الخائن الصغير!
فراسُ ، ذلك الفتى الذي يبلغُ عمرُه نحوا من أربعِ عشرةَ سنة..أو قاربها. يسير الآن مع والدته نحو السَّجن الذي يقبعُ فيهِ أبوه ..و ما زال الأثر النفسي للكدمات التي تلقاها من رفاقهِ قبل أكثر من شهر..رغم أن الآثار على وجهه قد اختفت تماما..إلا أن ذكرى ذلك الحدث مافتئت تخالج الخيال و الوجدان والنفس ..كانت الحافلة التي أقلتهما تلك المسافة البعيدة..قادمة من البلدة التي يقطنان فيها..وهي بلدة من ضواحي القدس.
تقدَّم فارسُ وأمُّهُ إلى نقطة التفتيش التابعة لقوات الاحتلال ، والمقامة أمام السجن الكبير ، وبعد أن تم تفتيشهما أبرزت أمُّ فراس تصريح الدُّخول والهويتينِ الشَّخصيتينِ لكليهما..فكانت تتصرف في ذلك كمن خبر الأمر في تلك الزيارات.. وسُمح لهما بالمرور بعد تفتيشٍٍ جسمانيٍ دقيق.
سارا في دهليز لا يتعدّى عرضهُ مترين.. سارا في دهليزٍ طويل طُلِيت جدرانهُ بدهانٍ أزرقَ قاتم، يبعث الرهبة في الظلمة قبل أن يبعث الرهبة في ظلام الاحتلال.
دهليز يذرعه جنود الاحتلال و جنديّاتُه جيئةً وذهابا... يا إلهي كيف هذا يحتمل، كيف يحتمل أبي البقاء في هذا المكان الكئيب.
تذكّر الألم..تذكر الكدمات التي مافتئت توقظُ نفسَهُ كلَّما نسي، وما له لا يتذكرُ الآن
وهو في موقفٍ لا يُحسدُ عليهِ. إنّه ذاهب إلى والدٍ يجدِّفُ في بحرِ آلام لا ينتهي عنده شاطىءٌ آمنٌ..إنه ذاهبٌ يحدوه الكبرياء للقاء بطل..إنه أبوه.
وتذكر آلام الكدمات ..تلك الكدمات التي ما كان أقساها على النفس والجسم عند حدوثها..وما أعذبها على النفس عند ساعات المساء... ولولا العم أبو شديد القصّاب، الذى ترك ساطوره الذي يُقطِّع به اللحم و العظم، كما يقطِّعُ الطفلُ قطعة الورق، لولا أن ترك َ الزبائن الذين اكتظَّ بهم المحلُ لكان قضى أو قارب على يدي أقرانه في المدرسة والحارة الَّتي يقطنُ فيها بعد أن وصموه بالخيانةعندما لم يصاحبهم في الخروج للمظاهرة. قالوا: يا عميل ..قالوا: يا خائن الوطن ..وقالوا: يا ابن الخائن... وقد سمع هتافهم أبو شديد، فهاله ماسمع، وكأنّ أفعى لدغته، فانقضَّ عليهم كأسدٍ هصورٍ تهاوى على قطيع غزلان..فتناول أقربهم إليهِ بيدٍ تتصلُ بساعدٍ مفتولٍ وقذفهُ خلفهُ دون أن يلتفتَ إليهِ وقد رضَّه بالأرضِ رضّا،فقام يزحف في سرعة على ركبتيه حتى وجد منفذا من بين أرجل الناسِ الَّذين تحلَّقوا حول ساحة المعركة.
ثمّ في ثوانٍ خمسٍ انهال على معظمهم وكانوا ثلاثة أو أربعة، لكما ولطماً، وفرَّ الباقون النّجاةَ..النّجاة، تحملهم سبابه وشتائمه، ولسان حالهم يقول" انجُ سعد فقد هلك سعيد".
وأطلق أبو شديد، بعد أن أرغى وأزبدِ جرعة أخرى من السباب والشتائم، لأنَّ ذراعهُ لم تطل الباقين، و بعد أن هدأ جامُ غضبه قال: كلاب..أولاد كلابْ..أبوه خائن ..أينَ أبوه..يا أولاد ال..! أين آباؤكم! ..
أين ينام أبوهُ الآن ..بينا آباؤكم في أحضان نسائهم يغطّون..!
