قراءة في ديوان ( سمفونيات الدرويش )
للشاعر د. ميسر الخشاب
1- دلالة المدينة :
الشعر هذا الطائر الذي ينشر أشواق أرواحنا ، يسرقنا من أحزاننا لينقش تغاريده على نبضات وجداننا ، فنتفيأ ظلال المعاني ونرتشفُ رحيق الجمال ، ونخوض به معركة الصدق ونتذوّق نفحات الإنتماء .. فهو زورق الرحلة إلى تأمل الأشياء والمعاني .. بل هو المسار ، به نطرح الأسئلة المفتوحة لتنطق الذاكرة تراتيل الحلم وترسم الغد الأجمل : وهكذا كنت أجوبُ قصائد شاعرنا ، أزور كل شبر في أرض مدينتنا الحبيبة – الموصل – حيث القصيدة توظف إيمانه الصادق ، وحبّه لوطنه ، وتمسّكه بالحرية ، فنقف أمام لغة شاعرية إنسانية وهو يرتدي عباءة الدرويش فيصدح بأغنيات الولاء تنطق بذلك ألفاظ لغته فيقول :
( قلبت في يدي قصائدي
الليل وحش والبيوت حولنا
أدركها كالطفلة النعاس
يا أيها الباب القديم لم تعد
تنادم الحراس
وهكذا يا قسوة المفارقة
أن يجد المظلوم قاضيا جلاده
في ساعة المحاكمة ) ص 18
هذا النبض الشعري الرقيق النيّر يغدو نغماً روحيّاً حاضراً ، فهو نداء مشرق عذب ، يتجلّى بكلّ صفائه وجماله ، ويغدو الشعر نسمةً تملؤنا بالتحدي بهذا القابض على قيمه ولغته . ففي البدء كانت ( الغربة والدمعة) رفيقا تلك الرحلة المقلقة في صوت الغربة يطل علينا البطل المسكون بصمت الفجيعة فيقول :
( في الشارع قصة
في المنزل والورشة قصة
في المسجد أو في حقل الحنطة قصة
قصص تحكي كيف تصير الجثة لقمة ) ص 11
لم تكن دلالة ( المدينة ) إلا وهي تفضح معنى الغربة في وجدان الشاعر ، فهو يعيش تفاصيل حكايته متأملاً متجولاً في أزقتها .. ينزف مشاعر الولاء محاولاً الولوج إلى الحدث اليومي بكل بشاعاته فيقف متهكماً ومعترضاً ولايملك سوى القصيدة التي تؤرخ الفجيعة .
2- دلالة التصوف :
ثم ينقلنا الشاعر إلى لوحة يمازج فيها مشاهد من الحروب الدامية التي أكلت أكتافنا بمشاهد الفجر ، لوحة ترسم خريطة الخاصرة وبشاعات الخوف وفوازع الأسئلة فيقول :
(كأن الحرب تغلي فوق خاصرتي
يجئ الصبح بالتسبيح ، لا تأتي
يمد الخوف مخلبه أمامي .. ولا تأتي
ومثل الفجر شد النور بالرؤيا
*
*
كأن الذئب والشيطان مرا حوله سرا ) ص 21
ليجعلنا نرصد قدرة الشعر على المزج بين الصور الحسيّة والمعنوية ، ولعلنا نستكشف شعرية اللغة وهي تنسج الكلمات التي تحمل ذائقة التصوف ، وانظر هذا التقابل بين الجمال الحسيّ والمعنوي في تصوير تقابل : ( الذئب والشيطان ) وتقابل الصورة الحسية الشفيفة : ( الصبح والتسبيح ) ويشخّص هذه اللغة التي أحبّها ،فيوحّد بينها وبين مظاهر الطبيعة البكْر ؛ فالفجر صاحب المخلب له وقع خاص في حكايات الشاعر وهو يقول :