أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: رسائل الموتى / قصة قصيرة

  1. #1
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي رسائل الموتى / قصة قصيرة

    رسائل الموتى

    قبل أن يلتهمه شبق الطريق الممتدّ نحو البحر، ويسدل النهار ستار التلاشي، رمقت عيناه غيمة شاردة في اللااتجاه، خطواته التائهة ارتدت مئزر المجهول، خطوات بعثرها الخوف والحيرة، يرافقها صدى صوت منبعث من انكسار طبقة الملح المغطّية وجه الأرض، الأرض قطعة من ملح عالقة بغفوة أطلال منسيّة، مترعة بالوحشة والغياب، عيناه المكحّلتان بالضباب، الأحلام البائسة، تستحمّ بأمل العثورعلى وحدته العسكرية الجديدة، لا ملاذ يرتجي غير خنادق يسكرالموت فيها، كلّ شيء مفزع، وحده الطريق يرافقه والغيمة الشاردة صوب المجهول، أصوات انفجارات ودوي المدافع ليس بعيداً عن مسمعه، أصوات اختلطت بصفير الرياح الموحشة، صفير يشجيه خوفاً خانقاً كلّما أوغل في تفاصيل الاحتمالات، حفر كثيرة وعميقة منتشرة على امتداد المكان، كأنها بثور تشكّلت فوق خدّ صفعه الطاعون، حفرتها القنابل الآتية من شرق الأرض وغربها، حفرتها آلة الحرب والخراب بلا مبالاة، شقوق الأرض الملتصقة بحافة الطريق، تلوذ بأشلاء متناثرة هنا وهناك، تتشكّل جسداً يشهق بأنين الموتى، يفوح بعطر متخم برائحة الدخان والشواء، يصدح بهتاف بلّله العطش، كان الجسد جندياً معمّداً بالموت، تشكّل من أشلاء شتّى، كان طرفه الأيمن يقبع في جيب بسطال أحمر، أقصر بقليل من طرفه الآخر الذي علّق به حذاء أسود، لوّح له بيدين غير متناسقتين، كلتيهما يمين، يخيل إليه أن الجسد جحافل من رفات، تحمل رأساً ذا عيون كثيرة، قابعة في محاجرها، جسد مخيف لا يشبه إلا ظلّه الزاحف سعياً خلفه، أطلق صوتاً محموماً مختنقاً بالجراح، كان الجندي يرعى براري الملح وخوفه من المجهول قبل أن يدركه الصدى، انتفض فزعاً يحتمي بخطواته المرتعشة بالرعب، الطريق يضيق، أكوام الملح تخبط عينيه، الحفر باتت مغارات تتستّر بقناع الفجيعة، كان الصوت موشّى بتمائم النسيان، تقطر منه دموع أطفأت مسامات الخوف وهشّمت الحجب الخفية، تسفح ما تبقى من سنين العمر المعلّقة على هدب، يحمل عويل المسافات، يعبرالجندي أضلع الخوف، يعانق وجه التساؤلات التي أطلقتها جحافل الرفات، المسافة بينهما ساكنة، اختزلت ضباب الضجيج، كان البوح يرتدي نشيج الشوق إلى أحلام معلّقة في الهواء، أحلام معتّقة بالنسيان، مرتبكة بظلال الدخان المتصاعد من حرائق الحسرات والندم، كانت التساؤلات تنتقل من العيون إلى عيني الجندي خبباً، عيون تلعق وجه الأرض، غائرة في زوايا من حجر، تسلّقت مرايا الموت، تؤطرها أقراص معدنية متدلّية من عنق سلسلة فضية ، موشاة بقطرات دماء جفّفها ملح أديم الأرض، أقراص تبرق بأسماء أصابها الصدأ بعدما أخذ الجسد شكل الماضي، منفصلاً عن ظلّه، تحمله جحافل من الرفات، تمترس ببقايا وطن معلّق برمش ارتجاف الأرض، وطن يبحث عن رأسه،
    - أيّها الجندي، تمهّل، إلى أين؟
    كان الصوت مخنوقاً بوجع الهزيمة:
    - ارتجي دليلاً إلى وحدتي.
    - لاشيء غير الهاوية، بروق الموت تعبث بضفتي النهر.
    - لابدّ من الرحيل أو الموت، أنا مدرك أنّ فرقة الإعدام خلفي، لاخيار لي. - تمهّل، إنّك تسير على سطر من الألغام وسطر من الأجداث، الطريق يتناسل موتى ولم يعد لخطواتك معنى، كلّ الخطوات متشابهة عند شجيرات الحنّاء المتيبسة، وبساتين النخل التي أصابها الظمأ.
    بدأ يتقبل فكرة الانتظار، تسلّل من بين أنامل خوفه طيفاً، يلوّح له عن بعد بكركرات أطفاله، ظلّ عباءة امرأة هدّها القلق، شبح بيت تحمله أنقاض العوز والحرمان، لم يعد مواصلة الطريق أمراً مألوفاً لديه، فربما يحمله الخطو إلى مساءات مسكونة بالأمن، فيغفو كطفل تحت دثار الحكايات. تسوّرته أيدي الرفات بفرح، ألقت إليه حقائب مملؤة بالجراح، أسمالاً كان الموت معلقاً بها، رسائل توارت خلفها أسرار خفية، بلّلتها دموع الفراق، مطوّقة بالأقراص المعدنية وظلال صور، مزّقت إطارها رصاصات تائهة، تبحث عن مأوى، فكانت هي المأوى. وقبل أن يتدارك موته همست الشفاه بصوت واحد:
    - لاتنسَ، إنّا كنّا لعبة الموت، وبين كومة ملح وأخرى كان موتنا، وأنّ أجسادنا مازالت هنا.
    وبعد إن يمّمت عيناه النهايات ونطقت خطاه بألم الثّرى وعري البراري، تساءل بدهشة،
    " ( كيف يذعن الموت لكلّ هؤلاء القتلى؟ وكيف يمضي الضجيج، بينما يبقى كلّ هذا الألم؟) "*.
    ومضى، تسابقه الخطوات، بيد أنّ الأسماء ظلّت هناك، تلوّح بالغياب.

