خواطر لغوية
”هي خاطرة لغوية أقيِّدها ها هنا، وأدعو الباحثين اللغويين المهتمِّين بهذا الفرع من الدراسات اللغوية أن ينظروا فيها، فما كان من خطإٍ منِّي أو توهُّمٍ فبذنبي وتقصيري، ومن كان من صوابٍ فأدعو الله عز وجلَّ أن يجعلنا فيه من المخلصين“.......
إنَّ اللغة بحرٌ لا ساحلَ له، وما نحنُ إلا كائناتٌ ضئيلةٌ تمرحُ على شاطئها، فإن بلَّلتْ موجةٌ لنا ساقًا؛ تقافزنا كالأطفال فرحين مختالين ظانِّين أنَّنا قادرون عليها.
ومن التهوُّر بمكانٍ مكينٍ أن يُسارعَ أحدٌ بتخطئةِ أسلوبٍ أو تعبيرٍ قبل الدراسة المتأنية والتمحيص المستفيض؛ مُستخدمًا ما وسعه من المعاجم وكتب اللغة والشعر والأدب؛ على اختلاف طروحاتها، وتنوُّعِ مجالاتها.
وفي عصر الإعلام المفتوح شهدتْ اللغةُ تطوُّرًا هائلًا ربَّما يعادل -أو يكاد- ما شهدته منذ عصر الوحي إلى خمسين سنة مرَّت. والتطور اللغوي له أبعادٌ متعددة؛ منها ما يصيب الألفاظ: كالتطور الدلالي، وتوليد الألفاظ، ومنها ما يصيب التراكيب والأساليب: كشيوع أساليب لم تكن شائعة، وكذا توليد أساليب ربَّما تكون غير صحيحةٍ قياسًا.
والاستقراء واحدٌ من أهمِّ الطرق التي يلجأ إليها الباحث للحكم على فصاحة الأساليب، إلا إنِّ المشكلة تكمنُ في صعوبة الاستقراء الكامل لكل نصوص اللغة المسموعة في عصر الاستشهاد، فاللغة لا يُحيط بها إلا نبيٌّ؛ كما هو مأثور عن الإمام الشافعي رحمه الله.
وقد يلجأ بعضُ الباحثين إلى الذوق، والذوق – كذلك - مقياسٌ نسبيٌّ لا يصدق في كل الحالات، ولا يصحُّ اعتماده كَفَيصلٍ في كثير من المسائل.
ولهذا؛ فقد فضَّلتُ أن أُعنونَ لهذه المقالة بعنوان: «خواطر لغوية »إذ إنها ستظلُّ خواطر مجرَّدة قد يوافقني عليها أئمة اللغة المشهود لهم بالتبحُّر والبراعة، وقد يخالفني فيها من هو أكثر مني علمًا وأوسعُ اطِّلاعًا وأعمق تخصُّصًا.
(1)
لم ولن أفعل
أسلوبٌ شائعٌ جدًّا في الكتابة المعاصرة، يُستخدم للدلالة على نفي وقوع الفعل في الزمن الماضي والمستقبل. والمُلاحظُ في هذا التركيب عطف حرف النفي قبل التصريح بالفعل، ويمكننا أن ندَّعيَ أنَّ هذا الأسلوب غير فصيح. وانظر مثلًا إلى قول الله تعالى: (( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا )) ، فقد كرَّر الفعل منفيًّا، ولم يعطف حرفي النفي. وقد يقال: إنَّ القرآن يستخدم التعبير الأفصح، وليس بالضرورة أنَّ التركيب الآخر غير صحيح. وهو اعتراض وجيه لولا أنَّ العلماء خصُّوا الفعل المضارع بدخول حرف النفي (لم ) و(لن)، كما خصُّوا الاسم بدخول حرف الجرِّ. وإنَّك حين تمعن النظر في قولهم: «لم ولن أفعل» تجد أنَّ الحرف (لم) لم يدخل على فعلٍ مضارع، وإنَّما دخل على حرف عطف (الواو) إن جاز تسمية ذلك دخولًا. وقد يقول قائل: إنَّ الفعل مقصودٌ في هذا الموضع وإن لم يُصرَّح به، والجوابُ: أنَّه يلزم السماعُ لتجويز مثل هذا التركيب الذي قد لا يجوز في القياس.
والكلام نفسه يقال في عطف حروف الجر قبل التصريح بالاسم، كما يقول بعضهم على سبيل المثال: «القاموس الناطق يمكنه الترجمة من وإلى العديد من اللغات». فعطف حرفي الجر (من) و (إلى) بالواو ها هنا قبل التصريح بالاسم المجرور يقال فيه ما قيل عن عطف حرفي النفي قبل التصريح بالفعل المنفي.
