قبل كل شيء اريد ان اثبت هنا شكري للاخ الحبيب الاديب خليل حلاوجي لصبره ورحابة صدره ..
*************************************************
أغلق جهاز ( الراديو ) وتركه إلى جانبه ..
ـ اللعنة عليهم .. هذه الأخبار لا تبشر بخير ..
استلقى على السرير ، واسلم نفسه إلى الأوهام والخيالات .. واللاجدوى تكاد تسيطر عليه ، والأشباح التي تسكن رأسه المرهق الذي أرهقته الهموم ، إذ هي تكلمه بألف لغة ولغة ، وتوحي له بألف حكاية وأسطورة ..
ـ يا ترى أية حرب ستكون ؟
لكن صفعة من مجهول جعلته يتخطى تلك اللحظة زمانه ومكانه ، فيذهب تارة إلى أعماق ماضيه يستحضر أيامه وساعاته التي نفذت منه كأسهم منطلقة بقوة من قوسها ، وتارة يسحبه الصمت المرير إلى مشاهد الغد التي لم ترسم ملامحه بعد ..
لكن ذهنه لا يبرح يرسم له صور الدمار والخراب .. الجوع والخوف .. اليأس والترقب .. فتستحوذ عليه تلك الصور ، فيتراءى أمامه مشهد الحرب الذي ربما ألفه منذ صباه .. لكنه لا يزال يخافه ..
ـ هل ستكون هذه أيضاً كسابقتها .. ربما .. ربما سيقصفون أهدافاً معينة ، ثم تتوقف هذه الحرب اللعينة .. ربما ..
لكن أخيلته التي أتعبته لا تدعه في يقظة التفاؤل هذه ، إذ سرعان ما تفتح أمامه مشاهد الحرب ، أصوات الصواريخ الممزوجة بآذان الفجر الخارق .. فجر يستيقظ على صرخات الأطفال المرعوبين ، والنيران التي تأكل الأجساد البريئة .. وحسرات الثكالى .. والقلوب التي ما انفك الدمع يفارق أنينها .. إذ البيوت تنهار على رؤوس ساكنيها ..
ـ لا ..
قالها وهو يسحب نفسه بقوة من تلك المشاهد البشعة ..
ـ إنها تخيلات فقط .. أوهام .. ولكن ( يقولها مستدركاً ) من يستطيع أن يستشرف ببصره أو عقله ما يسمى المجهول ؟
حاول أن يسترد تفاؤله المسلوب ، متذكراً صورة ذلك الشيخ الكبير ، الذي جلس إلى جانبه في السيارة وهو يقول : الله كريم .. فلربما هذه المقولة تحمل التفاؤل الذي يبحث عنه في إنفاق المجهول المعتمة ..
أخذ نفساً عميقاً سحبه وأفكاره وأوهامه إلى أعماق المجهول ..
حاول أن يغلق عينيه عن تلك المشاهد .. لعله ينفصل من عالمه الثقيل الذي أرهقه ، فيلتقي هناك بعيداً ، في عوالم الروح الرحبة ، خلف الجدار المنظور ، يلتقي بما يصبوا إليه من أمنيات وأحلام ، ولعل حورية تتلقاه من وسط هذه الأمواج العاتية التي تحاول إغراقه ، فتسافر به إلى أعماق الكوكب الأزرق ، فتريه مملكة الحوريات ، فيستطيع حينها أن يتنفس وهو يغرق في الأوهام ، ولكن ليست أوهام الحرب هذه المرة ، بل أوهام الحب ..
لقد عاد إلى الدائرة المغلقة التي طالما أراد أن يخرج منها .. الحرب والحب ..
الحرب بكل دمارها وضجيجها وصخبها ..
الحب بكل سكونه وهدوئه ورقته وشاعريته ..
وها هما الآن يزاحمان بعضهما البعض في رأسه الثقيل ..
لكن بحثه عن التفاؤل أو محاولته للهرب من الواقع جعله يتعلق بالحب بأظفاره ، ليسلم نفسه أخيراً إلى أمواجه العذبة ، والى أضواء قمره التي تضيء ليلة العشاق ..
لكن أصوات انفجارات مدوية أفزعته من أحلامه الجميلة تلك ، ليضعه في مشهد الواقع المرير .
نظر في الساعة الجدارية ، فرآها تشير إلى ساعة الصفر ..
وبحركات غير موزونة فتح ( الراديو ) ، واخذ يقلب بين المحطات الإذاعية ..
لقد قصفوا موقعاً يشتبه أن يكون فيه من يبحثون عنه .. قصفوه بأربعين صاروخاً ..
فأدرك حينها .. أن تراتيل العاصفة قد تليت ..