أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: العرافة

  1. #1
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : May 2009
    العمر : 55
    المشاركات : 61
    المواضيع : 11
    الردود : 61
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي العرافة

    العـرافـة

    بقلم سمير خضر خليفة

    الصمتُ الرتيب، وسكونُ الليلِ يشرعان أبواب الذاكرة لهذا الغريب القادم من ريف الفقر إلى مدن الأحلام، ليجد نفسه كالحالمين من قبله في حي فقير يقبع على هامش المدينة والذاكرة. مضى عام على وجوده في هذا المكان، لكنه ما زال مسكوناً بغربته. أشعل سيجارته مغادراً غرفة النوم متجهاً إلى غرفة المعيشة. جلس على الأريكةِ ينظر من النافذة، هارباً مع أحلامه وآلامه، من النظر إلى جسد زوجته المستلقية على السرير، حتى لا تستيقظ غرائزه المكبوتة منذ أكثر من شهر لعدم استجابتها لرغباته . فيعود النقاش والجدال العقيمين والمبررات الغير مقنعة. وإن رضخت له ستكون جسداً بلا روح، فيقتل فيه الحلم الريفي بأن ( بنات المدينة أقدر على تدليل و إسعاد الرجال ).
    مع خيوط الصباح الأولى أعياه تلاطم الأفكار، وخوفه من الغد، فاستسلم لنوم فَتحَ عليه بوابة الكوابيس. أيقظه منبه الساعة، فنهض متكاسلاً. أعد قهوته شربها وحيداً كعادته. استوقفه صوتها عندما همّ بالخروج، فانهمرت طلباتها كالسيل لتزيده غماً, صفق الباب بعصبية ، وخرج هائماً مع همومه وهواجسه فلقمة العيش لا ترحم الحالمين أمثاله .
    اجتمع عمال الورشة كعادتهم بجلسة الشاي الصباحية. أطل سعيد بشحوبه والإرهاق والتعب بادٍ على وجهه. نظر إليه وكيل الورشة أبو العبد قائلا:" علامات المرض بادية عليك يا سعيد .هل أسجل لك إجازة مرضية؟ "
    رد سعيد شاكراً : الأمر لا يحتاج إجازة يا أبو العبد.
    لاحت الغجرية من بعيد يسبقها صوتها المعهود ( بصارة ....براجة ) . علق أحدهم ساخراً" عند جهينة الخبر اليقين" ، فمشكلتك ليس لها إلا الغجرية , زجره أبو العبد فصمت. اقتربت الغجرية وألقت تحية الصباح فجاء الجواب جماعياً. دعاها أبو العبد لشرب الشاي فلبت الدعوة كعادتها, أشعلت سيجارتها، سحبت نفسا طويلاً تبعته برشفة من الشاي، ثم أخرجت الدخان من فمها وأنفها بكثافة، مما دفع أبو العبد للتعليق ممازحاً: "لا يتقن هذا إلا حشاش ابن حشاش" ضحكت الغجرية فسرت عدوى الضحك للجميع عدا سعيد. بادرته متسائلةً : ما بالك وكأنك تحمل هموم الدنيا فوق رأسك" ؟ هونها بتهون أبو السعود". فلم يرد كأنه لم يسمع التعليق. مالت برأسها نحو أبو العبد وتهامسا . بعدها طلب من العمال البدء بالعمل. انصاعوا لأوامره .همَّ سعيد بالنهوض فاستوقفه أبو العبد: أكمل سيجارتك فلغجريتنا كلام أريدك أن تسمعه. لا تعارضني هذه المرة. وأقسم بأني سأدفع الأجر لها. تردد سعيد قليلاً لكنه انصاع لرغبته محبةً واحتراماً.
