الشريعة .. وكيف حدث الانفصام ؟
بهجت عبدالغني الرشيد
الإسلام هو خاتم الرسالات الإلهية ، الدين الذي ارتضاه الله تعالى للناس إلى أن يرث الأرض ومن عليها ، وجعله المنهج الشامل الواسع الذي يتسع لكل النشاطات البشرية ، ودعوة عالمية لكل زمان ومكان ..
ولذلك تكفل هذا الدين ببيان كافة ما يحتاج إليه الإنسان لتنظم علاقته بالله تعالى وبالأفراد وبخاصة نفسه ، وعلى ضوء ذلك قسم العلماء الشريعة إلى ثلاثة أقسام :
ـ الأصول الاعتقادية ( علم العقيدة ـ علم الكلام ـ الفقه الأكبر ... ) وموضوعها يتعلق بإثبات العقائد الدينية المتعلقة بالله وصفاته وأفعاله ، وما يتفرع عليها من مباحث النبوة والمعاد .. الخ ..
ـ الأحكام العملية التي تهتم بأعمال الإنسان ( العبادات والمعاملات ) ، ويسمى بـ ( علم الفقه ) .
ـ المبادئ الخلقية التي تهتم بالصفات التي من شأنها أن ينتج عنها صدور الأعمال الخيرة ، ويسمى بـ ( علم السلوك ـ التصوف ) .
وذلك حتى ينعم الإنسان بالراحة والأمن في حياته ، ويطمئن على مصيره بعد مماته .
لكن الملاحظ من هذا التقسيم أنه تقسيم ( أكاديمي ) وليس تقسيماً حقيقياً للشريعة ، بمعنى الفصل الحقيقي بين اقساهما الثلاثة وتفكيكها بحيث لا تبقى صلة بينها ، وإنما كان تقسيماً يهدف بالدرجة الأساس إلى تيسير دراسة الشريعة والتعامل معها وتعلمها وفهمها وإدراكها .. وكان ذلك واضحاً عند الفقهاء والمجتهدين في عصور الازدهار الحضاري ، ولكن المشكلة بدأت عندما دخلنا عصور التقليد والجمود الفكري والادعاء أن باب الاجتهاد قد أغلق ..
فتحول هذا التقسيم بذلك من الحالة الأكاديمية إلى واقع معاش ..
فالمجتهد يصب كل اهتمامه في اجتهاده على الجانب الفقهي للمسألة ، ويستبعد الجانب العقدي أو السلوكي لها ، وصار الفقه أشبه بقوانين ميتة ليس بينه وبين العقيدة والأخلاق ومقاصد الشريعة رابط ..
فزواج المسيار مثلاً ـ ولسنا هنا بصدد الفتوى ـ لا ينقصه أركان وشروط الزواج الصحيح ، ولكنه لا يحقق مقصد الزواج من تحمل مسؤوليات الحياة وتربية الأولاد وإيجاد السكن والمودة والطمأنينة بين الرجل والمرأة .. الخ ..
يقول تعالى : ( وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) الروم: ٢١
وترى بين طلبة العلم من يهتم بالعقيدة ولا يهتم بالفقه أو السلوك ، أو يهتم بالسلوك دون العقيدة والفقه ، وهكذا ..
وترى الناس صاروا لا يربطون بين هذه الأقسام ، ولا يلقون له بالاً ، فإذا أحدهم يصلي ثم يخرج من الصلاة فيكذب ، يصوم رمضان لكنه يحتكر ويستغل ويغش في تجارته ، يحج البيت الحرام بمال حرام ، يقول لا اله إلا الله لكن لا ترى لهذه الشهادة أثر في حياته ..
أما إذا قرأ المرء كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فإنه يرى خلاف ذلك تماماً .
إن تلازماً حتمياً يجده بين العقيدة والفقه والأخلاق ، ورابطاً وثيقاً بين الأقسام الثلاثة لا ينفك .. يسوقها القرآن والسنة في سياق واحد دون فصل ..
لنقرأ هذه الآيات الكريمات لنرى كيف تمّ الربط بين الأقسام الثلاثة :
( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) ) البقرة .
