: السيادة للامة، ‎والامة مصدر السلطات، ‎هما نظريتان غربيتان من نظريات النظام الديمقراطي وقد وجدتا في اوروبا بعد الصراع الدامي الذي اجتاح اوروبا في القرون الوسطى واستمر عدة قرون .‎وذلك ان اوروبا كان يحكمها ملوك وكانت تتحكم في اوروبا نظرية الحق الالهي، وهي ان للملك حقا الهيا على الشعب، فالملك بيده التشريع والسلطان والقضاء فهو الدولة، والشعب هو رعية للملك فلا حق له لا في التشريع ولا في السلطة ولا في القضاء ولا في اي شيء فهو بمقام العبد، فالناس عبيد لا رأي لهم ولا ارادة لهم وانما عليهم التنفيذ وعليهم الطاعة . وقد استبد هؤلاء الملوك بالشعوب ايما استبداد، فضج الناس في كل مكان وقامت الثورات بين الشعوب، ولكن الملوك كانوا يخمدونها اما بايجاد ثورات مضادة تقضي عليها كما حصل في انجلترا حين اوجد ملوك انجلترا ثورة كرمول التي قضت على الثورة الانجليزية وتبنت مطالب اصلاحية وانقذت انجلترا من الثورة، واما بتحالف الملوك مع بعضهم لمحاربة الشعوب الثائرة ونصرة بعضهم كما حصل في الحلف المقدس، واما بغير ذلك . الا ان هذه القوة التي كانت تقضي على الثورات كانت تقضي عليها قضاء مؤقتا، لان الثورات لم تكن من العامة والدهماء وانما كانت من الشعب كله ولا سيما العلماء والمفكرين، وصارت الثورات ثورات فكرية ينتج عنها ثورات دموية، وبهذه الاثناء برزت نظريات متعددة للقضاء على نظرية الحق الالهي، فكان من اهم هذه النظريات نظريتي السيادة للامة، والامة مصدر السلطات .
وذلك انه لما كان الملك بحكم الحق الالهي الذي له يملك وحده التشريع، وبحكم الحق الالهي الذي له يملك وحده السلطة بقسميها الحكم والقضاء، وكان الظلم والاستبداد الذي يلحق الامة انما يتمكن منه الملك بما له من حق التشريع وحق السلطة، لذلك لا بد من الغاء الحق الالهي الغاء تاما وجعل التشريع والسلطة للامة، فصار البحث في ان الشعب سيد وليس عبدا وانه هو الذي يختار الحاكم الذي يريد فنشأت نظريتا السيادة للامة، والامة مصدر السلطات ووجد النظام الجمهوري تحقيقا لنظرية الامة مصدر السلطات . اما نظرية السيادة فقد قالوا ان الفرد يملك الارادة ويملك التنفيذ، فاذا سلبت ارادته وصار تسييرها بيد غيره كان عبدا، واذا سير ارادته بنفسه كان سيدا . والشعب يجب ان يسير ارادته بنفسه لانه ليس عبدا للملك بل هو حر، فالشعب هو السيد، وما دام الشعب هو السيد وهو سيد نفسه ولا سيادة لاحد عليه فهو الذي يملك التشريع، وهو الذي يملك التنفيذ، فالعبودية تعني ان يسير بارادة غيره، اي ان غيره هو الذي يسير ارادته، فاذا لم يسير ارادته بنفسه يظل عبدا، فلتحرير الشعب من العبودية لا بد ان يكون له وحده حق تسيير ارادته فيكون له حق ان يشرع الذي يريد وان يلغي ويبطل الشرع الذي يريد ابطاله . وقد شبت نيران الثورات للتحرير اي لابطال الحق الالهي وتحرير الشعوب من عبودية الملوك وهذه الثورات نجحت وازيل الملوك ووضعت نظرية السيادة موضع التطبيق وصار الشعب هو الذي يشرع ثم وجدت المجالس النيابية لتنوب عن الامة بمباشرة السيادة، ولذلك تسمعهم يقولون مجلس النواب سيد نفسه، اي ليس عبدا لانه يمثل الشعب والسيادة للشعب . فنظرية السيادة للامة معناها ان الامة تملك تسيير ارادتها وتملك تنفيذ هذه الارادة .‎تماما كما يملك الحر نفسه او بتعبير اخر كما يملك السيد نفسه، فالسيادة تعنى تسيير الارادة .