    سريعاً أخرجت الغجرية من جرابها منديلاً مزركشاً بالرسوم والرموز، فرشته على الأرض ثم أخرجت بعض الأصداف الصغيرة التي يسمونها الودع . وضعتها بين كفيها وتمتمت فوقها ببعض الكلمات المبهمة، قربتها من وجهه ثم طلبت منه أن ينفث فوقها. أعادت الحركة عدة مرات ومع كل مرة كان يزداد انفعالها، ويرتفع صوتها حتى شدت انتباهه تماماً, فنادت بأحد الأسماء الغريبة أعطت بعض الأوامر لخادمها ثم ألقت الودع . حركات استعراضية تجيدها بمهارة مستعينة بتعابير وجهها حتى استحوذت على اهتمام سعيد الذي لم يحرك عينية عن صورة وجهها. بدا كفريسة مرعوبة تنتظر يد القدر لإنقاذها بينما أصابعها تقلب الودع ، بصوت ناعم مطمئن قالت: خطوطك سهلة القراءة لأنها واضحة كقلبك الطيب. سادت لحظات من الصمت قبل أن تشرع بقراءة طالعه. وضعك المادي سيء لكن الفرج سيأتي بعد إشارتين.... مشاكلك سببها النساء.... عادت لصمتها، ثم صفرت بشفتيها تعجبا، تغير إيقاع الصوت، ومعالم الوجه الذي بات لا يفسر. شدت له أعصابه إلى حدود عتبة الوجع. أغمضت عينيها، وبدأت تلوح برأسها مع أنات تأس جريحة، أضافت للمشهد خلفية موسيقية فازداد إثارة,عندما أدركت أن سعيد تماهى مع كل حركاتها، وانفعالاتها وانقاد لهواها. انتفضت فجأة طالبة من أبي العبد الابتعاد لخصوصية الموضوع , فلباها طائعاً .
    قالت لسعيد: اختر ثلاث ودعات وضعها في كفي ففعل ما أمر به كرجل آلي. أعادت باقي الودع لجرابها 0 تمتمت فوق ودعاتها الثلاث بعصبية ظاهرة , قربتها من فمه وأمرته أن ينفث فوقها لمرة واحدة , تردد قليلا , ثم استجاب بعد أن حثته بنظرة قاسية, وألقتها على المنديل. وضعت يدها على رأسه وهمست إليه بصوت حزين: فلتعلم أن الله يحبك.... وما أنا أمامك الآن إلا بإرادة الله... فهو الذي ساقني إليك لأكشف لك المستور...وأزيل الغشاوة عن عينيك. اسمعني جيدا الآن فما سأقوله لك خطير جدا، ويتوقف عليه مستقبل عائلتك: إن المرأة عقرب... وأبناء العم هم السم... احذر من الغدر... وليكن الله بعونك.
    بيان مقتضب ألقته على عجل انسحبت تاركة سعيد خلفها بحالة لا يعلمها إلا الله, يهيم في عالم من عوالم الجنون والهذيان . مضت عدة دقائق حتى عاد أبو العبد ليجد صديقة فاغراً فاهُ وعيناه شاخصتان بالكاد يلتقط أنفاسه، كان العرق يندي جبينه وفي عينيه دمعة تترقرق دون أن يذرفها. هزه بعنف فأفاق من ذهوله. ساعده على الوقوف، قاده إلى خزان الماء. وضع سعيد رأسه تحت الصنبور، ثم فتحه فارتجف عندما لامس الماء البارد رأسه. رفع رأسه بعد لحظات، نفضه كأنه يخرج شيئا منه. استند بظهره إلى الخزان ، جفف شعره بكوفيته المدلاة على كتفيه. لم يترك له أبو العبد فرصة هذه المرة فبادره مباشرة آمراً:" يجب أن تعود إلى البيت، يجب أن ترى طبيبا فوضعك لا يطمئن" .
