يهربون إلينا ونهرب إليهم
أبوبكر بن محمد
عجيب ما نراه في زماننا من بعض مثقفينا وكتابنا الذين يعدون أنفسهم عرابي التغيير في ثقافتنا الاجتماعية حين يصادمون الواقع بنوع من الرعونة التي تكشف عن قصور فكري لديهم ففي حين يحاول عقلاء الغرب-الآخر كما يسمونه- الهرب من الخواء الروحي والتفسخ الأخلاقي إلينا ليستفيدوا من الإسلام في إعادة العناية بالجانب الخلقي والروحي لديهم إلى نصابه ؛ فتكثر صيحاتهم بضرورة العناية بالرجوع إلى القيم الأخلاقية النابعة من الدين التي رماها الغرب وراء ظهورهم إبان تبنيهم الفلسفات المادية ومبادئ الرأسمالية ، وعلى حين يحاول المصلحون الاجتماعيون الغربيون في الجانب الأخلاقي أن يعودوا بمجتمعهم ليستفيدوا من عناية المسلمين بأخلاقهم والحفاظ على مؤسسة الأسرة التي لم يعد لها أي قيمة في الغرب المعاصر بعدما أقرت القوانين الوضعية زواج المثليين فقلت نسبة المواليد في الغرب بشكل كبير مع زيادة نسبة المهاجرين المسلمين حتى أعلنوا أن أوروبا ستصبح قارة مسلمة بعد نصف قرن من الآن ، الأمر الذي أصبح يشكل هاجساً على المدى البعيد في أوروبا التي أخذت تشيخ وكذلك ابنتها غير الشرعية أمريكا ، و حين يصيح بهم المصلحون الاقتصاديون للنهوض بهم من أزماتهم المالية التي وصلت إلى طريق مسدود من خلال النظم الرأسمالية.حتى أصبحت دراساتهم ومراكز أبحاثهم تعنى بأمثال هذه المشكلات، حتى نادى بعض مفكريهم بضرورة الاهتمام بالإسلام والمسلمين الذين أصبحوا يشكلون ثقلاً لا يستهان به كما أن المسلمين يشكلون أكبر الجاليات التي تقطن الغرب وتشارك مشاركة بناءة في حضارته منذ اختارت الاستيطان هناك، وهم يسعون الآن لتغيير طريقة تعاملهم مع المسلمين الذين لو كانوا إرهابيين كما تصفهم وسائل الإعلام العالمية- وتبعا لها بعض العربية- لما كانت أوروبا الآن تعرف الاستقرار.
ومع ذلك كله تجد البعض بيننا –وللأسف- ممن اغتر بالحضارة الغربية المادية -ممن يصفون أنفسهم بالمستنيرين- الذين يحاولون الهرب ليس بأنفسهم وحدهم بل بكل مجتمعاتنا للإيغال وبسرعة فيما نكص عنه عقلاء الغرب و يتمنون أن نصل إلى ما وصلوا إليه من تحضر مادي أياً كانت النتيجة.
و إخوتنا هؤلاء ممن اعتقدوا أن الغرب إنما تحضر لتركه الأخلاق والمبادئ حتى قال أحد أساطينهم في القرن الماضي : إذا أردنا أن نتقدم يجب أن نأخذ الحضارة الغربية بحلوها ومرها وبخيرها وشرها ؛ فهم يرون أن معنى الحضارة يستلزم أن يكون كتلة واحدة-بكج- و يجب أن يؤخذ كما هو في حاوية واحدة.
ومن غرائبهم أنهم لا يعرفون من الغرب إلا التحلل الأخلاقي،وكل كتاباتهم إنما تعزف على وتر تحرير المرأة وضرورة الاختلاط بين الجنسين ، ووتر الحرية الفكرية وعدم تقييد أفكار الناس فليقل من شاء ما شاء دونما خوف أو إرهاب فكري يتمثل بحسب كتاباتهم في ما يعرفه المسلمون بإنكار المنكر والاحتساب على المخالفين للدين الإسلامي كما دلت عليه نصوص الوحيين.مع أنهم يجلدون الإسلام والمسلمين صباح مساء في كتاباتهم وأطروحاتهم حتى أن بعض المسلمين كتاباً وعلماء صار يحرص على التلطف في إنكار كفرياتهم تحاشيا للتهييج ولسلاطة ألسنتهم وأقلامهم وخبث مناكفاتهم .
