في التاريخ القديم
بهجت عبدالغني الرشيد
كم من المؤرخين في اختصاص التاريخ القديم حاول أن يتجاوز الشكل إلى المضمون، وأن يحول لنا التاريخ من مجرد نصوص شبه ميتة إلى حركة وفاعلية ، أن يضع بين أيدينا تاريخاً لأمم وحضارات نستفيد منها ومن تجاربها وخبراتها ..
أظن أن وصف الآثار المكتشفة من جدران وأعمدة ورسوم لا يكفي في تقديم تاريخ يفيد البشرية ..
نعم ..
سيكوّن لنا ذلك الوصف تصوراً كيف كان القدماء يعيشون ويحاربون ويبنون ، ولكن لن يعطينا ما نرجوه في التعرف إلى الأبعاد الحضارية بناءً وهدماً في تلكم المجتمعات والحضارات ..
إن القرآن الكريم وفي آيات كثيرة يضعنا إزاء هذه المسألة ، إنه ينقل إلينا حشداً كبيراً من قصص الأنبياء وأممهم من آدم مروراً بنوح وإبراهيم ولوط وانتهاءً بمحمد ( عليهم السلام ) ، فيما يسمونه اليوم بـ " التاريخ القديم " ، ولكنه وهو ينقل هذا الحشد من القصص يضعنا أمام الفوائد والعبر التي يمكننا أن نستفيد منها في حياتنا اليومية ، وهذا النقل ليس إلا رؤية حية متفحصة في الأمم وحالاتها لنأخذ منها الفائدة والعبرة، ونتعرف على القوانين والسنن التي تبني الحضارات أو تهدمها ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) ) [ سورة يوسف ] ، والقرآن الكريم بذلك يقاوم النظرة العفوية والاستسلامية وينبه العقل البشري إلى أن التاريخ تحكمه " السنن " و " القوانين " ، ومن ثم يدفع بالإنسان إلى أن يكون فاعلاً ومؤثراً باكتشافه هذه القوانين ، ونقول ذلك لأنه ليس هناك شيء في تاريخ البشرية كله وفي جميع مجالاته ما يسمى بـ " الصدفة " .
يقول الله تعالى :
( سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا (62) ) [ سورة الأحزاب ] ( اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا (43) ) [ سورة فاطر ] .
بهذه الآيات وغيرها ، ولأول مرة في تاريخ الفكر ، يُكشف الغطاء أمام العقل البشري ، ويوضع بين يديه القوانين والسنن ، ليعلم ما يبني وما يهدم .. قائلةً له : إن التاريخ البشري لا يتحرك فوضى وعلى غير هدى ، وانه لا مكان للصدفة ، فالقانون هو الذي يحكم التاريخ ..
فمادام أن هناك هذه السنن الإلهية التي أودعها الله في كونه وخلقه والتي تسري في تاريخ البشرية ، ماضيها وحاضرها ومستقبلها ، فلماذا لا يلتفت مؤرخو التاريخ إلى دراسة هذه المعطيات التاريخية وتمحيصها والتدقيق فيها وتأملها ، ليقدموا لنا أخيراً تلك القوانين والسنن التي سيرت تلكم الحضارات ، بناءً وهدماً ، ويقفوا عند دروسها وعبرها ، متسائلين كيف بنيت تلكم الحضارات العملاقة ، وتوسعت وسيطرت ، ثم كيف سقطت وربما في هزة ضعيفة ؟
إن التاريخ يتشابه .. يتكرر .. ويمكن القول بأن التاريخ القديم هو نفس تاريخ الإنسان المعاصر في جوهره وصميمه ، وان اختلفت الأشكال والهيئات ..
إن قاصمة الظهر ـ كما يقال ـ بالنسبة لمؤرخي التاريخ القديم هي ابتعادهم عن منهج القرآن العظيم ، وتأثرهم البالغ بأفكار وحتى بسلوك أولئك الذين جاءوا من الغرب ، ينقبون عن آثارنا ثم يسرقونها ، ويزورونها أخيراً، لأغراض وأهداف معينة .
إن عدمية المنهج ، أو فوضويته على أقل تقدير ، عند مؤرخينا كارثة .. يجب أن نتجاوزها ، إنها تشبه السباحة في الفضاء دون جاذبية ، دون مرجع ، وهذا جعل الكثير منهم يتخبطون في دياجير الشك والحيرة ، وحتى الإلحاد ..
فهلا رجعنا إلى ذلك المعين الصافي المتدفق ، المنهج الإلهي الذي يرينا آياته ( فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) ) [ سورة فصلت ] .
وهل يعني ذلك أن تتحول دراسة التاريخ إلى دراسة دينية ؟
بالطبع لا ..
بل القصد هو الاستفادة القصوى من ذلك المنهج الإلهي الذي وضعه الله تعالى ، خالق البشر ، والذي يعلم ما ينفعه وما يضره ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) ) [ سورة الملك ] .