جلس صاحب البستان على جذع الشجرة المبتورة و أخذ يتمتم بحمد الله الذي أحيا هذا البستان بعد أن كاد أن يموت ..
كان يغالب حزناً شديداً بداخله و هو ينظر إلى شجرته الحبيبة التي قطعها بيديه وسحلها إلى ذلك الركن البعيد من البستان .. ذهب اليها بخطوات متثاقلة..يمشي على استحياء .. ماذا عساه يقول لها اليوم وقد تيبست أغصانها وجفت أوراقها وتلاشى عبيرها .. ماذا عساه يقول لها اليوم وقد اعتاد أن يتغزل في طراوة هاتيك الأغصان و فتنة ألوان أوراقها و طغيان عبيرها ...
توقف أمامها وأخذته الذاكرة إلى ذلك اليوم الذي رآها فيه شتلة صغيرة وافتتن بجمالها و برقة عطرها فصمم أن يشتريها .. قال له صاحب المشتل "هذه شجرةٌ لا تقبل الشريك"... أخذها وهو بها فرحان ..وزرعها في وسط البستان كي تنعم بالضوء والهواء .
أولاها جُل اهتمامه ورعايته وهي تكبر شيئاً فشيئاً ووتتزايد أغصانها وتتلون أوراقها ويزداد جمالها .. سحرته فلم يعد يرى في البستان سواها وعمي بصره عن رؤية باقي أشجاره وهي تذبل يوماً بعد يوم لولا أن نبهه لذلك أحد الأصدقاء
أتي المهندس الزراعي ليرى ما أصاب الأشجار بالبستان .. وما إن رأى الشجرة الفاتنة حتى أدرك السر : " يا سيدي العيب ليس بالأشجار ولا بالتربة ولا بالهواء وإلا لما كانت هذه الشجرة صحيحة طرية دون سواها "
تساءل صاحب البستان في وجل: " أين المشكلة إذن ؟"
" المشكلة في هذه الشجرة"
" كيف بالله عليك"
" هذا نوعٌ من الأشجار يضرب بجذوره المتشعبة عميقاً في التربة و ويستحوذ على معظم مائها وغذائها كي يعطينا هذا الشكل البديع الذي نراه "
" وما الحل بربك ؟"
"عليك أن تختار بين هذه الشجرة وبين باقي الأشجار. .. لو بقيت هذه الشجرة لا تطمع في أي محصولٍ لفاكهتك هذا العام ."
" ألا نستطيع أن نزيد مرات الري ونزود التربة بالسماد؟"
" لا مجال لهذا .. فسوف تزداد شجرتك هذه حسناً، ولن تتحسن حالة باقي الأشجار.. عليك أنت الاختيار "
وقف صاحب البستان في ظل شجرته وأخذ يناجيها: " أنت واحتي وراحتي وبهجتي.. وجدت في ظلالك وطني بعد غربتي.. لو كان الأمر لي وحدي لاكتفيت بك .. ولكن ما ذنب باقي الأشجار؟ أحبهم أيضاً .. وفيهم رزقي ومعاشي .. " أرخت الشجرة الحسناء أغصانها ولامست وجهه في دلال وكأنها تقول له :" ألست أنا قوت قلبك وروح روحك؟ " ابتعد عنها قليلاً .. ثم ابتعد.. وابتعد .. نظر إليها من بعيد ..ثم نظر إلى باقي الأشجار .. في النظرة الأولى رأى راحة نفسه و في الثانية أحس الجوع .
أحضر البلطة واقترب .. خارت قواه .. نظر إلى الأشجار الذابلة .. استجمع قواه .. ضربها ضربة واحدة .. كاد قلبه ينخلع .. ضربها ثانية وثالثة ورابعة .. ضرب وضرب حتى وقعت .. أحس قلبه قد وقع بجوارها.
ومن يومها وأشجاره تتعافى . وفاكهته تنضج .. ويأكل ويشبع .. ولكنه لا يقنع .. ففي نفسه حاجةٌ لا يجد ما يسدها.. إلا الصبر ..