الساعة الآن العاشرةِ صباحاً والأستاذ أحمد ( أبو عبد الله ) يجلس وحيداً في صالون منزله، أمامه طاولة خشبية مستطيلة الشكل عليها أوراق بيضاء مصفوفة بعناية ، كُتبَ على الورقةِ الأولى بخط عريض رقم ثمانين .. كان هذا الرقم هو العمرالمقدر له في الحياة .
أخذ ينظر إلى لوحتين معلقتين على الجدار المقابل كُتِبَ على الأولى ( العمر الحقيقي المُقدَّر للسيد أحمد هو ثمانون عاماً لا يزيد عنها ولا ينقص ) – وكتب على اللوحة الثانية ( العمر الحقيقي المُقدّر للسيدة نوال هو خمس وخمسون سنة لا تزيد عنها ولا تنقص ) ، كانت زوجته نوال في الخمسين من عمرها أما هو فكان في الخامسة والخمسين .
تذكر أحمد زوجته الحبيبة نوال وأنها ستفارقه بعد خمسة أعوام فأخرجَ من أعماقه لوعة الخوف ولهفة الشوق ونادى عليها بصوت لم يكد يغادر دائرةَ وجوده ، لكنها سمعته بقلبها المتعلق به وبسنواتٍ طويلة من العشرة والحياة..
خرجت نوال من حجرتها تسير بجانب الحائط مثقلةً ومتعبةً فأخذت مكانها بقربهِ ، نظر إليها وتأمل وجهها الجميل الذي غزته تجاعيد الزمن وانتظار الموت وقال لها : بقي خمسة أعوام على رحيلك وسأظل وحيداً بعدك خمس وعشرين عاماً ، حينها بكت بحرقة وألم وقالت أخشى أن تحتل قلبك امرأةُ أخرى من بعدي ، نظر إليها وقال لها : ما تبقى من عمري المقدر سيكون رمزاً للوفاء والإخلاص ، وسأظل أرقب لحظة اللقاء بك لنكمِل مسيرتنا في الحياة السرمدية في جنة ِالخلدِ بإذن الله ياحبيبتي .
سادت بينهما لحظةُ صمتٍ رهيبه قطعتها طرقة الباب في تلك اللحظة التي وصل فيها جارهمٍ الأستاذ فهد والمعروف في حيّهم بأبي خالد قادم من منزله لزيارة جاره أحمد صديقه الذي يعتبره في منزلة أخيه الأكبر .
كان فهداً في الخامسة والثلاثين من عمره وكان مقرَّراً له أن يموت في الأربعينَ من عمرهِ حسب ما قُدِّرَ له في سجل حياتهِ فجاءَ لمنزلِ السيدِ أحمد ليتناول معهُ أهم الأمور حولَ الفترةِ المتبقية لهُ من عمرِهِ ، فرحب به جاره كعادته مبدياً سعادته بلقائه فبدأ يسأله عن أحواله وعن صحته ، فأجابه وكأنه قد حضر إجابته وهو في الطريق إليه :
آه .. يا أبا عبد الله كم أنا حزين لفراقكم ولفراق زوجتي وأبنائي بقي لي خمسة أعوامٍ فقط وأغادرُ هذه الدنيا وأكثرُ ما يؤلمني هو أنني لن أتمكن من إكمال تربية أبنائي ولا أعرف كيف يؤولُ مصيرهُم من بعدي .
سمعَ أبو عبد الله جارهُ فطمأنه وقال له يا جاري العزيز هذه هي سنة الله في خلقه فلا تحزنْ فالأعمارُ مقدرةٌ ومعلنةٌ للجميعِ حتى يستطيع الإنسانُ أن يحسبَ كلّ شيء من تجهيزٍ واستعدادٍ للحياة الآخرةِ ولمنْ بعدهُ في الحياةِ الدنيا وليتمكن من تبليغ وصيته في وقتها.