فعدة المرأة وما يتعلق بها مسألة ( فقهية ) ، لكن القرآن وهو يقرر هذه المسألة الفقهية يربطها بالإيمان ( إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ) ، يقول الشيخ السعدي في تفسيره :
( فصدور الكتمان منهن دليل على عدم إيمانهن بالله واليوم الآخر ، وإلا فلو آمنّ بالله واليوم الآخر ، وعرفن أنهن مجزيات عن أعمالهن ، لم يصدر منهن شيء من ذلك ) .
أما الآية الثانية فهي تتكلم عن عدد مرات الطلاق ، وهذا مسألة ( فقهية ) ، ولكن تأمل عندما يصل الأمر إلى التطليقة الثالثة ، فإن القرآن ينبه الرجل في حالة الإمساك إلى ( المعروف ) الذي هو العشرة الطيبة الحسنة واللطف والمعاملة بالحسنى من غير إضرار بها .
وإما تسريح لها بـ ( إحسان ) لا عنت فيه ولا إيذاء . أي لا يظلمها شيئاً من حقها ، ولا يتعدى في قول فلا يذكرها بسوء بعد المفارقة ، وأن يمتعها بشيء يجبر كسرها ، ويطيب قلبها .
أليس كل ذلك من ( الأخلاق ) السامية والسلوك السويّ ؟
ثم تختم الآية بالتأكيد على الجانب الإيماني ، واستحضار مراقبة الله في كل شيء ، وأن أي تعد لـ ( لحدود الله ) يعد ظلماً صارخاً .
آية أخرى ..
( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) المجادلة: ٤
والآية تتحدث عن كفارة الظهار ( عتق رقبة ـ صوم شهرين متتابعين ـ إطعام ) وهي مسألة فقهية ، ولكن كعادة القرآن يربطها بالجانب الإيماني ( لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ) .
آية أخرى
( فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ) الطلاق: ٢
وهنا الحديث عن الطلاق ، ولكن تأمل كيف ربطه القرآن بالإيمان ( ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ) ، يقول سيد قطب في تفسيره :
( والمخاطبون بهذه الأحكام هم المؤمنون المعتقدون باليوم الآخر . فهو يقول لهم : إنه يعظهم بما هو من شأنهم . فإذا صدقوا الإيمان به وباليوم الآخر فهم إذن سيتعظون ويعتبرون . وهذا هو محك إيمانهم , وهذا هو مقياس دعواهم في الإيمان ! ) .
وغيرها كثير .. حيث تجد دائماً هذا الربط الوثيق بين الإيمان والفقه والأخلاق ، وما ورد ليس سوى نماذج لهذا الربط .
أما في الأحاديث فنأخذ بعض النماذج أيضاً ..
قال النبي صلى الله عليه و سلم : ( والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن. قيل ومن يا رسول الله ؟ قال : الذي لا يأمن جاره بوائقه ) . صحيح البخاري
ولا أظن أن الأمر يحتاج إلى مزيد تعليق .. ففيه ربط الإيمان بالسلوك ..
أي لا يؤمن أي لا يؤمن الإيمان الكامل ، ولا يبلغ أعلى درجاته ( شرح ابن بطال للبخاري ) من كان لا يأمن جاره بوائقه أي شره .
حديث آخر ..
عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أفضلها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ) . البخاري في الأدب المفرد .
وهذا الحديث جمع الأقسام الثلاثة ، الإيمان ( لا اله إلا الله ) ، والسلوك ( إماطة الأذى عن الطريق ) ، والأخلاق ( والحياء شعبة من الإيمان ) .
بل إن الإيمان نفسه هو هذه الأقسام الثلاثة ..
حديث آخر ..
عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ) . صحيح البخاري
فتأمل كيف ربط الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان بالحب ، وما يتعلق بهذا الحب من واجبات وحقوق ..
يقول ابن رجب في فتح الباري : لما نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه دلّ على أن ذلك من خصال الإيمان ، بل من واجباته ، فإن الإيمان لا ينفي إلا بانتفاء بعض واجباته .
حديث آخر ..
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، والتوبة معروضة بعد ) . رواه البخاري ومسلم .
فانظر كيف ربط الرسول صلى الله عليه وسلم بين كمال الإيمان والزنا والسرقة وشرب الخمر ، وهي مسائل تتعلق بالفقه والسلوك ..
وكل ذلك يدل على وحدة الشريعة ووحدة هدفها ..
ويبقى السؤال عن سبب هذا الانفصام ، وعن كيفية إعادة اللحمة ثانية إلى أقسام الشريعة تلك ..