذه الزلة كلفته أبهظ الأثمان؛ إذ ما نزل عليه من العقاب في بيت أبويه كان أفدح وأفظع، على جسده الذي زخرفه السوط حينا وبطنه الذي بات على الطوى آونة إلا من كسرة خبز وجرعة ماء لا تبل غلة، وقد ألقي به في المربط فكان رابع البغلين والحمار وراء حائط ربضت خلفه النعاج. وإن ينس فلن ينسى غداة ألقى به أبوه في جوف"الطارمة" مخزن الحبوب فقضى يومه في ظلمة كجوف كهف حتى كادت رائحة الشعير الحائل تخنق أنفاسه، وأما الحشرات السارحة في كثبان القمح فلم تشفع له هي الأخرى زلته، إذ أذاقته فنونا من اللسع قضت مضجعه.. ولم يمض غير شهر على حادث دينا حتى عاود عبثه الطفولي، وكان الضحية هذه المرة حيزون ولد رحمة اليهودية الشقيق الأصغر لدينا، فقد اختلى وصحبه به في ساحة العنطيز وأصروا على ختانه كما زين لهم خيالهم القاصر، فنزعوا تبانه وباشر بدر مهمته مجسدا دور خالي إسماعيل الحلاق، بيد أن هذا الأخير كان يستعمل مقصا كبيرا من القصدير السميك كلما استدعي لختان صبية الحي، بينما استعمل بدر قطعة من حديد صدئة أحدثت جرحا غائرا في قلفة اليهودي فولى إلى بيت دويه ينزف دما...واستعاد من الذكريات ما كانت في إبانها مضحكة مسلية وأمست مع مر الزمان مخجلة مبكية، ذكر وهو سيد الفرقة وزعيمها بلا منازع يوم كان يشرف على طابور العصر كما كان يسميه، يحافظ على نظام جنوده، من صفوة رفاقه وخلانه، ويحرص على كبح جماح كل متنطع خرق الحدود فيه.. فهذا عمر ينتظر دوره على أحر من الجمر فتراه مشرئبا بعنقه نحو باب خربة كانت مأوى للعنطيز الأحمق فهجرها، حتى إذا لاح له شبح يهم بالخروج تقدم في رغبة جامحة، فانجحر من دون أن يمهل المسكينة حتى تسترد أنفاسها! كان الله في عونك يا حمارة عمي بوشتى!.. غير أن بدرا الذي أبت نفسه خوض غمار اللعبة القذرة ما لبث يتألم وهو يستعيد المهمة التي أناط نفسه بها وتجشم أتعابها من دون أن يعي تبعاتها. ألم يكن حريصا على ضبط نظام الطابور؟ ألم يتصدى يوما لحميدو الكسلان الذي ركب رأسه عصر يوم وتعجل دوره متجاوزا "حقوق" الرقاب المتلهفة؟ بلى وقد حدث هذا وكان، ولكن كان يا ما كان في قديم الزمان وسالف الدهر والأوان.. وقف بدر يتملى شاخص البصر إلى الضفة الأخرى للوادي وقرص الشمس ينغرس في الأفق البعيد رويدا .. كان بعض صغار الفرنسيين يحجون إلى الربوة كل يوم أحد على دراجاتهم أو صهوات خيولهم من مساكنهم المحيطة ببناية السد، فيصطفون جنبا إلى جنب يتسلون بصيد السمك وفي أيديهم قصبات الخيزران، وآخرون آثروا القنص فصوبوا بنادقهم إلى الأرانب الراتعة في البراري المحاذية.. لم يكن أبناء حي سيدي بوكيل في الضفة المقابلة يأبهون للباسهم الأنيق، ولا تثيرهم وسائل ترفيههم الحديثة بقدر ما أثارهم وأحرجهم ما انطبع في نفوسهم من كون أولئك مجرد غرباء سقطوا بالمظلات وجاءوا ليسرقوا منهم الضفة والوادي، ذلك ما أشعرهم بدونية ممضة أكلت قلوبهم ونغصت