الوديعة .. للأديبة آمال المصرى
سَكَنَتْهُ آلامُ الوحدةِ والحِرْمَانِِ .... صَفَعَتْهُ طَعَنَاتُ النَظَرِِِ إلى شَفَاةٍ تَتَمَعَّضُ شَفَقَةً عَلَيْهِ , تُلاحِقُهُ أَيْنَمَا وُجِدَ ...عَوَى الذِئَابُ فِي صَحَرَاءِ حَيَاتِهِ حَتَّى بَاتَتْ مُوحِشَةً جَرْدَاء ..
اِسْتَوْطَنَتْهُ مَرَارَةُ السِنيِِنِ العجَاف مُبَعْثَرَةً دَمْعَاتُهُ تَتَوَسَّلُ الْمُسْتَحِيلَ
قرَعَ أَبْوَابَ الْسَمَاءِ دَاعِيَاً .. رَاجِيَا .. مُتَمَنَّياً .. عَسَىَ اللهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ الْدُّعَاءَ ,
مَرَّغَ وَجْهَهُ فِي سجُودِه بِِظُلُمَاتِ الْلَّيْلِ ... إمْتَلأَتْ نَفْسهُ بِجَوعِ الْحَنِينِ لِلأُبُوَةِ .. غَنَّتْ دُمُوعُهُ بِحَسْرَةِ الْرُؤَى كُلَّمَا حَمَلَ صَغِيرَاً ,
تَسَاءَلَ كَثِيرَاً حَيْثُ الأمَل مُخْتَنِق :
هَلْ لِي أَنْ أَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى ؟
هَلْ سَيَأْتِي يَوْمٌ تَرْتَسِمُ عَلَى وَجْهِي بَسْمَةُ صَافِيَة ؟
وهَلْ مِنْ بزُوغِ فَجْرٍ سَعِيدٍ ؟!
رَمَى بِرَوْحِهِ عَلَى قَارِعَةِ الْبَحْثِ بِأُخْرَى ... وسَانَدَتْهُ لَيَالِي الْبُؤْسِ الَّتِي شَتَّتَتْ وِحْدَتَهُ الَّتِي اعْتَصَرَهَا الْحِرْمَان يَسْتَجْدِي كُلّ منْ حَوْلِهِ يَهُزُّهُ الْشَوْقُ حَنِينَاً ..
تَتَرَاقَََصُ لَهُ الْدُنْيَا فَرَحَاً ... لِيَلْتَقِط مَابَقِيَ مِنْ أَنْفَاسِ الْحَياَةِ ,
يَنْبُت بُرْعُمٌ يَسْقِيِهِ بِفَيْضِ عَيْنَيْهِ لِتًصْبِحَ نَبْتَةً تَعْبِقُ أَجْوَاءَ رَوْحِهِ ...
زَهْرَة جَمِيلَة أنْسَتْه تِلْكَ الْذِكْرَيَاتِ الْمَثْكُولَةِ ,
فَلَفِظَ كُلَ تَرَاكُمَاتِ الْمَاضِي وَعَاشَ الأُبُوَةُ بِكِلِّ مَعَانِيهَا ,
كَانَ يَجْثُو تَحْتَ قَدَمَيْهَا , يَسْتَنْشِقُ أنْفَاسَهَا لِتَمْتَلِئَ نَفْسهُ سَعاَدَةَ وَرَضَاً
خمْسَة عَشْر عَامَا ... تَجَرَعَتْ فِيهَا الْزَوْجَةُ الأُوَلَى مَرَارَةَ الْحِرْمَانِ حَتَّى قَرَّحَ الْدَمْعُ مَآقِيهَا , وألْهَبَتْ سِيَاطُهُ مُتُونَ صَبْرِهَا , تَنْتَظِر أَنْ يَنْبِضَ قَلْبها الَّذِيِ أَهْلَكَهُ الانْتِظَار , حَيْثُ تَرَاكَمَتْ الأَحْزَانُ تَصْرُخُ بِمَرَارَةٍ تُنَغِّصُ أَيَامَهَا ... تُطََارِدُهَا أُمْنِيَاتٍ تَتَمَخَّضُ بِوَجَعِ الْشَوْقِ لِلأمُومَةِ .. تُبَعْثِرُهَا الأَنَّاتِ وتَعُودُ تُلَمْلِمُهَا مَرَّةً أُخْرَى ,
يَالَهَا مِنْ أَحْلاَمٍ لاتَتْعَب ولا تَتَأَوَّه ..