(2)
عطف المضافين قبل التصريح بالمضاف إليه
وهو أيضًا أسلوب شائع جدًّا في كتابات المعاصرين، ومثال ذلك: «قامت الثورة من أجل عزة وكرامة العرب» وفي تقديري أنَّ هذا خطأ، والصواب: «....من أجل عزة العرب وكرامتهم».
ويؤيد ذلك أنَّ المعطوف يوافق المعطوف عليه تعريفًا وتنكيرًا. ولو دققنا النظر في التركيب المذكور نلاحظ أن المعطوف عليه نكرة، والمعطوف مُعرَّفٌ بالإضافة. وإن كان الأول معلَّقًا على نية الإضافة؛ فهو معرفة للمتحدث ونكرة للسامع. وقد يقال إنَّ الثاني لن يصير معرفة إلا بعد التصريح بالمضاف إليه الذي يعرِّف الأول كما يعرف الثاني. والله أعلم. وعمومًا؛ باستقراء جملة واسعة من النصوص التراثية الفصيحة لم أعثر على مثل هذا التركيب.
(3)
يجب ألا تفعل/ لا يجب أن تفعل
هل يتساوى التعبيران في المعنى؟ الجواب لا. فالأول يُستفاد منه وجب عدم الفعل أو تعطيله، أما الثاني فيستفاد منه نفي وجوب الفعل وليس تعطيل الفعل، فلو قلنا: «يجب ألا تذهب» فهم المخاطَبُ أنَّ الذهاب ممنوع، وهو إشارة لوجوب عدم الذهاب. أما لو قلنا: «لا يجب أن تذهب» فهو نفي لوجوب الذهاب، فآل الأمر إلى التخيير: إن شاء ذهب، وإن لم يشأ لم يذهب. لأن نفي الوجوب لا ينفي بالضرورة الجواز. وقِس على ذلك.
(4)
سوف لن أفعل
يستخدم كثيرٌ من الكُتَّاب هذا الأسلوب (سوف لن أفعل) لنفي الفعل في المستقبل، وأزعم أني لم أقف على هذا التركيب في كلام الفصحاء الأوائل إذ يكفي أن يُقال: (لن أفعل) بدون إدخال (سوف) عليها. فـ (لن) تفيد النفي في المستقبل بنفسها كما هو معلوم، فلا تحتاج إلى (سوف).
(5)
بعضهم البعض
تعبير شائعٌ قولهم: بعضهم البعض، والفصيح المذكور في القرآن، وفي كلام الفصحاء (بعضهم بعضًا)، ومنه قوله تعالى: « ثمَّ يوم القيامة يكفرُ بعضُكم ببعضٍ ويلعنُ بعضُكم بعضًا». والله أعلم.
(6)
يَطاَل
يستخدم هذا الفعل في لغة الصحافة والإعلام وحوارات المثقفين وكتاباتهم بكثرة، ويَنطقونه «يَطَال» بفتح ياء المضارعة والطاء؛ مبنيًّا للفاعل؛ كقولهم: «خطر التلوُّث يَطالُ كثيرًا من المدن» ومثل:«التغيير الذي ننشده يجب أن يَطَال البسطاء». وسبيلُ بحث صحة هذا الفعل تبدأ بافتراض أنَّ الألف واوية، فيكون مثل: نام ينام نومًا... فيلزم البحث عنه في مادة (ط و ل )، أو بافتراض أنّها يائية فيكون مثل: نال ينال نيلًا... ويتجه البحث عنه إلى مادة ( ط ي ل ). والمادة اليائية غير موجودة في المعاجم، فيؤول الأمر إلى المادة الواوية ( ط و ل )، وإنَّك حين تبحث فيها عن ( يطال) لا تجده، وإنما تجد: «يطول» بالواو وليس بالألف. والله أعلم.
(7)
بين معكوفين
يقال: وضعتُ الكلمة بين قوسين معكوفين.. وهو خطأٌ، والصواب: بين معقوفين... والمعقوف هو المنحني والمعوجُّ. والعقفُ: العطف والتلوية. والعقفاءُ من الشياه التي التوى قرناها على أذنيها [لسان العرب: 6/ 365-366]. والله أعلم.