على أننا لم نر أحدا منهم قدم لنا منتجاً مفيداً –وإن كان مجرد فكرة- بحيث يسهم في تحسين أوضاع وأحوال المسلمين فلا مشاريع تنموية ولا جمعيات خيرية ولا مشاريع تطوعية تفيد الطبقات الفقيرة في المجتمع ،وقد تجد منهم أثرياء لكن لا تجد لهم أثراً في رفع غائلة الجوع عن الجائعين ولا العري عن المعدمين، وقد يكون منهم متنفذين وتجار لكن بدون أي مساهمة في الأعمال الخيرية إلا ما يتعلق بالتسويق الإعلامي لهم فقط . على حين ستجد أن من يتصدى للأعمال الخيرية هم الصالحين الذين يشكلون السواد الأعظم والطبقة الوسطى من أبناء المجتمع الذين ينبزونهم في كتاباتهم بالإسلاميين –وإن كانوا من غير الحزبيين - وكأننا في مجتمعات غير مسلمة ؛وطالما أن إخوتنا المستنيرين أعجبوا بالغرب وبما وصل إليه فإني سأذكرهم بما ينادي به كثير من عقلاء الغرب ومصلحيهم الذين اكتووا بنار الحرية غير المنضبطة عسى أن يراجع إخوتنا أنفسهم ويتأكدوا من موقفهم و يراجعوا سعيهم الدءوب ومحاولاتهم الزج بمجتمعنا الإسلامي في أتون حرب ضروس من البوهيمية المنفلتة من كل رباط أخلاقي ومن كل عقال اجتماعي حتى لا يصيبنا ما أصاب القرون من قبلنا ونسقط في الهوة التي تردت فيها المجتمعات الغربية والتي تسعى جاهدة للخلاص منها ولكن هيهات لها ذلك وهي تعيش بدون دين، إذ أن الخلق على مرّ التاريخ لا يكون دون تدين وإيمان باليوم الآخر والحساب والجزاء ، ولارتباطه الشديد بالدين قال نبينا عليه الصلاة والسلام(إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) ولهذا سمّى بعض المؤرخين الإسلام بدين الأخلاق.
وهذه الدعوات في الغرب التي أخذت تنقلب على الحداثة والليبرالية والرأسمالية -التي كانت أصلا انقلابا على الدين وكل ما يتعلق به -لا تكاد تنقطع لكن يبدو أن ربعنا في صمم عنها إذ لا يسمعون إلا أصوات الدعوات القديمة التي ظهرت في القرن السابع عشر والثامن عشر الميلاديين و التي أصبحت شبه بائدة في بلادها الأصلية. وسنستعرض هاهنا جانبين من الجوانب التي يصرح الغرب بوجوب العودة بها إلى سلوك المسلمين وهما الجانب الأخلاقي والجانب الاقتصادي وهما الآن حديث الساعة في العالم الغربي إذ لا تكاد تخلو دراسة اجتماعية أو اقتصادية من البحث في وجوب الالتزام الخلقي وإن لم يصرح بعضهم بأنه يقصد الإسلام لكن ما يذكرونه في أبحاثهم لا يتمثل إلا في الإسلام وقد كنت جمعت كلاماً كثيراً في هذين الجانبين ثم حذفت أكثره لأن مريد الحق أدنى دليل يكفيه وأما مريد الباطل فلن يكفيه شيء وهو أصلاً لم يكتف بالقرآن ولا بالسنة وكما قال بعض السلف من لم يكفه القرآن فلا كفاه الله.
التحلل الأخلاقي(الاختلاط):
-قالت صحيفة (سنانيري) الأمريكية التي تكتب عن مشاكل الشباب تحت سن العشرين إن المجتمع العربي مجتمع كامل وسليم ومن الخليق لهذا المجتمع أن يتمسك بتقاليده التي تقيد الفتاة والشاب في حدود المعقول. وهذه القيود صالحة ونافعة؛ لذا أنصح أن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم وامنعوا الاختلاط وقيدوا حرية الفتاة بل ارجعوا لعصر الحجاب فهذا خير لكم من إباحة وانطلاق ومجون أوروبا وأمريكا، فقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعاً معقدا مليئاً بكل صور الإباحية وإن ضحايا الاختلاط والحرية يملئون السجون والأرصفة والبارات والبيوت السرية.(موقع طريق الإسلام)
وهذه كاتبة تسمى أرنون تقول: لأن يشتغل بناتنا في البيوت خوادم خير وأخف بلاءً من اشتغالهن بالمعامل ، حيث تصبح المرأة ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد ، ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة .(كتاب المرأة لمحمد العريني)
-وقال بعضهم: لو عادت عجلة التاريخ للوراء لاعتبرنا المطالبة بالمساواة مؤامرة اجتماعية ضد الولايات المتحدة وقاومنا اللواتي يرفعن شعاراتها .(البيان ربيع الآخر 1420)
-قامت مجموعة من البريطانيات بجامعة أكسفورد بمظاهرة خوفا من السماح بالاختلاط في الكلية.(الأسرة صفر 1420)
-وفي دراسة للمؤسسة الوطنية البريطانية للبحث التعليمي, نشرت في 8 يوليو 2002 , وأجريت على 2954 مدرسة ثانوية في انجلترا لدراسة مدى تأثير حجم المدرسة ونوعها (مختلطة أو غير مختلطة) على أدائها التعليمي , تبين أن أداء الطلبة الذكور والإناث كان أفضل دراسيا في المدارس غير المختلطة و أن الفتيات كن أكثر استفادة من الفصل بين الجنسين في تنمية أدائهن .