عليهم سويعات اللهو والعبث، لذلك لم يلفوا من وسيلة يثأرون بها لأنفسهم سوى أن يعكروا هم كذلك على الدخيل صفة المتعة ويسلبوهم لذة الصيد والقنص.. أذن فيهم الزعيم بدر بصفارته العاجية فتركوا ما هم فيه من غطس في الماء وتراشق بالرمال وصيد العصافير، وأمسك كل واحد بحجرة تنفيذا للأوامر ثم جعلوا يقذفون بها قذفة رجل واحد إلى عرض المياه القريبة من الربوة فينزعج السمك ويفر، وتضيق صدور النصارى شماتة وغيظا ولم يتورعوا بدافع عصبية مقيتة جبلوا عليها في إثارة حفيظة أبناء الحي، فجعلوا يرددون جميعا في لهجة محلية ملتوية أدرك الآخرون رسالتها: " يا أولاد الزبالة.. يا وكالين النخالة وشرابين الغسالة" وفاضت نفس مراهق نصراني آخر حنقا فصوب بندقيته إلى الجمع بالضفة المقابلة وتصيب رصاصة طائشة يد أعز خلان بدر فتتسبب في بتر إصبعه، وينتفض باقي الرفاق كالعصافير المذعورة فيولون من الباغي فرارا بجلودهم صوب ضريح سيدي بوكيل يحتمون به.. دمعت عينا بدر فأوقف هذا الشريط وهو يسرح ببصره في عرض مياه النهر، ولم يبق للشمس في هذه اللحظة من أثر سوى تلك الأشعة الدامية التي تلوح في الآفاق النائية وقد عفرت بأديمها الوردي أديم الغيوم البيض ولبس الكون رداء أسمر.. بدت له الربوة والضفة والوادي ومن خلفه الضريح والحي وسائر الأهالي ليثا معطوب الساق من عضة ذئب غدار، وبدون شعور همس في خشوع.. لا تحزن أيها السقيم فسوف ينمو شعرك ويكبر وتعافى الساق وتجبر.. ولست في ريب من مناعتك فهي وحدها كفيلة برأب الصدع، وحينئذ ستتربع على عرش العرين شامخا مهاب الجانب.. سوف تكسر بنابك من غلوا جناحيك وتبقر بطون من راموا إذلالك، أنت الذي تأبى الإذلال وتأنف العيش دون ذرى الجبال.. فلا عاش رعديد آثر تركيعك واستباح إهانتك. في هذه اللحظة أتاه شخص من خلف فأوقف تيار أحلامه إذ أطبق على سائر رأسه بساعديه وغشي على بصره بكفيه، أخذ بدر يمرر أنامله على ظهر الكفين المطبقتين حتى إذا لامس الأصابع قاده خنصر مبتور إلى تحديد هوية صاحبه، إذ ليس في معارفه وأهله من بتر أصبعه سوى ولد المخزني فصاح على التو وقد أسعفه حدسه: عرفتك! أنت؟ حسام؟ على وجه السرعة أزال حسام يديه عن وجه بدر وشرع في عناقه وتقبيله مرددا في نفس الوقت: طابت عودتك.. والله لقد وطأت الحي أهلا .. ثم انطلقا متشابكي الأيدي نحو الدرب وهما يجوزان ساحة السوق عرضا. والحق إن بدرا كان لحسام خلا حميما وصديقا طيبا عزيزا، وظل على مودته حريصا، لم يحل يوما اختلافهما في الطبع دون تجدر أواصر الصداقة بينهما، تلك الصداقة التي نسجت تلابيبها في مدرسة النصارى المختلطة بالجهة الخلفية لساحة السوق، التحما وهما غلامان يافعان حتى استويا شابين ناضجين. كانا يسيران وقد توازى قدهما حتى ليخالهما الناظر توأمين، عطفا نحو رأس الدرب وحسام ممسك بحقيبة صديقه غير أن منظرا مفاجئا شدهما وأثار فيهما غريزة حب الاستطلاع..