(8)
أفَّاق وأفَّاك
يكثر في كتابات المعاصرين – لا أستثني كثيرًا من الأدباء – أن يعبِّروا بـ(أفَّاق) وهم يعنون (أفَّاك)، فهل التعاقُب بينهما على معنى الإفك والكذب صحيحٌ فصيحٌ؟
بالرجوع إلى أمَّهات معاجم اللغة: العين (5/ 227)، وجمهرة اللغة (2/ 1082، 1092)، وتهذيب اللغة (9/ 258)، والصحاح (4/ 1446) ، ومقاييس اللغة (1/ 114)، والمحكم والمحيط الأعظم (6/ 478)، وأساس البلاغة (1/ 30)، ولسان العرب1/ 173) = نجد أنَّها تواردت على أنَّ الآفِقَ (على فاعل) الذي بلغ الغاية في العلم والكرمِ وغيره من الخير، تقول منه: أفِق؛ بالكسر: يأفَقُ أَفْقًا...
وأفِقَ، كفرِحَ: بَلَغَ النِّهايَةَ في الكَرَمِ، أو في العِلْمِ، أو في الفَصاحَةِ وجميعِ الفَضائِلِ، فهو آفِقٌ وأفِيقٌ، وهي: آفقة.
وأفَقَ يأفِقُ أفقًا: غَلَب يغلِب. وأفَق على أصحابه يأفِق: أفضلَ عليهم... ويُقال: أفَقَه يأفِقُه إذا سبقه في الفضل. وأفَق في العطاء: أي فضَّل بعضًا أكثر من بعض. وأفَقَ فلانٌ إذا ذهب في الأرض.
وفرسٌ آفِقٌ إذا كان رائعًا كريمًا.
وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ مِنْ أُفُقٍ مِنَ الْآفَاقِ أُفُقِيٌّ وَأَفَقِيٌّ....
النَّاحِيَةُ مِنْ نَوَاحِي الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: رَجُلٌ أَفَقِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ، جَاءَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. وَقَدْ قِيلَ أُفُقِيٌّ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَفَقُ الطَّرِيقِ مِنْهَاجُهُ، يُقَالُ: قَعَدْتُ عَلَى أَفَقِ الطَّرِيقِ وَنَهْجِهِ.
وأفَقَ يأفِقٌ: رَكِبَ رأسَه، وذَهَبَ ضاربًا في الآفاقِ.
ثمَّ أضافت المعاجم المعاصرة (ينظر الوسيط ص 21): الأفَّاق: الضاربُ في آفاق الأرض، ومن لا ينتسب إلى وطن.. على أنَّ عدم الانتساب إلى وطنٍ لا يُفهمُ منه أنَّه مذمَّةٌ، بل هو مِدحةٌ ومفخرةٌ يعنون به الرَّحَّالة في الآفاق؛ يُقال: صفَّاقٌ أفَّاقٌ: أي يضرب في آفاق الأرض ونواحيها مُكتسبًا. ولا شكَّ أنَّها مكرمةٌ وليست من الذمِّ في شيءٍ.
المخالفون
وقد انفرد الصاحب ابن عبَّاد (ت 385) في المحيط في اللغة (2/ 4)، فذكر أنَّ أفَقَ بمعنى: كذب، وعبارته: «وأفَقَ الرجُلُ: كَذَبَ. والأفِيقُ والأفيكُ: الكَذِبُ، وقيل: هي الداهِيَةُ الـمُنْكَرَةُ».
وتابعه الفيروز آبادي (ت 817)؛ قال في القاموس المحيط (ص 864): «وأفَقَ يأفِقُ: رَكِبَ رأسَه، وذَهَبَ في الآفاقِ، وأفَقَ في العَطاءِ: أعْطَى بعضًا أكْثَرَ من بعضٍ،وأَفَقَ الأديمَ: دَبَغَهُ إلى أن صارَ أفيقًا، وكذَبَ، وغَلَبَ، وخَتَنَ»
ونقل الزبيدي (ت 1205) في تاج العروس (25/ 15)؛ عن ابن عبَّاد؛ قال: «وأفَقَ: أَي كَذَبَ كأفك؛ عَن ابنِ عَبّادٍ».
وفي عدم وُرودِ هذا المعنى عند أئمة اللغة السابقين لابن عبَّاد ومعاصريه ومن جاءوا بعده؛ من أمثال الخليل والليث وأبي زيد وابن السكيت والأزهري والجوهري وابن فارس والزمخشري وابن منظور... وغيرهم = ما يُستروَحُ به لشذوذِ هذا المعنى الذي ذكره ابن عبَّاد. ولعلَّ السبب في ذلك قربُ مخرج الكاف من القاف، فنطق بعض العوامِّ قاف (أفَّاق) قريبة من الكافِ. على أنَّ هذا المعنى لو صحَّ فلا ريبَ أنَّه غير فصيحٍ.والله أعلم.
وعلى كلٍّ فالمسألة مطروحةٌ ليتباحثها المتخصصون.