تأوّهَ فهد ولم يقتنعْ بالفكرةِ والتبرير الذي ساقه له جاره بهدف التخفيف عنه غيرَ أنَّهُ تمتمَ بصوته الخافت ( الحمد لله الذي لا يُحْمدُ على مكروهٍ سواه ) واستطرد وقال : لو كانت الأعمار في علم الغيب لما عانيتُ كلّ هذهِ المعاناةِ ولَما تعذَّبَ أهلي وأبنائي وأخذوا يترقبون اليومَ الموعودِ للوفاة ، وكلما اقتربَ الموعدُ زادَ عناؤهم وقلَّ نشاطُهم وكثُرَ قلقهم وحزنُهم فالله المستعان ، ولم يعقب عليه أبو عبد الله وكأننه يوافقه فيما يقول لكنه كان سعيدا بوجود جاره الذي زاره في وقتٍ كان يتمنى فيه من يقطع عليه همومه ببعض المواساة.
ودَّعَ فهدٌ جارهُ أحمدَ بعد أن شربَ عندهُ الشَّايَ وتنفس لديه ببعض ما يشعرُ بهِ منَ الأسى والحزن ثم ذهب إلى منزلِ أختهِ وفاء التي كان يشفِقُ عليها كثيرا والتي تصغرُهُ بعشرةِ أعوام ، دخل منزل أختهِ بعد أن وجدَ الباب شبه مفتوحٍ والصمتُ يخيّمُ على كل شيء فيه والحزنُ يعانقُ أبوابهُ ويتسلق جدرانهُ ويعششُ في زواياه ، وجد أختهُ تُرتِّبُ في أشياءِ البيتِ المتناثرةِ هنا وهناك حِرصاً منها على أن تتستقبل أخاها والمنزلُ في هيئةٍ جيدة ، وعندما رأت أخاها انفجرت بالبكاء فهدَّأ من روعِها وقال لها لا تبكِ أخيَّتي : فالموتُ علينا حقٌّ مقدرٌ فردتْ عليهِ وقالتْ بلوعةٍ وحزن ولكنني لن أرى هذا المولودَ الذي في بطني ولا أعلمُ كيفَ ستكونُ حالتهُ من بعدي ، ألا تعلم بأنهُ لم يبق لي سوى تسعةَ أشهرٍ في هذه الحياة .
كان مقدَّراً لأختهِ وفاء أن تعيشَ ستّاً وعشرونَ عاماً وبقي لها من العمر تسعة أشهر فقط وهذا يعني أنها ستموتُ في ولادتها ، فكانت تواصلُ البكاء ليلَ نهار حزينةً كئيبةً على شبابها وعلى مولودها الذي سيخرج إلى الدنيا ولن تتمكن من رؤيتهِ وتربيته .
نظر إليها أخوها والدموعُ في عينيهِ وقال لها : لا عليكِ يا حبيبتي فسيكونُ مولودُكِ بحفظ الله ورعايتهِ ورعايتنا جميعاً ، ولقد كان الخطأ في زواجك المتأخر كذلك تأخيرُكِ في الإنجابِ ولو أنك أنجبتِ بعدَ زواجك مباشرةً لأصبح طفلك الآن في الخامسة من عمره ، ولكن هذه مشيئة الله وما قدّر فعل .
قالت له أخته وعينيها تسبحُ في بحيرتين صغيرتين من الدموع : يا ليتنا لم نعرف أعمارنا ولم نعرف متى سنموت وكيف سنموت عندها لم نكن لنتعذبَ كلَّ هذا العذاب ولما أصبحتْ حياتنا كلُّها جحيم وانتظار لساعة الرحيل .– اللهم لا اعتراض على حكمتك ، وبينما هو ينصت إلى أختهِ ويمسحُ الدموعَ من عينيها إذا بمنبهِ ( الهاتفِ ) يملأُ جنبات حجرةِ نومهِ ويوقظهُ من المنامِ ، فنهضَ منْ فراشِهِ مذعوراً خائفاً يتلفتُ ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمالِ وتذكرَ أنَّ كلّ ما رآه مجرَّدُ حلمٍ من إخراج نفسهِ المتعبةِ من عناءِ الحياةِ وهمومها ، عندها حمدَ اللهَ وأنعمَ عليهِ وصلّى ركعتينِ شكراً لله الذي أخفى عن بني آدم مقدارَ عمرِهِ ووقتِ ومكانِ وفاتهِ ، فتناول المُصحفَ وقرأ ما تيسَّرَ له منْ آياتِ الله :
بسم الله الرحمن الرحيم
( إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )
صدق الله العظيم