واستدار أبو شديد صوب الملحمة وقد رفع يديه إلى السَّماء وقال " اللهمّ لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا" ثم َّ شقَّ صف الزبائن، و تسنّم موقعه خلف طاولة الجِزارة، وقد حمل سيفَهُ ، وشرع لنفث غضبه في تقطيع الخرافِ وسلخ العجولِ بين صمت بعض الزبائن ، وإطراء زبائن آخرين على نخوة أبي شديد.ثمَّ توقَّف فجأة وتنهَّد تنهيدة طويلة ثمَّ قال : والله لأُسمِعنَّ آباءهم كلاماً لاذعاً يستحقونه.. واللهِ لأَرينَّ آباءَهم اليومْ من هو الخائن العميل!!
وفي المساء قبيل الغروب، طرق أبوشديد بيت أبي فراس، يصطحبُهُ ثلةُ الأشقياء التي اجتمعت على فراس في الطريق إلى المظاهرة.. فتح فراسٌ الباب، ذُهلَ من رؤية الواقفين ببابه.. تلاقت العيون...
طأطأالأ شقياءرؤوسهم..قال أبو شديد: نحن ضيوف..جئنا نشرب عندكم كأس شاي..هل تقبلنا؟!
قال فراس: نعم يا عم..أهلا وسهلا ..تفضلوا!
...
سار فارسٌ وأمُّهُ حتى وصلا نهاية الدهليز ..وظنَّ أنَّ الرحلة شارفت أو قاربت نهايتها..إ ّلا أنَّ والدتهُ أخبرته : يا بني ..بقي أن نجوزَ هذا الدهليز الآخر ..حيث عند نهايته السجن فترى أباك!
كان الدهليز الثاني يعامد الدِّهليز الأول و يكمل الطريق حيث فراسُ ينازعه في الطريق الشوق لرؤية والده، الذي لم يرهُ مذ كان عمره سنتين، وعواطفُ ملؤها شجون وآلام..كيف لطفلٍ عمره سنتان أن يحدد معالم صورة واضحة لوالده..هو رجلٌ ككل الرجال..وإلا فكيف يكون؟!
.....
وبعد المعركة عادت أمُّ فراس، وكانت في جولةفي سوق المدينة، ومرّت بدكان أبي شديد..أعلمها ما كان من أمر الصِّبية السفهاء مع ابنها فهرعت إلى البيت وقلبها يسابق قدميها ..وما هدأ لهيبها حتى دلفت المنزل واستقرت عيناها على فراس الجالس خلف طاولة الدراسة الصغيرة...وعيناه تسمرّتا في الحائط لا تزوغان..سلّمت فلم يرد السلام!
اقتربت منه..سألته"أي بني..مالك؟" لم يجب..كررت السؤال مرة ..ومرة..ولم يجب..
فالت: أخبرني أبوشديد ما كان من أمر أصحابك..رمشت عينه مرة..فاسترسلت:
لقد كذبت عليك عندما قلت لك أنّ أباك سافر إلى البرازيل للعمل..والله إنّ أباك لمن أشرف الرجال...بكت ...رمشت عيناه مرة ومرة..لكنه لم يتكلم...ثمّ كفكفت وقالت:
ما ضمّ السجنُ أباك لإنه قاتلٌ أو لأنه ارتكب جرما مُـخلا بالشرف...لكنه طعن جنديا إسرائيليا..كان يحرس الجرافة التي جاءت لهدم الغرفة الإضافية التي بناها لتكون لك عندما تصبح فتى يافعا..تدرس فيها وتستقبل فيهاأقرانك..فجاء قرار المحكمة العليا أن البناء غير مرخص...فكان أمر الهدم..ورغم أن الجندي لم يمت فقد حُكم أبوك خمس عشرة سنة..وما منعي لك الاشتراك في المظاهرات..إلا خوفي أن أفقدك...كما فقدت أباك..فأنت النور الذي أبدد به ظلمة الطريق...واعلم أنّ أبوك كان يحبك..واعلم أنّه الآن في السجن لشديد الشوق لكي يراك!
فانتفض من كرسيه واستدار إلى والدته...تلاقت عيناهما..تعانقا..وانفرط من عينيهما عقدان من الدموع...وانخرطا في البكاء..