إلى صاحبة الجلالة
إن الصحافة هذه الأيام تمثل للقارئ العربي , القمة التي يطل ُّ منها على مايجري بوضوح ! يستأنف الفكرُ من خلالها رحلته إلى الكمال ! فيشرئب المتعطش للحرية برأسه نحو الشروق كل صباح , كزهرة "عباد" الشمس , يحوطه جمال نبضها الثقافي الأصيل, يتلمس في أروقتها دليلا إلى الحقيقة الغائبة , بعد أن ظل الإعلام الرسمي طوال ثلاثين سنة , يشوه من معانيها في أذهان الناس !
*****************************************
أخذ المفكر فهمي هويدي في حديثه عن تتداعيات الثورة في مصر يحدثنا عن مخلفات الحكم البائد في واقع المصريين ! وكيف استطاع فترة بقائه أن يفرخ وأن يبيض ! حتى لايكاد يخلو مرفق ٌ من مرافق الدولة من آفة ٍ من الآفات الإدارية الفتاكة كالمماطلة في إنجاز المعاملات , والتسيب الناتج عن ضياع الحس الوطني , وفقدان الوازع الديني ! وكيف أنه من الصعب السيطرة على الوضع , إذ اعتاد الموظف على المجئ في وقت متأخر , واعتاد الوزير أن يفوض صلاحياته لمدير مكتبه فلايحضر إلا لماما ! حتى أثر ذلك في سلوك الناس ! وكيف أن من الصعوبة بمكان اقتلاع الثورة لنظام جمد الحياة طيلة ثلاثين عاما ! وكأني تلمـَّست ُ في حديثه نبرة خائف حذر متوجس ! فهو يحاول أن يختزل أيام الاعتصام كلها في يوم واحد فقط ! : ( وثانيها أن يتم التظاهر يوم الجمعة فقط من كل أسبوع ، الذى تتعطل فيه المصالح الحكومية وتتوافر فيه الحشود الجماهيرية بشكل طبيعى . وهو ما يعنى الامتناع عن خروج أى تظاهرات خلال الأسبوع) .لقد عجبت ُ من مفكر يعي فلسفة التغيير , ويعي سنن التاريخ في الثورات ! إن التغيير الحقيقي في حياة الشعوب يتم في أقل من لمح البصر ! ولايحتاج التغيير إلى ثلاثين سنة أخرى نعيش خلالها في ظل نظام آخر ! فالتغيير يبدأ من نقطة هي الوعي ! إن الأنظمة لاتغير من شكل الأرض ولا تؤثر في مسار التاريخ ! إن الشئ الوحيد الذي يغير في تركيب الأشياء , ويبعث الحياة كل الحياة في العروق الصدأة , ويضخ الدماء الجديدة في الأوعية المهترأة , هو مايتحرك في بلاط (صاحبة الجلالة) من أقلام حاضرة ! متى ماوجدت في دواوينها مستشرف لأدب أو متطلع لحكمة أو متعطش لحقيقة !
كان يظن الناس أن الحياة في ظل الثورة الفرنسية كانت مقتصرة على السياسة وشؤونها فحسب , ولم تكن في يوم من الأيام كذلك ! إنما كانت الحياة في ظل الثورة الفرنسية تنعم بالكتابات الأدبية والفنية والفلسفية , وكانت الصحافة فوق كل ذلك رافدا من روافدها وبابا من أبوابها .
إن مجرد وصول فكرة مشتعلة إلى الوجدان كفيلة بأن تحدث شيئا على الأرض !
كانت منشورات الجبهة القومية ( اليمن نموذجا ) في الثمانيات عبارة عن منشورات بخط اليد ربما , وكان حواليها من الرقابة حشدا مختلفا من الدبابات والطائرات والرشاشات , فكيف نفذت إلى عقول الناس ولامنفذ ؟! وكيف تمكنت من النجاح , وقد جـُندت كل السياسات للوقوف بوجهها ؟! إنها مجرد فكرة !
كانت ظاهرة العبيد في السعودية كظاهرة العبيد في أميركا تماما , ثم جاء الملك فيصل عليه رحمة الله فأطلق السراح ووهب الجنسية السعودية لهم , لكنَّ الفكرة وقتها لما تنضج بعد ُ ! وكان من الطبيعي أن يصحب ذلك تفرقة وعنصرية في شتى مجالات الحياة , وعانى المستضعفون منها الكثير إلى عهد قريب , حتى تجندت الصحافة للموضوع , فتناولت الأقلام السيالة مساوئ هذه الظاهرة , وشرقت بها وغربت ! وتصعـَّد الأمر , وفرضت العقوبات المالية والجسدية على من يتلفظ بأي لفظ عنصري , واصطلى من اصطلى بنيرانها , فانتهت الظاهرة تماما !
إنها مجرد فكرة !
ليس السبيل في تحقيق سعادة الناس , زخرفة الشوارع ورصفها , وإنشاء الأبراج وتجميلها ! إنما السبيل إلى ذلك في إيمان الشعب بوجوده , وبتقرير مصيره , وإحساسه بحريته , ويقينه بولائه لوطنه , واحترام الحكام لكيانه , ونزولهم عند مطالبه ! أما أن تتقدم المدنية وتظل الروح بربرية كما يقول نزار فتلك داهية الدواهي وثالثة الأثافي .
*****************************************
إن البرامكة في هذا الزمن هم أرباب الصحافة والإعلام , وهم ولاة الحاكم وبطانته وحكومته وزبانيته ومؤسساته وبلاطجته , يجمـّلون قبحه , وينمـّقون قوله , ويؤيدون بطشه !
هم رجال الأمن وهم رجال الجيش وهم رجال الإعلام وهم تجار البلد وهم رؤساء العشائر وهم المتنفذون في الدولة والمتسلطون في الحكومة والمتربعون في المجالس النيابية والقضائية ! مرة يطلعون عليك في جبة القاضي , ومرة يطلون في رداء الجيش , ومرة يظهرون في كرفتة الدكتور, ومرة ينزلون في هراوة البلطجي , ومرة يمشون في طربوش الطباخ , ومرة يترنحون في ملاءة عاهرة ! الغريب أنهم أول من تنزل بساحتهم البلايا ! فحين تنحى مبارك عن الحكم , بدأ تجميد أرصدة الوزراء والتحفظ على أموال رجال الأعمال , ومحاصرة المتنفذين في الداخل , وفرض الإقامة الجبرية عليهم , ومنعهم من السفر , بينما رئيس البلاد ينفذ بجلده , وينجو بعائلته !
وما أدري أهي قوانين السماء تنتقم لنفسها من هؤلاء المرتزقة أم أنها سنن العدل تنتصف لذاتها ؟!
من يكان يتصور صمود هذه الميادين لو لم تكن هناك تغطية إعلامية شاملة ؟ّ ومن كان يتصور أن يجئ على العقل اليمني يوم يشق فيه هتافه بإسقاط النظام عنان السماء لو لم تكن هناك صحافة ؟؟!!
شكرا صاحبة الجلالة .
همسة في أذن القضاة :
ألا نجد أمام تزييف الوعي هذا طوال هذي السنين من رادع ٍ قانوني ؟! ألا يكون العقاب إن وجد إلا في مختلس أو مغتصب ؟!