كذلك وجد من تحليل نتائج الامتحانات البريطانية العامة أن المدارس غير المختلطة تحقق أفضل النتائج وأعلاها بشكل روتيني. ففي سنة 2001 كان العشرون الأوائل في امتحانات البريطانية من طلاب المدارس غير المختلطة، وأغلب الخمسين الأوائل من الدارسين في تلك المدارس.(جدل الاختلاط في السعودية-صيد الفوائد)
-وفي أستراليا أجريت دراسة على مائتين وسبعين ألف طالب وطالبة، تبين فيها أن طلاب التعليم غير المختلط تفوقوا سلوكيا وأكاديميا على طلاب التعليم المختلط.. وفي دراسة لمجلة "نيوزويك" الأمريكية قالت أنه عندما يدرس الطلبة من كل جنس بعيدا عن الآخر فإن التفوق العلمي يتحقق؛ ففي وسط التعليم المختلط أخفقت البنات في تحقيق التفوق في مجال الرياضيات والعلوم والكيمياء والفيزياء والتكنولوجيا والكمبيوتر.
وقد عرضت الجمعية الأمريكية لتشجيع التعليم العام غير المختلط دراسةً أجرتها جامعة ميتشجن الأمريكية في بعض المدارس الكاثوليكية الخاصة المختلطة وغير المختلطة؛ تفيد ـ هذه الدراسة ـ أن الطلاب في المدارس غير المختلطة كانوا أفضل في القدرة الكتابية وفي القدرة اللغوية.( دعاة الاختلاط .. هل يعون الدرس! عصام زيدان)
وقد أصدرت دار العبيكان كتابا بعنوان الغرب يتراجع عن التعليم المختلط رسالة إلى دعاة الاختلاط تأليف: بفرلي شو. كما نشر حديثا كتاب مترجم بعنوان عقول الفتيان ومؤلفه أمريكي يثبت بالتجارب والبراهين بما فيها الدراسات الطبية أن هنالك فروقاً بين الفتيان والإناث في طريقة التعلم والاستجابة.
2-الجانب الاقتصادي:
ذكرت الجريدة اليومية للفاتيكان "L'osservatore Romano" أن النظام البنكي الإسلامي يمكنه المساعدة في تجاوز الأزمة الاقتصادية العالمية.
وقالت الفاتيكان: إن على البنوك أن تبحث في النظام البنكي الإسلامي لإعادة الثقة بين عملائها في هذه الأزمة الاقتصادية العالمية.
وتذكر الجريدة أن الأسس الأخلاقية الإسلامية التي بني عليها النظام البنكي في الإسلام يمكنها التقريب بين البنوك والعملاء؛ لتوثيق وتحسين الخدمات المصرفية.
وتحدث بابا "الفاتيكان" في كلمته العام الماضي حول تصادم أسواق المال؛ حيث قال: إن النقود تضيع وتخسر، وهذا لا يعني شيئًا، وإنما الاستقرار لكلمات الله.
وتابعت "الفاتيكان" الحالة الاقتصادية العالمية، وانتقدت السوق الحرة وازدياد حجمها السيئ خلال العقدين الماضيين.
وذكرت صحيفة "Heute" النمساوية خبرًا قصيرًا تحت عنوان: "الفاتيكان تنصح بالنظام الإسلامي للبنوك، بدون فوائد، بدون افتراضات"وفي تفاصيل الخبر نصيحة تقول: على البنوك الالتزام بالشريعة الإسلامية.(عن موقع الألوكة)
وهذا يعد أكبر مرجعية للغرب يدعو إلى النظام الاقتصادي الإسلامي لقيامه على أسس أخلاقية يفتقدها النظام الغربي أجمع وهذا سبب أزمتهم المالية.
