يداكَ أوكتا وفوكَ نفخ!
بعد أن تأنقتْ فارتدتْ أحسنَ ما لديها؛ صففتْ شعرَها بالسشوارِ والمُشطِ..ثم قليلا من العطرِ والرتوش..حتى إذا رضيتْ عن شكلها تماماَ..خرجت مسرعةً وانطلقت بسيارتها تخطفُ الشارعَ خطفا، حتى وصلت الشركةَ، دلفتْ اليابَ الزجاجيَّ حتّى وجدتْ نفسَها في بهوٌ فسيحٍ في الطابقِ الأرضيِّ الذي ضمّختهُ برودةُ المكيِّفِ المركزيِّ. أضاءتْ المكانَ مصابيحُ النيونَ البيضاءِ، فوقعت عينُها على مكتبٍ في الواجهةِ فأعجبها ووقعتْ في نفسِها مكانتُه وهيبتُهُ. هرعتْ إليه وحيَّت الموظَّفَ المتأنقَ الجالسَ إلى مكتبهِ في الصدارةِ تحيةَ الصَّباحِ، فقام محيياً لها ومرحباً... وأشارَ لها بالجلوسِ على الكرسيِّ قبالتَه...ضغطَ الجرسَ..فجاء عاملُ الضيافة..قال الموظف:
ماذا تشربين؟شاياً..قهوةً ...بارداً
قالت: قهوةً بلا سكرٍ..
قال الموظفُ: هل من خدمةٍ أستطيعُ أن أقدمَها لكِ؟
قالتْ متلهفةً : أريدُ مديرَ الشركةِ؟
فأجابها على الفورِ وبدونِ أيِّ ترددٍ: أنا يا عزيزتي مديرُ الشركةِ..
ففوجئتْ وقالت: أريدُ مديرَ الشركةِ مرادا!
قال: لبسَ عندنا مديرٌ بهذا الإسمِ...آه تقصدينَ الجابي مراد...سامحهُ الله ..ثمّ قال هامساُ: هذا الخبيث لا يكفُّ عنِ الكذبِ ..ثمَّ تساءلَ: أقالَ لك أنهُ هو المديرُ؟!
قالت مستغربةً:أوليسَ هو المديرَ!
قالَ وقد شبكَ أصابعَهُ واتَّكأ بمرفقيهِ على الطاولةِ ذات اللوحِ الزجاجيِِّ الباردِ..
قال: يا عزيزتي أنا المدير..ليس مراد إلا جابياً...يجمعُ مستحقاتِ الشركة من الشركاتِ الأخرى والعملاء..على كل حال هو سيحضر بعد ثلاث ساعات ...إن أحببت الانتظار هنا أو في البهو الخارجي فأهلا وسهلا!
حضرت القهوةُ فقدمها العامل لها وفنجانا آخرَ للمدير..رشف رشفةً وقال: إذا أحببتِ ان أجدَ لك عملاً في شركتي فلن أقصِّرَ..أنت جميلةٌ ..وشخصيتُك جذابةٌ ..ونحن دائماً بحاجةٍ لعنصرٍ نسائيٍّ لأنهنَ الأنجحُ في استقطابِ الزبائنِ والعملاءِ..
أعجبَها أطراؤهُ فأطرقت بابتسامةٍ...وتمنت لو أنَّها التقت هذا المديرَ في الملهى ولم تلتقِ ذاكَ المرادَ..وآنسها طمعُ البديل.
واستطرد:لكن هل لي أن أسالَ من أينَ تعرفتِ على مرادٍ هذا..؟
قالت: كنتُ أعمل نادلةً في ملهى ..وعرضَ علي العملَ...لأن أكونَ سكرتيرتهُ في الشركة!
تمتمَ قائلاً في نفسِه: "ابنُ الفاعلةِ ...إذن هو يسعى للوقيعةِ بي...واللهِ لأعلمنَّهُ درساً لن ينساه!"
شربتْ نصفَ فنجانِ القهوةِ... علا وجهُها عرقٌ باردٌ ..ثم اعتذرتْ و غادرتْ مسرعةٌ وهي تنفخُ بفيها، وتلعن في قرارةِ نفسِها..ونفرت دمعتانِ من عينيها، فاحتواها الشّارعُ ويممتُ شطرَ شقتِها.. ولم يُهدىء شيءٌ ثورتَها إلى أن استبقتِ البابَ، دخلت وردَّتهُ خلفَها بقوةٍ...نظرتْ إلى صورتِها في المرآة...فإذا هي أقبحُ ما تكونُ. ذلك أن العرقَ مزجَ الألوانَ..والدموعَ التي خطَّت الخدودَ فشوهتَها..فأجهشتْ بالبكاء ِوألقتْ بنفسها إلى السَّريرِ نادبةً حظّها السَّيء العاثرَ..وعمرٌ يكبرُ في الخفاء !
