أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 8 من 8

الموضوع: صعوبة نظام الخليل آتيةٌ من ذاته [نقد نظرية الخليل العروضية]

  1. #1
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي صعوبة نظام الخليل آتيةٌ من ذاته [نقد نظرية الخليل العروضية]

    صعوبة نظام الخليل وتعقيده، آتيةٌ من ذاته، لا من ذات المشتغلين فيه مُعلّمين أو مُتعلّمين
    [نقد نظرية الخليل العروضية]


    الباحث العروضي/ أبو الطيّب ياسر بنُ أحمد القريـــــــني البلوي القُضاعي/ صاحب علم عروض قضاعة

    (1)

    ليس هناك عاقل منصف ينكر أن نظام الخليل العروضي، قد كان لَبِنة ناقصة في بناء علوم العربية، قد فطن الخليل لنقصانها من البناء فشيّدها على ما اجتهد. وليس الذنب ذنبه إن لم يأت أحد ليستلم الراية منه. فهو يستحق الشكر لفطنته على اللبنة الناقصة من البناء وإقامتها، فمنعت العابثين من إفساد بضاعة العرب [الشعر بضاعة العرب]. فجزى الله الخليل خيراً، فرُبَّ مُبَلَّـغٍ أوعى من سامع.
    فإن بدا نقد صاحب عروض قضاعة لنظام الخليل عنيفاً بما يشبه تكسير العظام، وهو فعلاً كذلك؛ فهذا جرياً على سنّة التدافع في الأرض. فإن كان نقدي له بالباطل فوزره عليّ، لكن إن كان بالحق فلا شيء عليّ، حتى لو كان الحق المقصود ظن، فإنّ بعض الظنون أقوى من بعض.

    وعودة لعنوان موضوعنا فنقول: التذمّر من صعوبة نظام الخليل العروضي، كان مرافقاً له منذ زمن الخليل ولحد الآن. اِقـرأ [إن شئت] مقدمات كتب العروض الحديثة جميعها، بما فيها الرقمي؛ وسوف تجد أنّ الكل تقريباً، يزعم أنه ابتدع منهجاً يجعل نظام الخليل سهلاً للطلاب، لِما لاحظه من نفور الطلاب منه على مدى خبرته الطويلة. وهذا النفور من نظام الخليل لصعوبته، لم يقتصر على عوام العرب، بل تعدّاه للمختصين ولشعراء العرب؛ وفي ذلك تقول الشاعرة المعاصرة المشهورة نازك الملائكة (1923- 2007):
    {ما زال علم العروض [أي نظام الخليل]، يُعد بين الشعراء والأدباء موضوعاً غامضاً صعباً. إنّ الضباب يَحِف به في أذهانهم، ويندر بينهم من يقتحم معتركه محاولاً أن يفهمه وينتفع به في شعره ونقده. **، والسؤال الذي نحب أن نلقيه هو هذا: لماذا يستصعب الشاعر والناقد موضوع العروض..؟ وهل يرجع السر في ذلك إلى كون المرء عدو ما جهل..؟ أم أنّ السبب يكمن في صعوبة علم العروض نفسه وعدم مطاوعته للذهن المتفهّم..؟ الحقيقة أنّ السؤالين كليهما يتطلب الجواب بالإيجاب، فإنّ معظم أدبائنا ينفرون من العروض لأنهم يجهلونه أولاً، ولأنه صعب ثانياً} (سايكولوجية الشعر، ص 275-276).

    ويُرجِع الإمام السكاكي (ت/ 626 هـ) وغيره، صعوبة نظام الخليل إلى كثرة مصطلحاته (مفتاح العلوم، ص 523)، لكن هذا سبب ثانوي في هذه الصعوبة وليس أساسياً فيها كما سنرى، فكثير من كتب العروض الحالية، ومنذ فترة طويلة؛ تدرس نظام الخليل بأقل عدد مصطلحات له، لكن الصعوبة لم تفارقه مع ذلك.
    ووصف نظام الخليل بهذا الأوصاف، ليس مرَده إلى ضَعف عقلية المتعلمين أو نقص بالضرورة في هِمّتهم، فها هو الأصمعي الغني عن التعريف (ت/ 216 هـ)؛ أنه مع صِدق رغبته بتعلّم العروض، قد تعذّر عليه فـهمُه من فم الخليل نفسه..! (الخصائص لابن جني- ج1 ص 362). ويصف الشيخ بهاء الدين السبكي نظام الخليل عن تجربة فصدق فيما قال (نقلاً عن: الغامزة، ص 42):

