ظاهرة ثقافية لابد من التوقف عندها مَلياً، ولا مانع من أن تسْتغرق من جهدنا عدة مقالات، نعيد من خلالها كتابة تاريخ بعض الرموز التى سُرقت من المعسكر الإسلامى وأُلْحقت بغيره، بدهاء ودَأب علمانى من جهة، وخفة ولا مبالاة وكسل وجمود من أصحاب الشأن فى مراكز ودور التوجيه والاستقطاب الثقافى فى الحركة الإسلامية بمصر من جهة أخرى. هى مسئولية الإسلاميين فى المقام الأول، ولذا نبدأ بهذا النموذج الإسلامى الصارخ الذى قابل جُحوداً إسلامياً صارخاً فى حياته ومماته، والذى اشتغل عليه اليسار المصرى جيداً، فصارَ واجهة ورمزاً ربما لو فقده اليسار وسقط من أدبياتهم وتاريخهم لفقدوا الجانب المشرق والصادق والنظيف فى مسيرتهم التى أصابها الكثير من العطب وتلوثت بالكثير من الانفصامية والتلون والكذب. لا يتعجلن الواحدُ منا ويُصدرُ حكماً بعدم أحقية اليساريين بهذا الرمز الإسلامى الإبداعى النقى؛ لأن المعسكر الإسلامى كان قد طرده من حظيرته الثقافية، وتركه فى العَراء بلا مأوى، فاحتضنه الآخرون واحتووه بوَعْيهم العميق بأهمية الفن والإبداع فى مسيرة الأيديولوجيا. وكانت هذه هى المحطة الأعنف والأعمق تأثيراً فى حياة المبدع والملحن والمطرب الأكثر شهرة فى تاريخ ومسيرة النضال السياسى المصرى. بالطبع كان المعسكر الإسلامى الأكثر صدقية وتضحية فى مسيرة النضال السياسى هو الأولى بهذا الصوت الصادق المناضل الجَسور، والشيخ إمام يبدو فى المعسكر الآخر غريباً عليه، ويبدو كأنه يقوم بكل الأدوار؛ فهو المغنى وهو المجاهد وهو الأسير وهو النموذج الحى فى انسجام الفكر المناصر للفقراء والمستضعفين مع التطبيق؛ فنادراً ما تعثر على مناضل يسارى سياسى مصرى ضحى واضطهد وكان نموذجاً تطبيقياً، كلهم كانوا مجرد حناجر نشاز، أما الشيخ إمام فحنجرته الوحيدة هى الشجية وصوته الوحيد هو الصادق. يبدو الأمرُ واضحاً جداً فى هذه المرحلة المبكرة من حياة الشيخ إمام رحمه الله؛ فما عليك فقط إلا أن تقارن بين تعامل الرمز الإسلامى الأبوى والروحى ويمثله هنا الأب محمد أحمد عيسى الذى هيأ ابنه لأمر ومهمة فى حياته فعليه أن ينجزها، وكان بالغ القسوة معه لتحقيق هذا الهدف؛ فبعد أن طردته الجمعية "الإسلامية" جاء مسرعاً وبحث عن الابن ليجده فى مسجد الحسين، وبدلاً من مواساته والتخفيف عنه وهو الفتى الضرير الطريد، أهانه وضربه وحرمه من العودة للقرية للأبد وحرمه من حضور جنازة أعز إنسان لديه وهى أمه. هناك فى المقابل احتواء وأريحية وكرم الشيخ وهبة العلوانى، ذلك الشيخ الصوفى المُحب والداعم للموهوبين، والذى منح الشيخ إمام شقة ببيته رقم 2 بحارة خوش قدم - قدم السعد – عندما اكتشف أنه أمام موهبة فنية حقيقية. وفى مقابل طرد الجمعية الشرعية له بعد ضبطه متلبساً بجرم الاستماع لسورة مريم بصوت الشيخ محمد رفعت الذى كان يعشقه من خلال راديو مقهى قريب من الجمعية؛ حيث كانوا يحرمون الاستماع للراديو لأنه بدعة حتى لو كان استماعاً للقرآن الكريم!! كان هناك احتواء وعطاء إبداعى وحداثى سخى من أحد رموز الموسيقى فى مصر والعالم العربى الشيخ درويش الحريرى الذى تبنى إمام وآواه وعلمه وصقل موهبته. هى مفارقة مُؤلمة لا شك؛ حيث الجمود والجحود والقسوة وطرد المُبدعين والموهوبين من جانب، وهناك الحَفاوة البالغة والحرص على الموهبة ومراقبتها والعمل على تطويرها وتنميتها فى الجانب الآخر. بالطبع كان لهذه الصدمات المبكرة أثرها الكبير فى بناء التصورات وتبنى القناعات التى أثرت على قرارات الشيخ إمام ومواقفه المصيرية فيما بعد. لكن بالرغم من ذلك كله لم يتزحزح الشيخ إمام من المعسكر الإسلامى بروحه قيد أنملة بالرغم من طرد جسده النحيل منه! نعم تبناه اليسار فنياً فيما بعد، إلا أنه ظل مُقاوماً ومناضلاً إسلامياً من الطراز الفريد، فكراً وروحاً وتطبيقاً، بالرغم من المحاولات الشرسة لتشويهه وتلويث سمعته والعبث بمسيرة حياته ليظهر يسارياً قلباً وقالباً، إلا أن التاريخ والواقع والإنتاج الفنى يشهدون بغير ذلك. وللحديث بقية إن شاء الله.