جماليات السرد في مجموعة يسكنها التكثيف، الإضمار، الإيجاز، المفارقة والإدهاش
المجموعة القصصية (العالم لاينتهي خلف النافذة) تحتوي علي 72 نصاً في 184 ورقة من القطع المتوسط للكاتب والقاص الأديب صديق الحلو

ريشة الزمن السردي ترسم ملامح المكان كفضاء تشغله عيون المارة.. ما يتساقط من لون يشكل لوحة تخرج منها البراحات في ثوب قشيب..الكل يريد ملامسته.. ظناً منه أن العيون لا تستطع اللمس!..

عملية الدمج بين الحقائق والعلومات وأسلوب السرد أخذت بعداً مختلفاً لتقديم عرضاً مشوقاً للقارئ حيث يجعله بالقرب من نواصي الكاتب الفريدة ذات الثقافة الممتدة في أعماق الحكايات، سترهف أذنه أصوات (الحبوبات)، تغاريد العصافير، صخب الأطفال العائدين من المدارس والزراع، سينجو في ضفة وحيدة من نظرة عاشقة تتسكع، سيعود صوب نفسه إلي أن يجدها وسط جلبة تعانقه عيون المارة كلوحة معلقة في جدار متحف في يوم عرض تشكيلي، الكل يريد الوصول إلي مبتغاه، فتسكنه ومضات العيون والقبل الحائرة، وتسلك الهمسات طريقها إليه صمتاً في عالم الضجيج.
السرد يمكننا إعتباره بعداً رابعاً في المجموعة القصصية، إذ يضفي على كل المشهد ويصف المشاعر والأحاسيس بدقة تفوق جميع مكونات القصة.. الحدث، المكان والزمان والشخوص (بيئة العمل الفني).
ذاكرة المجموعة أو الظروف التي كتبت فيها ملئة بالذكريات والحنين إلي الماضي، ما أن تقف في صفحة منها إلا ويباغتك صوت من بعيد وعندما تتحس مكانه تجده بالقرب منك ويبدو لك مألوفاً، أحياناً تجالسه وتسمع منه الحكايات فاغر الفاه تكون وشارد الحضور، لن ينفعك شرودك من الإلمام بكل التفاصيل التي كـأنها كتبت لك.
في نهاية كل قصة تجدك تضاحك ماتبقى لك من صمت الحكاية، تتذوق مفاصلها كالذي يطارد طعم في فنجان قهوة ثمل بالزنجبيل،ستترنح في حافته كرشفة سقطت سهواً من شفاه مزاج أيم فارقته الحياة ويريد الوصول إلي لذة تبقيه علي قيد رونقها.
المجموعة تعج بالشخوص أي تعتبر مسرحاً حافلاً بالشخصيات وقد برع الكاتب في وصف كل شخصية بملامحها وأسلوبها الذي يميزها عن غيرها، فتجد إنسان القرية بلغته الخاصة وكذلك إنسان المدينة.
كان فيها الوصف دقيقاً للملامح والخصال، يخيل لي أن الكاتب وقتها كان بالقرب من نهر ذكرياته وأفرد للقلم مساحة وكاميرا خياله جعلها تجوب كل أوقاته وتتفنن في رسم معايير الحبكة في أبهى الصور.
اعتمد كثيراً في الغوص بعيداً في ذكرياته ونهل من من دن الحكي الشعبي الذي ورثه من الأجداد كعادة كل سوداني .. كيف تتشكل ذاكرته منذ الطفولة، حيث ( فاطنة السمحة والغول وحسن الشاطر وود نفاش وطير الرهو والقمري البقوقي والبلوم والرعي والسمبر والخريف).
البرتقال كان فاكهة المجموعة المميزة والمحببة إلي نفس كثير من أبطالها وهذه دلالة عميقة في تحليل الرمز وجعله أصفراً يسر الناظرين فيما وضح ذلك جلياً في الثورة وكيفية تحليلها دون تعقيد، وكذلك القمح كان اللون المفضل جداً وأيضاً يدل على صدق الحرف في التسلسل وفي وضع الأحداث بالقرب من ذهن المتلقي .
كما جاء علي لسان المتحدث في نص روحية التي كانت كحبة قمح ندية، وذكر الشفق تجعل من الرومانسية مكاناً للحضور على الرغم من حصار الألم لتلك للعاشقة وأكتناف الصمت لها.
لغة رصينة بسيطة كأنها تفكك لك الجمل مشافهةً، وعندما تتابع القراءة كأنك تسمع صوت بين الحروف ينقر عليها نقراً ويجعل منها لغة تفيد المسامرة، لذا يمكن وصف النصوص بالواقعية الإجتماعية فهي تذهب بعيداً في ذاكرة المجتمع والحكي الشعبي للتوغل في مجالسه معرفة ومعنى.
