لم تكن عادية تلك الليله , لقد كان كل شيء فيها يسير باتجاه واحد السيارات , والناس , وبعض نجوم معتمه , واشجار زيتون هرمه بعضها يرتكزعلى بعض في محاولة لافتراش الطريق , هي ايضا كانت وجهتها واحده , و اوراق صفراء ثنائية البعد انعكست عليها خيوط الضوء فما بقي منها الا ظلها على مقعد خشبي قديم كانت له وجهتين .
كانت السماء تصدر اصواتها المعهودة استعدادا لرحلة الاستفراغ على الارض , انتظرتها , لكنها لم تفعل , كان الامر مخالفا لكل الاعتقادات , ايضا لم يكن مفهوما لدي كيف لشحنتين مختلفتا التكوين تفعلان فعل عاشقيْن , تلتقيان وتلتحمان على متن سحابة تتبادلان الطاقه وتمارسان عنجهياتهما ،وعلوهما ،وكبريائهما علينا ليل نهار، ولكنهما لا تمطران على غرار العشاق ؟
لقد تسمرت قدماي وقوفا , احاول تثبيتهما على الارض , احتَضَنْتُ صدري البارد بيداي, وبقوة تشبثت كفتاي بكتفاي حتى تزيد من ثباتي وثقلي على الارض , لكنها عبثا انتهت كل محاولاتي في الثبات , وفشلت قدماي ايضا في الوصول الى ذلك المقعد الذي ظل على حاله , حيث لم تستطع كل متغيرات الطبيعة عكس اتجاهه .
على مقربة مني كانت الرمال الناعمة تتحول شيئا فشيئا الى حجارة كلس مترامية على نفسها , تجتهد ليلا في رسم خارطة انعكاس الصوت والضوء عليها , ولكنه الطقس المتجني دائما على ظل الصحراء , ومعه شمسه التي تحيل الاشياء الى مجرد صور نمطيه , واحيانا اخرى عبثيه .
لم اكن في تلك الليله قد ادركت ما يجري من حولي , انها المرة الاولى التي ينقلني فيها الليل على اجنحة مناخه المضطربه الى أكثر من مكان , ولاكثر من قاره .
انها المرة الاولى التي ينفصل فيها ظلي عني , وكذلك ذاكرتي التي استاذنت مني في استراحة قصيرة , ولا اخفي امرا انني كنت أرغب ايضا في التسلل منها لبعض الوقت , ولكنها سبقتني في خيارها , او انني تغاضيت حتى سبقتني .
اعترف اني كنت انتهازيا ولو قليلا في تلك الفكره .
كنت قد تواعدت مع ذاكرتي الضعيفه من اجل لقاء يجمعنا , يحاول فيه كل منا استرضاء الاخر, او حتى ان يعترف احدنا بخطيئته تجاه الاخر , كنت اتصرف بسذاجة الطفل , اعبث في كل الاشياء لدرجة المخاطره , ولكنه الماضي سيد الاشياء الذي لا يمكن اللعب معه , حيث يسبقنا دائما بخطوه , فنحن لا نعود اليه , ولكننا باستمرار نلحق به .
كانت الريح تصدر هزيزها معلنة عن بدء رحلتها الاخيرة صوب موانىء النسيان , تحملني وتحمل معها كل اشيائي , ولكنها الجرأة التي غادرتني فجأه , وتركتني وحيدا في مواجهة اخرى مع الطقس .
اذن هي الصحراء مرة اخرى , وجغرافيا المتناقضات , حيث تتناوب على نفسها خطوط الطول والعرض , وتتناحر فيها المدارات حول مركز الاعتدال .
انها المرة الاولى التي اكون فيها شاهدا على تحول الرمال الى جليد , والمطر الى حصى , والورق الى سحب , والكلمات الى ركام .
اعترف الان ان حلمي المزعج هذا لن يَسْتَقِل مني حتى بعد يقظتي , انها الكارثه حين ترافقك احلامك المزعجه كالظل في شمس النهار , حينها ستحيلك قَطْعاً الى مجرد كومة حطام .
اخَذَتْ عيناي بعد صحوهما تحلق في المكان , مرة الى السقف الايل للسقوط , واخرى على الجدران التي مازالت تحمل البصمة الفرنسيه , تحاول يداي ان تتحسس فراشي بحذر بحثا عن بقايا الرعد , والبرق ,والسحب, والصحراء , والرمل, والشجر , والجليد , والحجر, وذاك المقعد , وظلي والعشاق والمطر.
كان جسدي لا يزال نائما , فقط عيناي اللتان تسللتا منه في روتين الصحو والاستيقاظ اليومي , نحن نمارس هذا السلوك الممل يوميا, بينما نترك احلامنا المزعجه والجميله على حد سواء دون عقاب او ثواب .
تسرَبَت خلسة من بين قسمات وجهي ابتسامه , حاولت جاهدا ان اخفيها عني , كان صعبا على نفسي ان تراني فرحا وقد ادركت ان ما حصل لي كان مجرد حلم .
على طريقة الرياضيين نهضت من سريري دون ادنى اعتبار لما اعانيه من مشكلات صحيه في ظهري وقدمي , ولكنه الهروب من احلامي .
ما الذي افعله بنفسي ؟ انه مجرد حلم , وسرعان ما سينتهي اثره بعد اول قطرة ماء ستسقط على راسي من خلال حمامي الصباحي , وسيتلاشى كليا مع اول رشفة من قهوتي المره , ولان القهوة العربية عادة لا تقتحم احلامي , فانني سوف اشعر بالامان اكثر !
نحن لسنا مسؤولين عن احلامنا , اننا لا نستحضرها , وكذلك لا نستضيفها , هي من يتطفل علينا قهرا كما الديدان فينا , تحاول دائما التربع على عرش نومنا , تسحبنا حيث تريد , فنكون مجرد اسرى لها .
انها مفارقة عجيبه وغريبه , نحن عندما نستيقظ على حلم جميل فانه بسرعة يستحيل حالنا فنكتئب ونغضب فقط لاننا قد اكتشفنا ان الامر ليس حقيقيا و انه كان مجرد حلم,واذا استيقظنا على حلم مزعج , حينها تكاد تقفز قلوبنا من صدورنا فرحا وسعادة, ايضا لاننا اكتشفنا انه كان مجرد حلم .
انها جدلية النوم والصحو, الخيال والواقع , الزيف والحقيقه , الجفاف والمطر ,الكذب والصدق , الموت والحياة ,الخيانة والوفاء, الحرب والسلم, الكراهية والحب , الوجود واللاوجود .