وإِذَا بِشَيْءٍ يُوحِي بِالْحَيَاةِ .!
يَمْتَزِجُ الْحلْمُ بِالْخَيَالِ ... يَتَجَسَدُ .. يُرْوِي عَطَشَ الْسِنِينِ ؛ لِيَسْعِفَها الْقَدَر ويَمُنُّ اللهُ عَلَيْهَا بِيَاسَمِينَةٍ نَدِيَةٍ تَسْتَمِدُّ نُورَ الْوُجُودِ مِنْ نَبَضَاتِهَا ويَجْعَلُ دَوْحَتَهَا غَنَاءً نَضِرَةً .
تَبَاشِيرُ مِيَلادٍ للْثَانِيَةِ تَمْلأُ الْدُنْيَا بِبَسْمَةِ قدُومِ بُرْعُمٍ أخْضَرٍ غَذَّتْهُ قَطَرَاتُ الأمَلِ ( فَارِس )
تَمُرُّ الأَيَّامُ .. تَلِيهَا الْشُهُورُ , وتَمْلأُ أرْكَانَ قَلْبِهِ تَغَارِيدُ كَلِمَةٍ لَطَالَمَا حَلمَ بِهَا سَنَوَاتٍ طوالٍ ( بابا ) ...
كَانَ يَحْمِلُه ... يُهَدْهِدُه ... يَضْحَكُ لِضَحكَاتِهِ ... يَجْزَعُ لِبُكَائِهِ ... كَانَ لَهُ تَاج الْحَيَاةِ
ويَأْتِي الْعِيدُ يَلْبَسُ حُلَّةَ الْفَرَحِ الَّتِي اكْتَمَلَتْ بِهَمْسَةٍ فِي مَسْمَعِ الْفَجْرِ ( لَبَّيْك ) .
الْكُلُ يَتَبَادَلُ الْتَبَارِيك والْتَهَانِي .... فِي سُرُورٍ وفَرَحٍ , تُذْبَحُ الأَضَاحِي ..
تَنُوحُ الْدُنْيَا وهِيَ تَغْتَصِبُ الْفَرْحَةُ , وقَدْ أَيْنَعَ الْعِيدُ حُزْناً , لِيَحْتَضِنَ في حَنَانٍ ... والْدُمُوعُ تَمْلأُ عَيْنَيْهِ . وهُوَ يَحْمِلُ بَيْنَ ذِرَاعَيْهِ مَاعَاشَ يَتَمَنَّاهُ سَنَوَات عُمْرِهِ فِي غُمُوضِ الأقْدَارِ,
يَسْتَرِدُ اللهُ وَدِيَعَتُهُ .. !
لِيَجَدَ نَفْسَهُ بَيْنَ جُدْرَانِ الْحِرْمَانِ مَرَّةً أُخْرَى
رؤية نقدية بقلم / هشام النجار
هى قصة من الحياة تمس أوجاع الانسان وآلام وأحزان الحرمان والفقد ، وهى قصة كبيرة بحجم الانسانية كلها وبروعة اشتياق الانسان الى الولد وقدسية نداءات الأنبياء والرسل ليرزقوا الولد الصالح الذى يواصل أداء الرسالة من بعدهم ، وقصص الانتظار والترقب والفرحة والحرمان والبعد والرغبة والشوق والبر والعقوق والفقد والحزن والرضا منذ ابراهيم الخليل وأبنائه مروراً بيعقوب ويوسف واخوته وحتى محمد أبو القاسم وابراهيم خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
وكان الاختيار ملهماً فى تحديد عيد الأضحى توقيتاً لاسترداد الوديعة التى طال انتظارها وحان استردادها ، وهو عيد يحتفل فيه المسلمون بالتضحية ، وهذا ليس عند أمة الا أمة الاسلام التى تتحول عندها المواجع والفواجع الى مهرجانات من الفرحة ، بما لهذه الاشارة من خلفيات تجعلنا ونحن نشاهد مأساة بطل قصتنا نعاود النظر الى شاشات العرض فى الخلفية حيث يتناول ابراهيم الخليل السكين ليذبح ابنه راضياً مستسلماً لأمر الله برد الوديعة ، ومن نسل اسماعيل كان خاتم الأنبياء الذى اعتلى ذروة التضحية والفداء على طول تاريخ البشرية ، نشاهده صلى الله عليه وسلم وهو يودع أبناءه برضا واستسلام ومحبة عندما أراد الله استرداد الوديعة ، فله سبحانه أن يستردها فى أى وقت شاء ولا مجال للاعتراض أو السخط ، فهذا هو ما أراده وهذا هو ما قدره لأمر يعلمه هو وحده جل شانه .