فيقول بصوت تتدثره الشجون والإلفة : "تعرف روحية متى تغلق الباب ومتى تفتح النافذة، ونما الشجن على نهر جار، لم تعد تثيرني المرتفعات والإنخفاضات، ولا الريح التي ترفع التنانير.. سفني لم تغادر النهر بأساليب روحية المدهشة وتصميمها لتجاوز العقبات".
بداية النص عاطفية بحتة حيث يصف فيها مشاعر تلك الروحية وعشقها، استهلالية تشبه تماماً الشعر الجاهلي الذي كان لابد للصيدة أن يكون مفتاحها غزلاً ثم يذهب الشاعر إلي المتن ليكون فيه الوصف المراد كحدث أو واقعة تعكس الاسم ويكون لها دلالة دخول..
فيصل الحال في وصف الجاك الذي يأتي هذه المرة ليس بالمرء سديد الرأي والفكر، وجاء على لسان روحية: حيث قالت: "كلما أعتبرناه راشداً عاد طفلاً يساوم على الكوميشن. ويغرق في ملذاته الصغيرة".
منذ البداية لون البرتقال والقمح يصفان بصفار فائق لون الرمزية عالية الدقة في الوضوح وكأن الكاميرا التي صورت المشاهد حديثة قيد الإكتشاف لما آتت به من أحداث كشلالات في نهر تسكنه الصخور، فكيف لها تصوير الخرير من جناح طائر يرفرف في سماء النهر
، ليكون همسات الريش الذي تشدو في الفضاء حفيفاً؟!
الفلسفة التي كتبت بها النصوص هي في الواقع تجرد تام أمام نصوص الكاتب الأدبية حيث تجردت روحه الصوفية تلقائياً وانفصمت عن العالم المحيط وهو كما يفعل الأدباء العظام ليأتي بلونية تخصه في عالم السرد والإبداع، ولو رجعنا إلى علم النفس لوجدنا أن الإنفصام هو اضطرابات ناتجة عن التفكير الإدراكي أو المشاع، والأدب عبارة عن مجموعة إضطرابات فكرية أدت إلى تكوين فكرة سليمة نشأ بها الكاتب خياليا وجسدها على الورق، هكذا فعل الأديب صديق الحلو في هذه المجموعة بلغة بسيطة وكتابة رفيعة شاملة بصوت جدران الماضي وحنين ذكرياته ولون الغسق عند الضفاف وجلبة الاطفال وعودة السعية، الحنين إلى الأمكنة والأزمنة جعل نكهة خاصة تتفرد بها المجموعة وعرف كيف يصل إلي ذهنية القارئ التي دائما تعشق الحنين إلى ماضيها، ذكريات بيوتها، الأنس، الافراح، الأتراح، مواسم الزراعة والحصاد، حديقة الحيوان، كتراية، الخرطوم، أبوجنزير، الكدرو والمويلح.
أي كان للمكان حضوراً ثرياً في المجموعة القصصية .
التي اعتبرها واقعية كلاسيكية وبها بعض من الفنتازيا،
كما يمكننا القول عن القصة الواقعية هي قصة تركز إهتمامها على تمثيل قصص حقيقية وتروى بطريقية حقيقية على قدم المساواة، تنطوي معالجة التاريخ على مقاربة للواقع إلي حد تقليدها. وكما معروف للجميع أن القصة هي شكل من أشكال الأدب تروى فيه الأحداث بطريقة حقيقية أو خيالية حيث يتم إجراء القصص بواسطة شخصيات في سياق معين وفي وقت محدد، بطريقة أو بأخرى كما أن للواقع حضوره دائماً في القصص وتأتي المادة الإبداعية من الواقع وتتم معالجتها من خلال تفسير يقدمه الكاتب وهنا يبرز دور الكاتب ويظهر حسه ومعرفته الجيدة لتتبع الأحداث وصياغتها بطريقة فنية مشوقة، حيث نجد لونيته وحسه موجوداً في كل أعماله الأدبية وهذا ما يميز الكاتب عن غيره في طريقة الفكرة والصياغة وسايق الأحداث وإتساق اللغة.
في نص أبوجنزير.. النص الذي يعتبر واقعي، يصف فيه الكاتب صراع الأمكنة مع الذين يريدون محوها من الوجود، ويفلح الكاتب بسياق بسيطة أن يجد له مبرراً في نسج حكايته، كما أن للذكريات حضور حفي تنتصب بمراراتها لتشارك الأحداث وهي بطلاً خفي يتجول بين الناس.