    بدا طريق العودة طويل..طويل هذا اليوم كأنه بلا نهاية, فحياته تمر أمامه كشريط سينمائي, توقف أمام كل مفصل من مفاصلها, لكن وجدانه المتأجج ووصايا الغجرية حضا خياله لإعادة صياغة الأحداث, كما النظريات التاريخية تعاد صياغتها مع كل اكتشاف جديد. كواثق من نفسه هز رأسه متمتماً: ابن العم .. نعم ... نعم إنه ابن العم. لقد صدقت الغجرية، فهو من حدد المهر.....وهو من وضع شروط الزواج . ...مع أنه الأصغر سنا بين أفراد العائلة لم أزر خطيبتي يوماً إلاو وجدته هناك ... أغلى هدية تلقيتها بمناسبة الزواج كانت منه ... دعواته المتكررة لنا هداياه الثمينة. لقد صدقت الغجرية" إن الأقارب عقارب". وهذه اللعينة كم مرة قالت ربينا سوا انه أخونا لم يقصر معنا يوما. هذه الأكلة يحبها... هذه الأمسية ينقصها خفة ظله.... كم كانت ترجوني : إذا رزقنا الله ولدا أن نسميه باسمه محبة وردا للجميل هز رأسه بأسى إذا كانت أمنا حواء قد حرمت أبانا ادم من جنته، فهل تفرط به لرغبة أو نزوة. مع كل خطوة خطاها فقد شيـئا من عقله واتزانه . دخل البيت ناداها متناسيا زيارتها لبيت عمها كما أخبرته صباحاً، فعاد لوحدته وهواجسه .
    وقف عاجزا أمام دخولها المفاجئ .، منتحبة تغص باسم أخاها المسافر كلما رددته . عندما هم بسؤالها ،كانت قد رفعت سماعة الهاتف وطلبت رقما ،وهي تبتهل كي ينجح الاتصال .لحظات قصيرة ,ودون مقدمات ,ألو سالم طمئني عن صحة أخي أرجوك ــــ ـ ـ حقا سيكلمني ـ ـ ناوله السماعة .
    ألقى سعيد بجسده على الأريكة ,واضعا رأسه بين كفيه عند سماع أسمه ,فقد نسي سفره مع أخيها أيضا ., أنهت مكالمتها واقتربت منه , حمدت الله وشكرته على وجود ابن عمها مع أخيها بهذه الظروف .
    - أرأيت ماذا كان سيحل به لو كان وحده ألان , شهم يا سالم هكذا يرد الجميل لأمي التي ربتك , رحم الله أمك التي أوصت بك أمي : اجعليه أخ لأولادك , نعم الأخ أنت .
    عندما أحست أن سعيد لا يسمع كلامها , رفعت رأسه ورأت الدمع في عينيه ,ضمته لصدرها ,آه كم أنت حنون يا حبيبي . هذا أقصى ما كان يحتاجه الآن . ضحكت بغنج , أمسكت بيده مررتها على بطنها ,إلا
    يستحق بعض التضحية منك . استدركت سائلة ما الذي أعادك باكرا هذا اليوم ؟ هل هو شوقك لي ؟ تلعثم قليلا ,وبصوت كسير : ليس الشوق بل إنها العرافة . هل هي الغجرية التي أخبرتني عنها ؟
    وقبل أن يجيب أردفت مبتسمةً : أرجوك أن تدعو هذه المباركة لزيارتنا فاشكرها, وتقرأ لي طالعي .....