الله وحده أعلم بمقام الولد الصغير الغض الذى داهمه الموت ولما يتكلم أو يفرح أو يتألم أو يخادع أو يكذب أو يصدق أو يعطى أو يمنع أو يتمتع بحياته ويصول ويجول ويُسمع الدنيا صوته ويُرى الناس مواهبه ويفتخر بقدراته ويترك بصمته على وجه الحياة ، ولا شك أنه حالة خاصة جداً وله مقام خاص به ومكانة بحجم طهره الذى لم يتلوث ونقائه الذى ارتفع قبل أن تطاله بذاءات وسفالات ووساخات وأطماع ودناءات البشرية .
كذلك ، فالله وحده أعلم بمقام أبيه ومكانته التى أتخيلها بحجم الألم الذى يعتصر قلبه وبحجم بشاعة وهول أن يُحرم من أغلى ما لديه وما يمتلكه فى الحياة ، وبروعة صبره وصمته ودموعه ورضائه وتسليمه بقدر الله ، وبغرابة المفارقات الانسانية الفجة العجيبة المدهشة التى تقابله بين الحين والآخر ؛ ما بين مستهتر قد يتلفظ بكلمة خبيثة أمامه لا يعلم مقدار تأثيرها فى نفسه ، ومستظرف مستخف قد يرتكب حماقة أمامه ولو بموقف واشارة غير مباشرة لا يدرى أين وكيف تصيب وتدمى من مشاعره وأحاسيسه .
الأب " والأم أيضاً " والابن الفقيد ، بنفس الروعة والمكانة والمقام ، وبنفس المنزلة وبذات الغموض .
السرد فى هذه القصة عبارة عن صور فنية متلاصقة متتابعة متلاحقة ، نخرج من تصوير فنى لندخل فى الآخر مباشرة دون فواصل بالحكى المعتاد والسرد المرسل ، وظنى أن تلك المقدرة هى ما تميز المبدعة آمال المصرى فى كل ما قرأت لها من قصص ، وهى تحتكر هذا الأسلوب فى السرد بحيث من المتوقع أن يصبح علامة مسجلة باسمها ، لأنها من جهة تلح عليه وتطوره ولا ترضى به بديلاً ، ومن جهة أخرى من الصعب أن ينافسها أحد فى استخدام هذا الأسلوب المعقد المركب الذى يحتاج لقدرات خاصة وصبر عجيب ومواهب تخييلية مضاعفة .
هناك من المبدعين من يكتفون بصورة أو صورتين فنيتين فى النص أو أكثر بقليل ، لكن أن يحتشد النص كله أو غالبيته بالصور بحيث تتحول الصور على يد الأديب من أسلوب فنى داعم الى أسلوب سردى يطغى على كيان النص ، ولا يلتقط المتلقى الحدث والمضمون الا بتذوق الصور المتلاحقة وتفكيكها ، فهذا عجيب ومذهل بالفعل ، كأن الأديب يتلو الأحداث بالصور أو يغنيها للناس بعد تحويلها الى ألحان ، أو كأنه يحلى مرارة الحدث ومأساويته ويرشه بالسكر ليستسيغه القارئ ويتواصل مع مضامينه ورسالته ويظل فى القاعة ليستمع الى المرثية الحزينة المؤلمة حتى النهاية .
هى لا تحكى هنا هكذا " ظل يتألم من الوحدة والحرمان " ، بل هكذا " سكنته آلام الوحدة والحرمان " ، ولا تقول مثلاً " تحولت حياته الى جحيم " ، بل تحكى هكذا " عوى الذئاب فى صحراء حياته حتى بانت موحشة " ، وعلى امتداد خريطة السرد هناك صور لا أول لها ولا آخر ، فنحن لسنا أمام راو عادى يريد أن يحكى للناس القصة والسلام ، انما أمام فنان يريد أن يطرب الناس بفنه ويسمعهم ألحانه الحزينة .