"عبدالباسط هناك كأن سكاكيناً تنغرز في صدره، وجوههم العريضة كنبات العشر، رئيس البلدية برأسه الضخم وكتفيه العريضين يصدر أوامر بدك الضريح. الشرطة مدججة بالسلاح تتحفز، سائقوا اللودرات تخشبت أيديهم، نظرة رئيس البلدية المشجعة تحثهم، تنكسر أسنة الجرارات وتقف ساكنة، الحزن في الحدقات، انكفأت الفرحة المكتومة، تحولت إلى يأس وخوار عزيمة. رابح يدون المشهد وروحه تشتعل، أحدهم يشعل سيجارة ويأتي بجرارات جديدة وتبدأ المحاولة"
التجول بين الأزمان يجعل أمشاط القلب تتجرع مرارة المشي، يلهث الكل، اللذين كانوا هناك في الماضي يحاولون الحضوروالمثول لوعبر بوابة الذكريات المواربة والذين هنا يرفضون الخروج من اللحظة ليلجوا عبر نفاجات المستقبل كلعنة عصية النسيان، المشهد مصاغ بصورة دقيقة حيث كان للسرد البعد الإضافي الذي يجعل من الصور تتحرك بحرية تاركة للأحداث مساحات بقدر كثافة حضور الشخوص، ايضاً للوصف مكانة خاصة جدا في لغة السرد.
يظهر وصف ملامح الأشخاص وكل وصف له دلالة في السلوك والأسلوب، وجوه عريضة كنبات العشر، هذا الوصف للشخص غير المرغوب فيه، الإنسان الشر وكما معروف أن نبات العشر باهت اللون ومر المذاق وليس منه فائدة، لا يمكن تنصيفه من نباتات الزينة أو النباتات التي تقدم مصلحة للبشرية والبئية، فتم نعتهم كنبات عشر مر المذاق حافي الوجدان قصير الأشواق هكذا التقطت كاميرا الكاتب المبدع المشاهد برصانة.
فهناك تناقض في المشاعر حيث يشعل أحدهم سيجارته غير آبه في الضريح ولا الذين يعترضون على إزالته.
أهتم الكاتب بالزمان وجعله تاريخاً يحكى، كما أن كل حدث لابد أن يقع في زمان محدد، والتزام الكاتب بهذا العنصر ضرورة ملحة لتأخذ القصة شكلها الطبيعي ولا يظهر الإختلال في أحداثها أو شخوصها، والكاتب المبدع يوحي لنا بان الزمن الذي يتخيله هو زمن واقعي بالرجوع إلى الوراء عن طريق التذكر أو التداعي، فنشعر أن هذا الزمن هو الزمن الماضي وأن الحديث عن مجريات القصة هو الزمن الحاضر كما أن عنصر الزمان مهم في نسج أحداث القصة فإن المكان لا يقل أهمية أيضاً، والمكان الذي قد يعد مشاركا في الفعل القصصي في بعض القصص حين يشكل قوة مضادة كما هو الحال في القصة التي يقوم الحدث فيها علىالصراع بين البطل والبحر مثلاً كما في قصة أبو جنزير حيث الضريح كان بطلاً حقيقياً يقف ضد الشرطة ومعداتها الثقيلة!
فهو إذاً يعمل على إضفاء جو طبيعي يحيا فيه القارئ فالتزم فيه الكاتب بظروف البئية وعاداتها وتقاليدها.
كما أن للبحكة دورها الطليعي في وصف العمل بالجيد، وهي نقطة الذروة التي تتأزم فيها الأحداث وتتعقد وهي العنصر الأساسي الذي يستند إليه عنصر التشويق فهي متن الحكاية .
فكلما تأزمت الاحداث وتعقدت زادت نسبة التشويق لدي القارئ.
الزمان والمكان والشخوص والأحداث جميعها تمثل بيئة العمل الإبداعي ليكون عملاً مميزاً لابد لابد للبحكة أن تناصع لرغبة الفكرة وتنزوي في رف بعيد من مكتبة الإبداع هكذا فعل أديبنا صديق الحلو في هذه المجموعة ليسحر الأعين ويشغل الألباب، فتجد القارئ يفرك عينيه ليقاوم السهر في مواصلة نظراته في التسكع في دروب الورق سطوراً من جمال وتشويق!
العدمية :هي حالة من الرفض للجوانب الأساسية للحياة وللوجود البشري مثل الحقيقة الموضوعية والمعرفة والاخلاق.
تؤمن الإفتراضات العدمية المختلفة ان القيم الإنسانية لا اساس لها من الصحة، وأن الحياة لا معنى لها وان المعرفة مستحيلة.
كما وصف (جان يودريار) أن حقبة الحداثة عدمية أو أسلوب تفكير..