  2. #2
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : May 2009
    العمر : 53
    المشاركات : 57
    المواضيع : 8
    الردود : 57
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    الاستاذ سمير خليفة:
    مسألة الاعتقاد من المواضيع الهامة والتي يجب معالجتهاا برأيي وهنا جاءت قصتك لتعالج هذه المسألة ولكن كانت بحاجة الى تسليط الضوء على هذه الحالة بشكل مكثف
    مع بالغ التقدير

  3. #3
    الصورة الرمزية خليل ابراهيم عليوي شاعر
    تاريخ التسجيل : Jun 2009
    الدولة : اليمن
    المشاركات : 2,105
    المواضيع : 98
    الردود : 2105
    المعدل اليومي : 0.39

    افتراضي

    اختيار موفق و صياغة جميلة لمشكلة عويصة نعاني منها و لا زالت تؤثر في كثير من الناس

    اجدت

    د خليل

  4. #4
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.70

    افتراضي

    الاختلالات القيمية والعيوب الأخلاقية لدى الأفراد كما الانحطاط الفكري والانحدار الأخلاقي في المجتمعات تشكل خامة صالحة للأدب والفن، ولا جرم إذا أن تتداول الفكرة وتتكرر ، فالمورد واحد محدود، والعبرة في اختلاف الأداء يظهر تفوق هذا وقصور ذاك
    وقد أبدعت أديبنا في سردك وقدمة نصا بحبكة جميلة وأداء لافت
    لا حرمك البهاء

    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  5. #5
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,141
    المواضيع : 318
    الردود : 21141
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    يحاول الإنسان أن يعرف المستقبل بدافع الفضولية أو عدم الأمان
    أو رغبة منه للحصول على القوة أو المتعة. وهو يسلك طرقاً كثيرة
    ومتعددة طلباً لتلك المعرفة، منها قراءة الأبراج والكف وحظك اليوم
    أو قراءة الفنجان وورق الكوتشينة أو ضرب الودع أو الاستعانة
    بالعرافين والوسطاء الروحيين.
    القصة أكثر من رائعة لغة وأسلوبا وسردا وحبكة
    أعجبتني القصة بحكيها الشيق وأسلوبها المؤثر
    دمت بألف خير. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


  6. #6
    الصورة الرمزية آمال المصري عضو الإدارة العليا
    أمينة سر الإدارة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    الدولة : Egypt
    المشاركات : 23,786
    المواضيع : 392
    الردود : 23786
    المعدل اليومي : 4.13

    افتراضي

    العرافة - الطالع - الودع - قراءة الكف - قراءة القهوة .... للأسف ظاهرة مازالت متواجده ولا علافة بها بفئة الجُهّال أو شريحة من المجتمع بعينها ولكن انتشرت أيضا بين فئات المثقفين
    جاء التصوير متقنا والصياغة جميلة والحبكة قوية لكن لم تتم معالجة المشكلة كما انتظرت في نهاية النص
    دمت بروعة وبهاء أديبنا الفاضل
    تحاياي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  7. #7
    الصورة الرمزية خلود محمد جمعة أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2013
    المشاركات : 7,724
    المواضيع : 79
    الردود : 7724
    المعدل اليومي : 1.99

    افتراضي

    حين لا نعرف كيف نتدبر أفكارنا نبحث عن العرافة للتأويل و ولقراءة الفنجان والبرج والطالع على أمل ايجاد إيجابيات لأسئلة نحن وضعناها
    تمتلك العرافة قدرة تكتسبها عن خبرة أو دراسة او فطرة تستطيع بها قراءة ما يريد الشخص سماعه فتلبي تلك الرغبة بسخاء يمنحها مصداقية موقعة
    وفي حالة الوصول الى مرحلة فنجان القهوة والابراج والحظ وما الى ذلك فان الشخص بشكل الخطوط حسب رؤيته والتحليلات حسب منطقه لتطابق مع مشكلته او معاناته
    وفي كل الحالات هي حالة هروب من الواقع وانكار للوضع وعدم تصديق للحقيقة لظروف محيطة او افكار سلبية او بيئة اجتماعية
    طرح طيب وفكرة عميقة بأداء قصي متمكن امتنعنا
    بوركت وكل التقدير

المواضيع المتشابهه

  1. العرافة وحكايا السفر
    بواسطة شجاع الصفدي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 27-12-2007, 09:28 AM
  2. العرافة المقدسة
    بواسطة محمد سامي البوهي في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 08-06-2007, 05:07 PM
  3. العرافة...
    بواسطة ليلى ناسيمي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 17
    آخر مشاركة: 02-04-2007, 04:11 PM
  4. العرافة و .. خطوط يــدي .
    بواسطة عبدالله الخميس في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 06-11-2006, 02:31 PM