وصف الرئيس اليمني علي عبد الله صالح ما يجري في المنطقة العربية اليوم بأنه عدوى حمى الضنك . ومن الطبيعي أن نسمع انفعالا كهذا من الرئيس صالح فكل إناء بالذي فيه ينضح ! إنه ينظر إلى ما يجري في الساحة من حوله بمنظوره الخاص ، لا يهمه في ذلك رد فعل الآخرين مهما كانت اتجاهاتهم ومستوياتهم العلمية والفكرية ، بل إنه لا يحس أصلا بوجود من يراقب كلامه ويتصيد عليه أخطاءه وهفواته فلطالما سمعناه يصف شعبه كاملا بالتخلف ويقول من لم يعجبه كلامي فليشرب من البحر وغيرها من الشطحات التي تحقن الشارع كما تحقن النخبة بالاستهجان والضغينة والشعور بالغضب الذي وإن تأجل التعبير عنه فإنه لن يستمر كبته وقتا طويلا وها هو قد بدأ يؤتي ثماره في انفجار واسع شمل أغلب المحافظات اليمنية .
هل يا ترى ما قاله صالح عن عدوى الثورات صحيحا؟ ولماذا تصيب عدوى التغيير في عالمنا العربي شعوباً دون أخرى؟ ولماذا لم يفكر في جلب لقاحات كالتي استخدمها جيرانه في المنطقة لتطعيم شعبه ضد هذه الحمى التي تستهدفه هو شخصيا ؟ ليست المشكلة لدينا نحن في العالم العربي في شكل أو نوع النظام السياسي أو في مسمياته .. المشكلة هي أن كثيرا من الأنظمة القائمة على اختلاف أشكالها وألوانها ومسمياتها صارت مهترئة تعاني من شتى أمراض الترهل والشيخوخة .. وقد درجت على استخدام وسائل البلطجة والتخويف من المجهول والتعامل مع الشعب بعقلية القرون الأولى لأنها أساسا موضة القرون الأولى ولم تهتد إلى ضرورة التحديث ( update) سواء لمكوناتها أو لاستراتيجياتها أو لآليات التعامل مع الأحداث الداخلية والخارجية ولا لمعلوماتها ولا لطريقة تفكيرها.. ولنضرب مثلا ( ولله المثل الأعلى) لموظف يعمل في وظيفة عامة لمدة 30سنة ووظيفته تقتضي العمل المتواصل ليل نهار وليس لديه فرصة في القراءة ولا التفكير ولا الاستماع للموسيقى ولا الهدوء وراحة البال ولا يخضع لإعادة التأهيل والتدريب بين الحين والآخر.. كيف يستطيع هذا الانسان التعامل مع متغيرات العصر المتسم بالتغير والنمو المتسارع. إن الموظف الذي قضى ثلاثين عاما يعمل في الطباعة على الآلة الكاتبة لا يمكن له أن يجيد نفس عمله باستخدام وسيطة أخرى كالكمبيوتر مثلا دون تدريب وتأهيل كاف.. هذا حال موظف بسيط في وظيفة عادية ويبدو الأمر أكثر تعقيدا في الحديث عن رئيس دولة بما يقتضيه منصبه من أعمال ومسئوليات ومشاهد مختلفة ونتيجة لتركز كل السلطات والصلاحيات بيده، بالتأكيد إن من الطبيعي أن يصير - إن جاز الوصف - حيوانا بليدا إزاء المتغيرات العصرية التي يشهدها العالم ، بغض النطر عن ما يكون قد اكتسبه من مهارات تقليدية وخبرات تراكمية في إطار عمله على رأس هرم السلطة. ويصبح الأمر أكثر إثارة للسخرية عند الأخذ بالاعتبار المستوى التعليمي لكثير من الحكام العرب الذين أفضلهم بالكاد يعرف القراء والكتابة وهذا يفسر الاتهام بالغباء الذي يطلقه الكثير عن الحاكم العربي على سبيل النكتة.