العالم لاينتهي خلف النافذة، فكرة فلسفية عميقة ودعوة للتحرر من القيود والمعتقدات التي تجعل من الإنسان خاملاً وليس قادراً على وجود ذاته بالحالة التي يرتضيها،
"كان محمد يقول: هناك من يبالغ في تقديره لذاته ويتمركز حولها ثم لا يبالي بالآخرين، وهناك من هو عدمي النزعة لا يبالي بذاته ولا بالآخرين، الأمور كلها تستوي عنده في العدمية واللاجدوى، أقول له في زمن الغيبوبة والذهول ورود ذبلت وأشجار جفت عيدانها ونحن مابين النمو والذبول نحيا"
مجتزأ من النص الذي عليه اسم الكتاب، حيث يصف بطله صنف من الناس من حوله
فمنهم من يبالغ في أغداق نفسه تقديراً ومنهم على غير ذلك، يقف محمد وينظر إلى الكون عبر عيون فدوى تلك النافذة التي تطل على مباهج الحياة، النافذة التي يأتي منها الضياء وبوارق الأمل، كلما ينظر فيها تشعل في دواخله الحرائق وتشتعل فيه جزوة التحرر والتحليق بعيداً في الفضاء الرحيب حيث الأمآن والسلام والإنسجام،
فكان محمد لا يعرف الحدود بين الحلم والصحو فكل الذي يراه حلما يجده ماثلاً أمام ناظريه، وصف بالغ الدقة للبطل في أن له عزيمة لا تلين وقوة تهد جدران المستحيل التي تعيق الرؤى.
"كانت كوردة قطفت منذ ليال عديدة، ودست وسط كتاب قديم"
تشاطره الحياة كانت بكل قسوتها وتحيلها إلي بياض وروابي تغرد أطيارها، والذي معه أنثاه بكل تمجيد وتفاني لا تمله الحياة ولا يصب قلبه العطب، سيكون بذات النشاط والهمة والرفعة.
طالما هو خلف عالمه لا ينتهي العالم لديه ولن توؤل حياته إلى نهاية سيكون خالداً في سنوات العشق ولياليه الحالمة.
يخاطب البطل نفسه : "ما أقسى ألا تجد أحداً تتحدث إليه، اخرج من ذاتي كزهرة دوار الشمس بإتجاه الآخرين، ولكنهم لا يكترثون. العالم لا ينتهي خلف النافذ"
الذين لا يؤمنون بفكرة الأمل اليأسون الذين فقدوا روح التحليق لا يعلمون أن للإنسان القدرة على الوصول إلى ما يتمني وذلك عندما يكون لديه رفيق حميم يشاطره الحياة.

في نص خيارات الخضر يرمز للثورة بعيون البطل وتنبؤاته.. أن ثورة عاتيه تهب على مقرن النيلين
"والخضر كنسمة في أرض الوادي أودت به صراحته إلي المجهول، آخر مرة شوهد فيها الخضر وهو يلبس العراقي الخفيف والسروال وحذاء مركوب من جلد الأصلة، كان بحوزته سكين طويلة حادة الحواف يلبسها في ذراعه، أمه تقول إنه مسالم ولا يؤذي أحدا. وما حمله للمدية إلا أنه في الآونة الأخيرة شعر بالإرتياب وعدم الأمان والخوف، الجاك لا يبالي بقتل معارضيه.. والخضر كان مخالفاً شرساً، يؤلف الأشعار المناهضة ويحب الحياة والنزق، محمد خير يقول أن مثل الخضر لا يعيشون كثيراً لأنه ملئ بالحنان والحب والشجن"..
للتوثيق حظاً كبيراً جداً في المجموعة القصصية، توثيق للأماكن وللأزمان وللأحداث وللشخصيات.
لا تخلو الحيثيات من البصمات السياسية، فدائماً السياسة لهفة تسبق القراء إلي إرثاء الأعمال في الساحات، هناك شخصيات تم التوثيق لها بذكرها صراحة كأبطال حقيقين وأيضاً أحداث بكل تفاصيلها الحقيقية كالثورة وأبطالها وهناك رموزاً بوضوح لون البرتقال تم ذكرهم. هناك من وثق لشخصيات في الأدب والسرد. وهذا التوثيق دائماً ما يعقب أحداث حقيقية كالتي مرت على بلادنا.
فتشارك المجموعة السردية بعض النماذج التي أعتبرها أعمالاً بها نوعاً من التوثيق على سبيل المثال لا الحصر.
"طبول الحب" (لمها حسن) "الموت عمل شاق" (لخالد خليفة) ، "حبوبة طيارة" (لعلي إدريس) و"ملائكة شياطين" (لدان براون)..
هذه المجموعة إضافة حقيقية للمكتبة السودانية وستسهم في إثراء الساحة الفنية لانها رافداً أصيلاً في نهر الثقافة، نبارك للمبدع الأديب صديق الحلو هذا العمل الراقي ونتمنى له مزيدا من الإصدارات ثم نبارك لأهل الثقافة والمهتمين..
حجازي سليمان
08/03/2022