وذكر كثير من محلليهم الاقتصاديين أن أزمة الغرب المالية هي أزمة أخلاق بالدرجة الأولى وبينوا أثر المعاملات الربوية في انهيار الاقتصاد من وجهة نظرهم مع عدم اعتقادهم لتحريمه.
ولا أجدني مضطراً لأن أذكر شيئاً للمعجبين بالغرب وحضارته من الزاهدين في الإسلام بعد شهادة بابا الفاتيكان للإسلام إذ أنه المتحدث باسم الرب كما يعتقدون ذلك-تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا-.
كما أننا نستحضر هنا الحملة التي شنتها بعض الصحف الإنجليزية على ولي العهد البريطاني لما قاله في محاضرته المتعلقة بالمحافظة على البيئة حين وصف الإسلام بأنه يوفر أعظم نظام لحماية البيئة كما فصل ذلك في محاضرته في العام المنصرم و يشيع بعض المثقفين الإنجليز منذ سنوات بأن ولي عهد بريطانيا يعتنق الإسلام سراً.
بعد هذا كله ألا نتعظ حين نرى عقلاء الغرب ومصلحوهم ضجوا من الانهيار الخلقي الذي وصلوا إليه والذي طال حتى النظام الاقتصادي والبيئة المادية ، وانعدام جميع القيم والمبادئ التي يحتاجها المجتمع في بناء نسيجه الأخلاقي والاقتصادي والبيئي،والذي لازال المجتمع الإسلامي يستمسك بها -ونأمل أن يكون مجتمعنا لا يزال يأخذ بنصيب أكبر في المحافظة عليها- على حين يزهد في ذلك بعض مثقفينا المستنيرين ولا أعلم استنارتهم هذه بأي شيء!.
وحينما نقارن ما نقلناه عن الغربيين الذي يسعون لإصلاح مجتمعاتهم مع ما يدعو إليه بعض الكتاب لدينا من دعوة لتحرير المرأة وتوظيفها واختلاطها بالرجال وتعليمها للصبيان في تحد سافر للأخلاق الإسلامية وللعادات الاجتماعية وتجارب الأمم الأخرى وهم حينما يضربون بجميع ذلك عرض الحائط ويصرون على مشروع التغريب في تهور لا يمكن أن يرضى به عاقل يحترم عقله تشعر أن بيننا حمقى إن أحسنت بهم الظنّ ، إذ أن الأمر لا يتعدى أحد ثلاثة إما مفسد أو مرتزق وإما أحمق .
أضف إلى ذلك ما نراه من دعوات لتطبيق نظام التأمين الصحي الأمريكي ومن قبله التأمين المروري القائم على أنظمة التأمين الأمريكية التي تحوي صنوفاً من الموبقات من ميسر وغرر وربا وكل ما شئت من نكبات الرأسمالية كما تسعى البنوك الآن لإقرار نظام الرهن العقاري المستوحى من النظام الأمريكي الذي كان أحد أهم أسباب الأزمة المالية العالمية بفعل تلاعب البنوك كل ذلك يشعرك مرة أخرى بأنك أمام أناس لا يتعظون بمصائب غيرهم وقد قيل العاقل من اتعظ بغيره .ونحن بطبيعة الحال لا نرضى بواقع المسلمين المرّ وما آلوا إليه من تخلف وذلة وهوان ، لكن يجب ألا نكون الغراب الذي حاول يوماً أن يقلد مشية الحمامة.
وطرق علاج واقع المسلمين وإصلاح حالهم يجب أن تنبع من الداخل وهذا ما اتفق عليه جميع العقلاء في الشرق والغرب أما محاولات استيراد الحلول لمشكلاتنا من الخارج فهانحن نجربها ويجربها العرب من قبل أن نولد ! فماذا جنينا منها حتى الآن؟
أفنصبر على هؤلاء المروجون لحضارة الغرب حتى يوردونا مصارع الأمم قبلنا ؟إن هذا لشيء عجاب.
ثم أليس من عجائب هذا الزمان أن الغربيين يهربون إلينا ونهرب إليهم.
عفواً لقد أخطأت وإنما قصدت:يهرب إلينا عقلائهم ، ويهرب إليهم الحمقى منا.
تذكرة: رسائل إلى أحبابنا الهاربين إليهم:
قيل - إذا أراد الله أن يزيل عن عبده نعمة كان أول ما يغيّر منه عقله .
وقيل - لم يُضيِّع امرؤٌ صواب القول حتى يُضيِّع صواب العمل .
كتبه /أبوبكر بن محمد
.......................................
http://www.al-fikr.com/container.php?fun=nview&id=158