ولما كانت السيادة للشعب ويملك تسيير الارادة، ويملك التنفيذ، وكان التشريع بيد الشعب كان لا بد ان يكون التنفيذ كذلك بيد الشعب، فالارادة هي ما يريد المرء ان ينفذه، فيقابلها التشريع، فيكون تسيير الشعب لارادته يعني ان يشرع الشرع الذي يريد، لان معنى ما يريده هو التشريع بعينه اي الشرع الذي يحكمه ويسير بموجبه . وعلى ذلك فان جعل التشريع بيد الشعب وحده لا يكفي، لانه وان جعله سيدا بتسيير ارادته ولكن بحكم ان له تنفيذ ما يريد كان لا بد ان تكون السلطة بيده، لانها هي التي تنفذ، الا ان الشعب اذا استطاع ان يباشر السيادة بايجاد وكلاء عنه لمباشرة التشريع فانه لا يستطيع ان يباشر السلطة بنفسه لتعذر انتخاب وكلاء عنه لمباشرة السلطة، لان ذلك يؤدي الى حكم الغوغاء، لذلك كان لا بد ان ينيب عنه من يباشر السلطة بنفسه، فوكل امر التنفيذ لغير الشعب، على ان يقوم الشعب بانابته عنه، فيكون بمثابة عبد للشعب، يملك التنفيذ بارادة الشعب، كما يملك العبد التنفيذ بارادة سيده، فوجدت من ذلك نظرية الامة مصدر السلطات، اي الامة هي التي تنيب الحاكم عنها ليحكم باسمها، سواء كان منفذا او قاضيا، فكلاهما حاكم عندهم وكل منهما سلطة . ومعنى كونها مصدر السلطات، اي انها هي التي تنيب عنها من يتولى السلطة فيها اي من يتولى التنفيذ .
والفرق بين السيادة والسلطة، هو ان السيادة تشمل الارادة والتفيذ اي تشمل تسييرالارادة وتشمل القيام بالتنفيذ بخلاف السلطة فانها خاصة بالتنفيذ ولا تشمل الارادة . ولما كانت الامة تستطيع مباشرة تسيير الارادة، اي تستطيع التشريع فانها تباشره بنفسها بواسطة نواب عنها، ‎ولذلك كان التشريع للامة، ومن هنا لا يقال ان الامة مصدر التشريع، بل يقال ان التشريع للامة لانها هي التي تباشره بنفسها . اما السلطة فان الامة لا تستطيع مباشرتها بنفسها لتعذر ذلك عمليا، لذلك كان لا بد ان تنيب عنها من يتولاها اي ان تعطي التنفيذ لغيرها ليباشره نيابة عنها حسب ارادتها، ومن هنا لم تكن السلطة للامة كما هي الحال في التشريع بل السلطة يباشرها غير الامة بتفويض منها وانابة عنها، فكانت هي المصدر للسلطة، اي هي التي تعطي السلطة لمن تنيبه عنها، تماما كما ينيب السيد عبده لينفذ ما يريد منه تنفيذه حسب ارادته، وكذلك الحاكم بما فيه القاضي فانه نائب عن الامة ومفوض عنها بمباشرة السلطة، وذلك حسب ارادتها، اي حسب ما تشرعه هي من قوانين وانظمة .
فالامة تملك السيادة، ولكنها لا تباشرها جميعها، بل تباشر الارادة اي تباشر التشريع، لانها تستطيع ذلك بواسطة نوابها، ولا تباشر التنفيذ اي لا تباشر السلطات لانها لا تستطيع ذلك لتعذر قيامها به، فتنيب عنها من تراه لمباشرتها حسب ارادتها، فتكون هي مصدر السلطات، اي المصدر للسلطات وليس المباشر لها والقائم بها . وهذا الواقع للامة في الغرب من حيث كونها سيدة نفسها يخالف واقع الامة الاسلامية، فالامة الاسلامية مأمورة بتسيير جميع اعمالها باحكام الشرع، فالمسلم عبد الله، فهو لا يسير ارادته، ولا ينفذ ما يريد، وانما تسير ارادته باوامر الله ونواهيه، ولكنه هو المنفذ، ولذلك فالسيادة ليست للامة وانما هي للشرع، اما التنفيذ فهو الذي للامة، ولذلك كان السلطان للامة، ولما كانت الامة لا تستطيع مباشرة السلطان بنفسها، لذلك فانه لا بد لها ان تنيب عنها من يباشره، وجاء الشرع وعين كيفية مباشرتها له بالبيعة ونظام الخلافة . فكان السلطان للامة تختار برضاها من يباشرها عنها، ولكن حسب احكام الشرع، اي ليس بحسب ارادتها بل حسب شرع الله، ومن هنا كانت السيادة للشرع وكان السلطان للامة .