    *عبدالعزيز موافي / ديوان شعر ( 1405 )

  2. #2
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.71

    افتراضي

    نص من وجع استلهم واقعا مرا وصلته الإنسانية جمعاء بتركيز تباين ثقلا بين موقع من الأرض وآخر
    تفاصيل المشهد مرسومة بحرص على تلمس الحوار الداخلي خلال وصف البيئة الخارجية الصانعة له، وحكاية يكاد المتلقي يزعم أنه رآها في عيون كثيرة عرضتها أمامه شاشات التلفزة في متابعاتها للجبهات المشتعلة يوميا

    أحسنت القص أديبنا
    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  3. #3
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي

    الأخت ربيحة الرفاعي
    لك أجمل التحايا...... شكراً لحضورك الدائم، رعاك الله.

  4. #4
    الصورة الرمزية آمال المصري عضو الإدارة العليا
    أمينة سر الإدارة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    الدولة : Egypt
    المشاركات : 23,786
    المواضيع : 392
    الردود : 23786
    المعدل اليومي : 4.13

    افتراضي

    صور وتراكيب فارهة البيان متراصة كونت نصا سرديا ناطقا بما يحمل من واقع الحرب وما تخلفه وراءها من دمار ودماء وخراب
    كأنني أشاهد مقطعا إخباريا من أرض الحدث
    رائعة قرأتها لك أديبنا الفاضل
    تحاياي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  5. #5
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي

    الأخت آمال المصري
    سرّني حضورك... خالص التقدير لك.

  6. #6
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي قرابين البحر / قصة قصيرة

