هلموا إلى النار.. أيها الأحباب!!
( قصة قصيرة)
وقف بينهم بقميصه المعتم!.. و عمامته السوداء التي قضى شطر يومه، و هو يلوثها على رأسه!..
وجهه صار كجلمود قديم !و عيناه كحبات الرمان..
-الموقف –اليوم- لا يحتمل غير الصرامة! (قال لنفسه)
رذاذ من سحر اللحظة.. ينضح هذا العبوس المأزوم.. و هو يعتلي المكان الذي طالما حلَّق إليه.. بكرة و عشيا.
أخيرا.. وقف بين الناس خطيبا.
ملأ عينيه من الأعمدة العملاقة، التي تتناثر في قاعة المسجد، و تنهض بقاماتها الفارعة، تسند القبة الضخمة، التي تتراقص نقوشها الساحرة بين عينيه. عبأ خيشومه الغليظ من عبق الرائحة العتيقة، التي تجوس خلال المكان، و تستلب وعيه الذاهل إلى بؤرة سحيقة من الزمن الحلو..
( قطعان الإبل تغص بها مباركها، رغاؤها يملأ المكان بجانب ساحة السوق. الرجال يغدون، و يروحون بعمائمهم المتهدلة على أكتافهم، كملوك على رؤوسهم تيجان الذهب!.. بيوت الشعر، تجثم متشبثة بالأرض الطيبة التي تحتضن أوتادها.. ) أروع ما يشده في هذا الماضي.. (حمحمة الخيل.. أصوات مطارق الحدادين، و هي تهوي على الحديد المشتعل، فيبتسم عن تلك الأشكال الرائعة.. سيوف حداد، يتهلل في نصالها بريق الموت الزؤام لأعداء الدين! خناجر ، و رماح...)
إسفين الواقع.. ينزغ طيف أحلامه.. فيبددها.
.. السيارات بدل الإبل! و بيوت المدر، حلت محل بيوت الشعر!.. و الداهية الكبرى.. أن يستبدل الناس باللباس العربي الأصيل، لباس الفرنجة الكفرة!.. كم يشتد حنقه.. حينما يرى أحدهم يتبجح بحلة إفرنجية، و يخنق نفسه بما يسمونه ( كرفته)!..
..................................
زفرة حرى.. نحنحة لترطيب الصوت..عدل وضع نظارته سميكة الإطار على عرنين أنفه !اختلس نظرة إلى ساعته!.. بعد البسملة، و الحمدلة، و الديباجة:
- أيها الناس:..
و كما قرأ في كتب تعليم الخطابة؛ راح يوزع نظراته بين الحاضرين..
أجساد الناس.. تجمعت في أحداقهم! تصلبت عيونهم نحو شفتيه، جفونهم لا تطرف!.. نظراتهم تتناوشه من كل ناحية!.. أجسادهم النحيفة أضحت كتماثيل عتيقة!.. إلا من نسمة بليلة، تحرك أعطاف أثوابهم الرثة، و تداعب أطرافا مهلهلة من عمائم بعضهم..
الوالد كان بينهم!..
شعر في تلك اللحظة بوخزات من ذكريات الأيام المرة، حين كان الوالد- هداه الله- يضيق بطريقته في التدين، و يعيد عليه أسطوانته المعهودة من اللوم، و التقريع.. بدعوى نبذ التشدد، و الغلواء!..
كانت ليلة ليلاء.. تلك التي كاد يبيتها في العراء، لولا جدته- رحمها الله- لأنه سد عن أخواته سيل الفساد، الذي يتدفق به المسلسل..
قد يكون استعمل بعض القوة في ذلك.. لكنه إجراء ألجأت إليه الضرورة، و بررته الغاية النبيلة!
على العموم.. هي ليلة من ليال، و واقعة من عشرات مثلها..
لكنه كان يعذر والده الشيخ آنذاك بجهله، و قلة فقهه.. و هي أعذار شرعية مؤثرة في الأحكام!!
اليوم.. سيعلم الوالد أنه كان على خطأ.
................................
بصوت مجلجل:
- حفت الجنة بالمكاره..
ساعة إلا ربعا!! قضاها في تلاوة لائحة من المكاره التي حفت بها الجنة!..
(ضرب الرؤوس في ميادين الجهاد، مغالبة السهر في الليالي الطوال بالقيام، مقارعة وحْر العطش في الهواجر، و سعار الجوع في الصيام، المال الكثير مظنة الحرام.. الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمئة عام، البعد عن اللذائذ طريق الأنبياء! و الانصراف عن المباح طريقة الأتقياء..! الزهد في الدنيا ملاذ العارفين، و حياة الصالحين.. )
- ..باختصار!! (قال)
كلمهم عن حرمة كنز الأموال، و عن مغبة الشبع الكثير، عن التبذير.. و أن التوسع في المباحات من شيم أهل الترف.. و هم عن الجنة مبعدون..
- سلعة الله غالية (بصوت أجش)
- آآآآآه.. تثاءب شاب من بينهم، و قد أشرع فمه عن آخره، فتكشف عن فم خرب، إلا من سنين أو ثلاث! .
- أغلق فمك بيدك.. هذا من قلة الأدب.. الشيطان يدخل..(و هو يصر على أسنانه)!
همس أحدهم لجاره..
- أنت حمار بشهادة النبي- صلى الله عليه و سلم-
نفض أحدهم غلالة من الغبار، كانت عالقة بجلبابه المهتريء.
- لا جمعة لك..
كان الغيظ قد استبد بهم، و الملل قد أخذ منهم كل مأخذ.. حتى إن بعضهم استند على الجدار، و غط في نوم عميق!!
كثيرون منهم.. طأطأوا رؤوسهم، و غابوا في دوامة همومهم اليومية..
زعيقه يتلاشى في غمرة ذهولهم، و كأنه يصرخ في صحراء!..
- ختاما.. (و هو يكز على أسنانه، و يضغط بشدة على مخارج الحروف) ، شاء من شاء، و أبى من أبى، هذا هو طريق الجنة !!
صلوا وراءه على مضض. ما كادوا يفرغون من الصلاة، حتى تدافعت جحافلهم صوب الباب، و خرجوا يبحثون عن طريق النار!!!