هؤلاء الحكام الذين يبلغ عمر أصغرهم ثمانين سنة قد يصح القول أن لديهم الحنكة والخبرة في حل المشاكل القبلية واحتواء مراكز القوى الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية وتركيز السلطات المطلقة بأيديهم.. ولكن انشغالهم الكلي طوال عمرهم بما تمليه عليهم مواقعهم من مسئوليات إضافة إلى احتياطات التوريث والكسب غير المشروع وإسكات المعارضين ومقايضة المقايضين وما إلى ذلك .. لم يدع لهم مجالا للاستجابة للمتغيرات المعاصرة ولا التفكير في المشاكل التي يقتضيها الزمان والمكان ولا استيعاب الطاقات الجديدة التي تتوفر لديها القدرة والإمكانية لقيادة عجلة التغيير والتنمية والتحديث في النظام من داخله بما يواكب متطلبات العصر ويفي بحاجات الشعوب وبإمكانها تأهيل النظام وبالتالي تحافظ على مشروعية بقائه وتجمل صورته من الداخل والخارج.. كما أنه ليس لدى هذه الأنظمة استعداد لسماع صوت الشعب أو صوت المعارضة في أحسن الأحوال إن وجدت هناك معارضة، وإن استجابت جزئياً فكيف يمكنها وضع حلول لمشاكل حديثة بأدوات عفى عنها الزمن؟ بل إنني أشك في إمكانية قدرة هذه الأنظمة على مجرد فهم مشاكل الشباب وتقدير حاجاته في ظل متغيرات العصر .. ولنفرض أنها فهمت واستجابت لحاجات الشباب فما الحلول التي ستقدمها؟ بالتأكيد ستكون في أحسن الأحوال حلولا وقتية لا ترقى إلى مستوى طموح الشباب الذي ينظر إلى العالم من حوله يتغير نحو الأفضل بوتيرة سريعة .. لتظل الأوضاع قنبلة موقوتة إلى حين.
هذه الطاقات الشبابية التي تتمتع بقدر من الثقافة والعلوم المعاصرة والتي لا يستوعبها النظام تظل خارج اللعبة السياسية والاقتصادية في البلد ومع تراكمها وتراكم المشاكل السياسية والاقتصادية والأمنية في البلد وتقادم عمر النظام واتساع أطر الحاجة إلى التغيير والتحديث تصير هذه الفئة هي الرصاصة التي ستخترق قلب النظام. وهذا ما لم تدركه الأنظمة العربية التي بدأت تتهاوى واحدا تلو الآخر.
هذه الأنظمة أدت وظيفتها وانتهى دورها ولم تزل تحكم ثم انتهت صلاحيتها ولم تزل في السلطة فماذا بعد هذا ؟.. بالتأكيد يجب إزالتها لأنها صارت عبئاً على المجتمع وعائقا أمام تقدمه وتطوره وبالتالي يجب إزالتها مهما كلف الثمن . وإلا فما جدوى استبدال نظام ملكي وراثي كان يحكم فيه الفرد عشرين عاماً أو أقل بنظام جمهوري يحكم فيه الفرد خمسين عاما ثم يورث ابنه من بعده .
إن شكل النظام السياسي ليس له أهمية إطلاقاً ما دام قادرا على تلبية احتياجات المواطنين من الحياة الكريمة والأمن والاستقرار والحريات والاستجابة للمتغيرات العصرية. فما علاقة الحاكم بالمحكوم الا عقد اجتماعي يملي على كل طرف مسئولياته ويحدد له حقوقه المشروعة وليس للحاكم أي حق إلهي في الحكم . ولكن ما يحدث في بلادنا العربية للأسف هو أن الحاكم يظن أن لديه حقا إلهيا في الكرسي فلا هو يستطيع تلبية احتياجات شعبه ولا هو يفسح المجال لمن هو أكفأ منه ولا يستجيب لمطالب الشعب التي لا تكف عن مطالبته بالاصلاح والتغيير ثم ما تلبث أن تشتد حدة المطالبة حتى تصير مطالبة بالتخلي عن السلطة فتأخذ الحاكم العزة بالأثم ويظن أنه يستطيع بما يمتلكه من وسائل القمع إسكات الأصوات الصاعدة من هنا وهناك وحين يرتكب مثل هكذا حماقة في قمع شعبه وتتلوث يده بدماء الأبرياء فليبشر بنهاية سوداء وكلما أفرط في استخدام وسائل القمع زادت الفجوة بينه وبين الشعب اتساعا وبدلا من المطالبة بالإصلاح والتغيير ثم بالرحيل تتحول إلى مطالبة بالمحاكمة .. وبئس الخاتمة