    قرابين البحر

    ما بين شاطئ وآخر مسافة حلم، الحلم - كما يراه- يرقد هناك، خلف المدى، وهج حياة باذخة الجمال، حدائق غنّاء، غابات فرح، وعناقيد مسرات، هنا تجثم فوق الثرى توابيت حجرية، تقطر شغفاً لمن تقاذفتهم أمواج العتمة وظلال الحروب العديدة، كلّ شيء هنا يتغوّط دخاناً وحرائق، يتنفس قلقاً وتيهاً، الهنا صحراء تمتدّ من حبلك السري حتى تلك التوابيت الحجرية. يوصد باب الأمس خلفه، يحمله طائر النورس إلى شاطئ البحر، يجلس في خشوع كراهب حزين في معبده، تدغدغ ناظريه ألوان المساء، البحر مهيب، مخمور بالزبد، أمواجه العاتية تعانق السفن في رحلة عشق، السفن تعتلي ظهر الموج، تهبط مثل شهاب ساقط، بدن السفينة يتماوج في رقصة فزع، يطفو فوق الموج ثانية، يغمض عينيه رهبة، يحلّق بعيداً، يهبط هناك مع رذاذ الموج، يتأهب للحبّ، " سأدحر الأمس بغدٍ أفضل". يبزغ طريق مكسو بالزهور، غابة تفصله عن بوابة المدينة الرئيسة، فتيات جميلات يحملن سلال الورد، يرقصن في سهل غارق بالعسل والرخام، يركضن في الغابة، يلوّحن له بباقات الورد، تتشرّب أنفاسه بعطر ابتسامتهنّ، يحتسي ظلّهنّ، ينفتح له ضياء الحلم، يمرّ بأزهار الكولونوز في مكان مرتفع حيث مأوى أوديب، عيناه تعانقان مواقع أثرية، تماثيل لآلهة الحب والجمال، تستوقفه أفروديت، يخفق قلبه لجمالها الخارق، تشيح ثوبها عن جسدها في ظلّ دوي الصنج وأنين الناي، يدور حولها راقصاً، تلتمع ساقاها، يشهق بضحكتها، يغفو عند قدميها، يصحو على وقع خطوات سقراط في رحلته البهية حيث العالم الآخر، من الملعب الرياضي إلى الأكاديمية، إلى الجبل الشامخ. رؤية تستفزّه، يغرق في دهشة غريبة، تماثيل راقدة في متحف الفاتيكان، تماثيل روداين، تصور له مشهد موت لاوكون المفزع، يحاول إنقاذ ولديه بينما ثلاثتهم في قبضة اثنين من الأفاعي عقاباً له من أثينا؛ لإنذاره الطرواديين بأن لا يخدعوا بالحصان الخشبي الإغريقي. المشهد يقلقه، يصرع غفوته، يستفيق من دوار البحر، يفزّ مرعوباً على صراخ يتعثّر بعضه ببعض، طوفان المدّ يحيط بالقارب، يتسلّق سطحه، الأبصار شاخصة إلى السماء، الموج يعلو في الفضاء، يتّخذ شكل الأفاعي، يهبط، تقع زوجته وولديه في قبضة اثنين منهما، يرتجف صارخاً مندهشاً:
    - أثينا، أنا لست لاوكون، أنا لاجئ إليك...
    البحر يمور، يضطرب، القارب يتماوج، يسلّم نفسه لريح هوجاء، تبتلعه زوبعة، الموت يتدلّى من تحت خوافي القيامة، الهاربون من جادة الجحيم يتدحرجون من جهة إلى أخرى، يخيّل إليه أنّ القارب أرجوحة، تقذف الحالمين في عرض البحر. ابنه الصغير ينفلت من يده، يغطّيه الموج، يقع في نوبة هلع، يجلد ذاته، يصرخ، يستنجد بالآخرين دون جدوى. موجة كبيرة تضرب القارب، ينقلب، كلّ شيء يتبعثر، يغرق، يلتفت هنا وهناك، يتأمل الفضاء، الجهات تغيّر ملامحها، يتنفس أنين الغرقى، يتهجّى صوت زوجته الهابّ من شاطئ الأمس:
    - أ للبحر قربان إذا ما عبرنا؟
    - نعم حبيبتي، ما تبقّى من أحلامنا، ذلك هو القربان.
    يعود إلى الشاطئ الداكن مخذولاً، مبتلّاً بالهوس، يملأ كأس الحزن نحيباً، يترنّح ثملاً، يتقيأ حلماً مغلولاً باللوعة، يرتدي سواد الليل عند ثلاثة شواهد غازلت غربة المنافي ذات يوم.

المواضيع المتشابهه

  1. مسامرةُ الموتى
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 18
    آخر مشاركة: 05-04-2012, 12:45 PM
  2. أحلام الموتى
    بواسطة محمد المنصور في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 16-04-2009, 08:18 PM
  3. من مذكرَّات الموتى (1)
    بواسطة يحيى سليمان في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 21-11-2008, 11:58 AM
  4. سكون الموتى- قصيدة حول الصمت العربي عن تدنيس المصحف
    بواسطة فارس عودة في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 06-08-2005, 04:17 PM