و في الطّابقِ العلويِّ من الشَّركةِ، كان السيدُ مرادُ ينتظر قدومَ السكرتيرةِ الجديدةِ على أحرِّ من الجمرِ ...يُحدِّثٌ نفسه: آهٍ..آهٍ..كي أتخلّص من هذا الأفّاكِ الذي يخلِطُ الجدَّ بالهزلِ ..ولأجمِّلنَّ شكلَ الشركةِ بالجنسِ اللَّطيف. مكثَ بعيداً،إلا أنّها لم تحضرْ في الموعدِ المضروبِ...فلمّا آيسَ وعيلَ صبرُه..التقطَ الهاتفَ الخليويَّ..وحاول الاتِّصال بها مراتٍ ومراتٍ..فيفصل الخطُّ ويفصلُ.. ولم يُفلح!...حتّى إذا انتهى به القرارُ إلى أن يرسلَ لها رسالةً،
قالت الرسالةُ التي نحملُ العتابَ والودَّ: لماذا لم تحضري إلى الشَّركةِ...فقد انتظرتُك طَويلا؟!
ردَّتْ عليه سريعاً برسالةٍ تقولُ:
"يا سافلُ ...يا واطي...لقد حضرتُ إلى الشَّركة ...فأعلموني أنَّك لستَ المديرُ!
فما أنتَ إلا جابٍ..وهذا عليكَ كثيرٌ!"..وأغلقتِ الهاتفَ، فأرغى وأزبدَ، ولما هدأتْ ثورتُه، ردَّ عليها مرادُ برسالةٍ مطولَّةً...وتوسَّلّ إليها كي تفتحَ الخليوي ففعلتْ..واستمعتْ إليهِ طَويلا..
استقبلها المديرُ بنفسهِ ببابِ الشركةِ في اليوم التّالي، فاعتذرَ لها وأخذَ بيدِها إلى حيث المكتبُ الأول.. والموظفُ المتأنقُ في صدارتِهِ ..فأشارت إليهِ...فدخلا، فألفى الموظفُ سيِّدَهُ لدى البابِ تُرافقُهُ ..قالَ المديرُ: من هو مديرُ الشَّركةِ يا كلبُ!
قالَ المتأنِّقُ: أنتَ طبعاً يا سيِّدي!!
المديرُ: ماهي وظيفتُك يا ابنَ الكلبِ!
الموظفُ: سكرتيرُ حضرتِك ياسيِدي!
لم تُصدِّقْ الآنسةُ أذنَيْها...كما إنَّها لم تُصدقْ عينَيها وقد هرعَ المدير إلى منفضةِ السّجائرِ الموجودةِ على الخُوان..فاحتمَلَها وألقى بها صوبَ رأسِ الموظَّف بقوةٍ من عزِمه وكرشِهِ، فانفتلَ الموظفُ الشّابُ الأنيقُ الرَّشيقُ حولَ طاولةِ المكتبِ، فأخطأتهُ، وكادتْ أن تصيبَ فارتطمتْ بالجدارِ..وانزلقتْ قدمُ المديرِ...فهوى فالتقى حرفُ الخوانِ رأسَهُ فشُجَّ...فاستعادَ واقفاً جسمَهُ، واستدركَ الموظَّفُ الهاربُ لاحقاً...واجتمعَ الموظفونَ في الشَّركةِ والنّاسِ في الخارجِ يستطلعونَ الأمر...فانسلَّتْ من بينِهم بهدوءٍ حتَّى لا ينالهَا من الواقعةِ حديثُ سوءٍ أو رميٌ للمحصناتْ
طارَ هارباً من الشَّركة..سارتْ خلفَه تحثُ الخطى مُستعجلةً...حتّى إذا التقيا على بُعدٍ..تلاقتْ عيناهُما...شيءٌ من العتابِ...وقليلٌ من الاعتذارِ..وشيءٌ من الإعجابِ..فابتسمتْ وابتسمَ ..وضحكِتْ وضحكَ..تشابكتْ يداهُما ...وسارا يبحثانِ عن عمل!