رسائل الموتى
قبل أن يلتهمه شبق الطريق الممتدّ نحو البحر، ويسدل النهار ستار التلاشي، رمقت عيناه غيمة شاردة في اللااتجاه، خطواته التائهة ارتدت مئزر المجهول، خطوات بعثرها الخوف والحيرة، يرافقها صدى صوت منبعث من انكسار طبقة الملح المغطّية وجه الأرض، الأرض قطعة من ملح عالقة بغفوة أطلال منسيّة، مترعة بالوحشة والغياب، عيناه المكحّلتان بالضباب، الأحلام البائسة، تستحمّ بأمل العثورعلى وحدته العسكرية الجديدة، لا ملاذ يرتجي غير خنادق يسكرالموت فيها، كلّ شيء مفزع، وحده الطريق يرافقه والغيمة الشاردة صوب المجهول، أصوات انفجارات ودوي المدافع ليس بعيداً عن مسمعه، أصوات اختلطت بصفير الرياح الموحشة، صفير يشجيه خوفاً خانقاً كلّما أوغل في تفاصيل الاحتمالات، حفر كثيرة وعميقة منتشرة على امتداد المكان، كأنها بثور تشكّلت فوق خدّ صفعه الطاعون، حفرتها القنابل الآتية من شرق الأرض وغربها، حفرتها آلة الحرب والخراب بلا مبالاة، شقوق الأرض الملتصقة بحافة الطريق، تلوذ بأشلاء متناثرة هنا وهناك، تتشكّل جسداً يشهق بأنين الموتى، يفوح بعطر متخم برائحة الدخان والشواء، يصدح بهتاف بلّله العطش، كان الجسد جندياً معمّداً بالموت، تشكّل من أشلاء شتّى، كان طرفه الأيمن يقبع في جيب بسطال أحمر، أقصر بقليل من طرفه الآخر الذي علّق به حذاء أسود، لوّح له بيدين غير متناسقتين، كلتيهما يمين، يخيل إليه أن الجسد جحافل من رفات، تحمل رأساً ذا عيون كثيرة، قابعة في محاجرها، جسد مخيف لا يشبه إلا ظلّه الزاحف سعياً خلفه، أطلق صوتاً محموماً مختنقاً بالجراح، كان الجندي يرعى براري الملح وخوفه من المجهول قبل أن يدركه الصدى، انتفض فزعاً يحتمي بخطواته المرتعشة بالرعب، الطريق يضيق، أكوام الملح تخبط عينيه، الحفر باتت مغارات تتستّر بقناع الفجيعة، كان الصوت موشّى بتمائم النسيان، تقطر منه دموع أطفأت مسامات الخوف وهشّمت الحجب الخفية، تسفح ما تبقى من سنين العمر المعلّقة على هدب، يحمل عويل المسافات، يعبرالجندي أضلع الخوف، يعانق وجه التساؤلات التي أطلقتها جحافل الرفات، المسافة بينهما ساكنة، اختزلت ضباب الضجيج، كان البوح يرتدي نشيج الشوق إلى أحلام معلّقة في الهواء، أحلام معتّقة بالنسيان، مرتبكة بظلال الدخان المتصاعد من حرائق الحسرات والندم، كانت التساؤلات تنتقل من العيون إلى عيني الجندي خبباً، عيون تلعق وجه الأرض، غائرة في زوايا من حجر، تسلّقت مرايا الموت، تؤطرها أقراص معدنية متدلّية من عنق سلسلة فضية ، موشاة بقطرات دماء جفّفها ملح أديم الأرض، أقراص تبرق بأسماء أصابها الصدأ بعدما أخذ الجسد شكل الماضي، منفصلاً عن ظلّه، تحمله جحافل من الرفات، تمترس ببقايا وطن معلّق برمش ارتجاف الأرض، وطن يبحث عن رأسه،
- أيّها الجندي، تمهّل، إلى أين؟
كان الصوت مخنوقاً بوجع الهزيمة:
- ارتجي دليلاً إلى وحدتي.
- لاشيء غير الهاوية، بروق الموت تعبث بضفتي النهر.
- لابدّ من الرحيل أو الموت، أنا مدرك أنّ فرقة الإعدام خلفي، لاخيار لي. - تمهّل، إنّك تسير على سطر من الألغام وسطر من الأجداث، الطريق يتناسل موتى ولم يعد لخطواتك معنى، كلّ الخطوات متشابهة عند شجيرات الحنّاء المتيبسة، وبساتين النخل التي أصابها الظمأ.
بدأ يتقبل فكرة الانتظار، تسلّل من بين أنامل خوفه طيفاً، يلوّح له عن بعد بكركرات أطفاله، ظلّ عباءة امرأة هدّها القلق، شبح بيت تحمله أنقاض العوز والحرمان، لم يعد مواصلة الطريق أمراً مألوفاً لديه، فربما يحمله الخطو إلى مساءات مسكونة بالأمن، فيغفو كطفل تحت دثار الحكايات. تسوّرته أيدي الرفات بفرح، ألقت إليه حقائب مملؤة بالجراح، أسمالاً كان الموت معلقاً بها، رسائل توارت خلفها أسرار خفية، بلّلتها دموع الفراق، مطوّقة بالأقراص المعدنية وظلال صور، مزّقت إطارها رصاصات تائهة، تبحث عن مأوى، فكانت هي المأوى. وقبل أن يتدارك موته همست الشفاه بصوت واحد:
- لاتنسَ، إنّا كنّا لعبة الموت، وبين كومة ملح وأخرى كان موتنا، وأنّ أجسادنا مازالت هنا.
وبعد إن يمّمت عيناه النهايات ونطقت خطاه بألم الثّرى وعري البراري، تساءل بدهشة،
" ( كيف يذعن الموت لكلّ هؤلاء القتلى؟ وكيف يمضي الضجيج، بينما يبقى كلّ هذا الألم؟) "*.
ومضى، تسابقه الخطوات، بيد أنّ الأسماء ظلّت هناك، تلوّح بالغياب.
*عبدالعزيز موافي / ديوان شعر ( 1405 )