واحد منهم
---------------------
شَعُر بوخزات البرد تخترق جسده النحيل فأخذ يرتعد وقال فى نفسه . لو كنت
أعلم أننا سنبقى إلى هذا الوقت المتأخر من الليل لأرتديت ثياباً أثقل . ولم يطل
التفكير فى هذا الأمر وإندفع مع رفاقه وصفوف الهاتفين التى إجتمعت على قلبِ
واحد مناديه بالحريه والعدل والحياه الكريمه.. ثم فجأه أحس وكأن سائل دافئ أخذ
يتدفق منه وألم شديد لم يحتمله . فوضع يده مكان الألم وإذا بها إغرقت بالدماء
وقبل أن يستوعب ما حدث سقط على الأرض متخبطاً فى دمائه وسط صرخات
وإستغاثات الناس من حوله .. وأخذ الصوت يتلاشى رويداً رويداً حتى إختفى تماماً
ولم يعُد يسمع شيئاً .. ثم تتابعت الصور على رأس الفتى وكأنها شريط سينمائى ماراً
بكل مراحل عمره القصير .. طفولته كيف كانت سعيده هادئه دافئه وسط أسره محبه
متفاهمه . ولعه الشديد بقرأة لافتات المحال التجاريه فى شارعهم . وتلك اللافته المعدنيه
الزرقاء المغطاه بالغُبار والصدأ بفعل الزمن والإهمال والتى تحمل إسم الشارع وكيف
كانت سعادته عندما تمكن أخيراً من قراءتها وكلما مر عليها ردد الإسم بصوتِ عالى
( شارع الحريه ) . حتى جاء اليوم ليسأل والده ما معنى كلمة حريه يا أبى ؟ . إبتسم
الأب سعيداً بسؤال الصبى وفكر كيف يُبسط له المعنى دون أن يرهق رأسه الصغير
فقال له . الحريه يا بنى هى أن تفعل ما تُريد دون أن تؤذى نفسك أو الآخرين . فرد
الصبى ببرأه وسرعه . وكيف لى ذلك وأمى تمنعنى من اللعب فى الشارع المجاور
وانا لم أؤذى نفسى ولا أتسبب فى أذية أحد . فربط الأب على كتِفه بحنان وعلل ذلك
بأن أمه تخاف عليه لأنه مازال صغيراً وطمأنه قائلاً عندما تكبر وتعى الحياه جيداً
ستكون حراً وتفعل ما تريد ..وهكذا عاش الطفل يستعجل السنين ليكبر ويصير حراً
ويفعل ما يريد. وعندما صار أكبر بسنوات قليله أراد أبيه أن يشعره بأنه أصبح رجلاً
ويخالط الكِبار فكان يصطحبه معه فى العطلات الأسبوعيه التى يلتقى فيها برفاقه
فيجلس معهم مستمعاً منتبهاً لكل ما يقال ودائما ما كانت تردد نفس الكلمات فى الحوار
الدائر بينهم .. فساد النظام , الفقر , المرض , الأًميه , ضياع الشباب فى متاهات
الإدمان . المحسوبيه . تدنى الأجور , والبطاله . فيختزن الحوار فى رأسه دون أن
يسأل . ولكنه أحس من وجوههم بالحزن والإنكسار وقلة الحيله . و عرف فيما
بعد. فقرأ وفهم ورأى .ثم تأكد أن الحياه ليست بسيطه ولا جميله كما كان يراها فى
طفولته . وأنه لن يصبح حراً أبداً وكلما كَبُر قبض القيد على معصمه أكثر فأكثر
وأخذ يبحث عن المكان الذى يلقى فيه بهمومه ويرفع صوت غضبه . فوجدهم
هم مثله وهو واحدا منهم . فكان الإتفاق ومشاركة الألم والتوحد ثم التنسيق وإتخاذ
القرار بالنزول إلى الميدان .. لم يستمع لتوسلات أمه أو يرى دموعها . أما والده
فكان حائراً ما بين الخوف على ولده وبين فخره برجولته المبكره . ولم يقل سوى
جمله واحده .. تمهل بنى فالأمر جد خطير . فرد الفتى بإصرار دعنى أبى ولا
تحاول أن تنتزع منى اليوم ما غرسته فى نفسى سنينا .
وغزت المسيره الميدان هادئه منظمه مسالمه لقلوب بيضاء طاهره لا ترجو إلا
الإستجابه لمطالبهم البسيطه والمشروعه لحياه أفضل ومستقبل آمن وعيش كريم
أما الأيدى فتحمل زهوراً نديه كأعمارهم . حتى هذا اليوم وتلك اللحظه
هنا توقف الشريط وصعدت الروح إلى بارئها حيث السلام والحريه ثم الحريه
-------------------------------------
تقبلوا تحياتى ودمتم بخير .. فاطمه