أخصص ردي هذا الذي سيكون الأخير هنا لتوضيح بعض ما أشرنا إليه مما اعترض عليه الأخ الكريم مكي أو امتعض ، وسألبي رغبته بالإشارة أيضا إلى بعض الأخطاء التي أرادها مقياسا وحيدا للنقد الشعري. ولكني قبل هذا أريد أن أستأذن الجميع هنا بفك تثبيت الموضوع الذي لم أجد أنه كان يحتاج تثبيتا بادئ ذي بدء مع تقديري لكل من أسهم في هذا الأمر ولكني أرى أن أفك التثبيت لأنه ورغم كبر قدر أخي مكي عندنا إلا أن الموضوع ليس إلا مجرد تناول نقدي عادي لقصيدة جميلة.
سأبدأ في توضيح المحاور التي تم طرحها والإشارة باقتضاب إلى رأيي فيها:
أولا موضوع السبك والربط بين الأبيات:
وهذا موضوع تقديري عموما إلا ما كان الأمر فيه واضحا ، ونعم صدق أخي مكي في أن الجدل فيه قد يطول ، ولكني ما أردت جدلا بل رأيا غير ملزم والحكم للذائقة التي تتفاوت والآراء التي تتمايز ، ولم نقل يوما بأن ما نقول يلزم أحدا بل هو نصح برأي أو رؤية فليأخذ المرء أو فليدع.
كنت أشرت لما يمثل قوة في السبك والربط بشكل جميل جدا وبعض ما فيه ما قلنا من تدابر أشطر أو رخاوة في السبك في بعض أبيات أخر. وأنا هنا سأورد بيتين كمثال على قوة السبك والربط بين الأبيات وبيتين آخرين على عكس ذلك مع توضيح مقتضب.
ذرفتني السماء نجمةَ شعرٍ = لمّتِ الضوءَ من بقايا زوالِ
حين يهمي الظلامُ مُزنَةَ شوْقٍ = أنزوي خلفَ أحرفي وابتهالي
بيتان يترابط الصدر فيهما مع العجز بقوة وإقناع وإمتاع وقد شرحتا بعضا من هذا في رد سابق.
أناْ أرضٌ تعُجُّ بالزهرِ نبتًا = نظرةٌ منكِ تستبيحُ احتلالي
أشرعَ الدهرُ بابَهُ لرؤانا = لا تجوري عليْهِ بالأقفالِ
هنا بيتان مثال على ضعف الربط والسبك بين الصدر والعجز في كل منهما.
فأما البيت الأول فقد بدا فيه كأن الصدر يسير في واد والعجز يسير في واد فلا المبنى يربط بينهما بأسلوب أو بعطف أو بشرطية ولا المعنى يربط بينهما إلا من بعيد جدا بما يربط الأرض بالاحتلال وهو ربط بعيد جدا كما أزعم.
وأما البيت الثاني فقد شرحنا أن الصحيح هو أن يقال: أشرع الدهر بابه فلا تجوري والأمر واضح طبعا بأن المعنى بدون العطف بالفاء هنا (أشرع الدهر بابه لا تجوري) يضعف السبك بشكل كبير ويشوش المعنى عموما.
ثانيا موضوع التوظيف الأفضل للمفردات:
هو فيه مثل الذي في السبك والربط باختلاف وائتلاف وتفاوت الذائقة وتمايز الآراء إلا قليلا بقدر ما يتأثر المعنى وضوحا وغموضا أو ضعفا وقوة.
وهنا أيضا سأسوق مثالا من بيتين فقط على حسن التوظيف حد الإبهار وآخرين على ضعف التوظيف حد الاستفسار.
أما قوة التوظيف حد الإبهار فكان أجلى ما يكون في البيت الذي شرحنا آنفا:
ذرفتني السماء نجمةَ شعرٍ = لمّتِ الضوءَ من بقايا زوالِ
فهذا بيت محكم محلق بحق وكل حرف فيه في مكانه الأنسب والأجمل.
أيضا في البيت:
لن تنامي على أسرّةِ وَرْدٍ = إن زرعتِ الأشواكَ في أوصالي
رائع توظيف المفردات هنا بالمقابلة حينا وبالكناية حينا ، وكيف أن لفظة كالأوصال مثلا خدمت المعنى بشكل مبهر من خلال تأكيد شمويلة الوجع من الشوك في كل أنحاء الجسد من ناحية ثم المعنى الشفيف الذي يجعل من الأوصال فراش الحبيب ينام عليه هانئا.
ثم لنأخذ مثلا هذا البيت:
أنتِ أُمُّ الجراحِ، كوني رؤومًا = إن تمادَتْ بالنزفِ والإبتلالِ
هنا جميل توظيف الصورة "أم الجراح" ولكن ما مدى قوة توظيف اللفظة "الابتلال"؟؟
أليس النزف يحدث ابتلالا؟؟ ثم هل الذي يزعج في النزف هو الابتلال؟؟ ثم ماذا أضافت هذه اللفظة للصورة أو للمعنى؟؟ هنا لا يمكن لمنصف أن يرى في قولها إلا حشوا اضطرت إليه القافية.
طيب ، هل من مشكلة؟؟ أليس كل الشعراء يفعلون هذا وكثيرا؟؟ نعم يفعلون ولا مشكلة في هذا فالأمر لا يعني أن اللفظة خطأ يجب تغييره بل هي لفظة صحيحة لغة ولا باس أن تأتي حينا حشوا لإكمال البيت ولا شيء في كل هذا ...
ولكن ...
ماذا لو حرص الشاعر على أن يجد بديلا أفضل وأنسب لا تكون حشوا بل تضيف للصورة والمعنى كأن يقول مثلا:
أنتِ أُمُّ الجراحِ، كوني رؤومًا = إن تمادَتْ بالنزفِ والإندمالِ
الاندمال هنا يخدم القافية لا ريب والوزن كذلك "رغم قضية قطع همزة الوصل" ولكن هذه اللفظة تزيد في معنى الوجع وتعمق الصورة وتضيف لها بأن تجعل حالة الجراح دائمة دائبة فما أن يندمل جرح نازف حتى تنكأ جرحا آخر وهكذا تتعمق الصورة ويزيد المعنى.
لنأخذ مثالا آخر:
لمْ تُصِبْ غيمةُ الرجاءِ يباسي = أدبَرَتْ بالرواءِ خلف الجبالِ
من الطبيعي أن تغيب الغيوم خلف الجبال وهكذا أسلوب هو أبعد ما يكون عن الشعر ليجعل البيت مغرقا في النثرية أو ما هو أقل ، والسبب الأساسي في هذا هو عدم توظيف مفردة مناسبة ترتقي بالصورة ودلالاتها ، وهذه اللفظة هي "الجبال".
ماذا لو كانت "خلف المحال" أو "صوب المحال"؟؟
ماذا لو كانت "خلف التعالي" مثلا؟؟
ماذا لو كانت "قبل اعتلالي" أو قبل "انهمالي"؟؟
خيارات كثيرة لكل معناها ومؤداها ولكل صورتها ورمزيتها وبتعديل في كلمة واحدة يمكن نقل البيت من بيت عادي أو أقل من عادي إلى بيت إبداعي أو أكثر من إبداعي.
هنا تكمن أهمية توظيف المفردات وهي التي تحدد قيمة الشعر الحقيقي فالشعر معدن نفيس لا يحتمل خدشا ، وإن كل ذرة غبار أو أي خدش مهما كان بسيطا تفقد الدرة بعضا من قيمتها ورونقها ، ولكنها بالقطع تظل درة لا صفيحا.
يتبع ...