(طفح الكيل ..ومن العبث الاستمرار هكذا ..ولابد أن تدق ساعة الصفر) اختلجت هذه الكلمات في صدر الغلام ذي الأربعة عشر صيفاً وهو يقبض أجرته الأسبوعية عصر الخميس قائلاً بسرعة : شكراً .. عد نقوده وبحركة رشيقة وضعها في جيب بنطلونه الخلفي ملتقطاً حقيبته الجلدية البنية اللون وخرج من الورشة جاداً في مشيته شاداً قبضته على حزام الحقيبة التي بدت اليوم اكثر ثقلا من الأيام السابقة .. هو يعلم حقاً ما بداخلها .. قميص ..بنطلون .. وزوج جواريب .
وبدلاً من أن يتجه جنوباً اتجه شمالاً وسار ببطء خارجاً من المدينة الوحيدة التي يعرف..بعد مشية قصيرة توقف على حافة الطريق السريع ..هناك العديد من السيارات والشاحنات التي يمكن أن يوقفها على خط السياج.
مشهد المغادرة بدأ بقلب كتلٍ متوهجةٍ حمراء متحفزة للهبوط على الأرض لتترك الأشجار عاريةً مرة أخرى وعند اقتراب أول سيارة نصب قامته مادّاً يده اليسرى رافعاً إبهامها إلى الأعلى.
حقيقةً لقد أحب عمله في الورشة ولم يكن _لو كان في ظرف غير هذا _ليتركها أو يؤجل قراره الحاسم بتركها على الأقل حتى يعرفَ صاحبُ الورشة أن الفتى المسكين لم يكن يستطيع كتابة أكثر من اسمه.
تمر السيارات واحدة تلو الأخرى .. وكلما مرت سيارة أرسل إبهامه نفس الإشارة المتوسلة .. لا أحد يكلف نفسه حتى عناء النظر الى جانب الطريق حيث الفتى المسكين.
خوف فجائي بدأ يخفق في صدره عندما لاحت على البعد سيارة BMWلونها .. شكلها.. مواصفاتها تنطبق بالضبط مع سيارة زوج أمه ..وفجأة أخذ يستشعر لسعة ألم في ساقه حيث ترك حزام زوج أمه آثاره في الليلة السابقة .
وكلما اقتربت السيارة زاد رعباً إلا ان هذا الرعب ما لبث ان تلاشى عندما لمح ان وراء مقودها غير الرجل الذي يخاف.
بدأ الظلام يبسط أجنحته مرسلاً تساؤلاتٍ قلقة ًفي روحه .. ماذا لو لم يحالفني الحظ ولم يتوقف لي أحد ؟
هدير بعيد لسيارة حمل (شاحنة) ..أشار لها عندما اقتربت .. وبعدما عبرته سمع صوت فراملها مبشرةً إياه بالتوقف .. هرول إليها لتكون الجسر الفاصل في حياته بين العبودية والحرية.
انتضمت جوارحه وبدا له القمر اكثر إضاءةً .. اللافتات على جانب الطريق لم تكن سوى محطاتٍ تبشره بقرب الوصول من هدفه المجهول وعاد ينظر امامه مسترسلاً في أحلامه غارقا في فرح عميق.