    إذا كنتَ ذا فِكرٍ سليـمٍ فلا تَـمِـلْ .... لعلم عَروض يُـوقِعُ الـقَـلْبَ في الـكَــرْبِ
    فكل امرِئٍ عانى العَروض فإنّـما .... تَعرّضَ للـتّـقطيـع وَانـْسَـاقَ للضّــربِ


    ووالله أني أُشفق على هؤلاء المعلّمين الذين حسبوا أنّ صعوبة هذه العلم آتيةٌ من طريقة عرضه، أو من طريقة القدماء في بسطه، أو فقط من وعورة وكثرة مصطلحاته؛ ولم يدركوا بعد أنّ صعوبة هذا العلم وتعقيده، آتيةٌ من ذاته، لا من ذات المشتغلين فيه معلّمين أو متعلّمين. فسواء قُـلّلـت مصطلحاته أم تفنّن الباحث في كيفية عرضه ليخفف من صعوبته، أو عُـبِّر عنه رقمياً، فسيظل التذمّر من نظام الخليل ووصفه بالقصور وبالمعقّد، ملازماً له.
    فلا احد ينكر أنّ نظام الخليل مترابط ومتصف بالشمولية، لكنه ترابط وشمولية مخصوصة بنظامه في ذاته، لا في واقع الشعر الذي مزّق ترابطه الموهوم، وفنّد كثيراً من شموليته. وإذا كانت نظرية الخليل العروضية ليس صعباً فهمها واستيعابها، لكن هذا لا يعني أنها بريئة من الصعوبة التي في مسطرة نظامه، فأصل الصعوبة كامن في النظرية من خلال خطأ فكرة الجزء في ذاتها كما قلنا في مقالات سابقة؛ فالنظرية هي مَن ورّثت الصعوبة لمسطرة النظام، والمسطرة لا بد أن تتبع النظرية لأنها منبثقة عنها.
    فمن أحد البنود العقلية التي أشرنا لها في مبحث مختصر خريطة العقل (البند رقم 13)، أنّ المسطرة التي لم تلامس ماهية الواقع الذي جاءت لتقيسه، ستكون عبئاً على صاحبها وعبئاً على من سيقيس بها. وتغدو المسطرة إذا لم تحقق ذلك، هي المشكلة التي تحتاج حلاً، لا الواقع الذي أتت لتقيسه هو من يحتاج حلاً. فالواقع مجرّداً عن تصور الإنسان عنه، هو واقع ثابت، وهو لن يغيّر من حقيقته ليوافق عمل هذه المسطرة أو تلك.
    وقد رأينا فيما سبق، وكما سنرى تحت هذا العنوان؛ انطباق هذا الكلام تماماً على نظام الخليل. فلا يمكن التخلص من صعوبة مسطرة نظام الخليل إلّا بالخروج على أساسات نظامه، ومن ثم البحث عن الأساسات الصحيحة، أو الأقرب للصحّة؛ التي قام عليها نظام عروض شعر العرب؛ تماماً كما فعلت قضاعة بنظام عروضها. (ظن عازم)
    ... يتبع.

  2. #2
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    (2)


    وأسباب صعوبة مسطرة نظام الخليل متعددة ومتراكبة بعضها فوق بعض، بحيث يتعذر تناولها فرادى؛ لكن نستطيع حصرها بسبب واحد عام، وثلاثة أسباب تفصيلية. فالسبب العام هو أنّ نظرية الخليل وإن كانت قد حاولت تلمّس ماهية عروض الشعر العربي، لكنها لم توفّق في بيان ذلك، بل أنها جاءت مناقضة لماهيته في كثير من الأحيان.
    أمّا الأسباب الثلاثة التفصيلية لهذه الصعوبة، فكلها مبنية على خطأ فكرة الجزء في ذاتها، سواء والجزء عريان أم وهو لابس هنداماً لغوياً. فالجزء يشير لواقع متوهّم لأنه ليس له شرعية في ذاته، إنما شرعيته مستمدة من دوائر نظام الخليل فقط. وأبرز الأدلة على ذلك أنّ هناك سلاسل تامة مشابهة لسلاسل شعر العرب، لكن فكرة الجزء سوف تعجز عن تجزيئها محافظة على شرط صحة الجزء. مثل هذه: //0 /0 //0 /0 / 0 //0 /0 /0 /0 [(فعولن، مفاعيلن، مفاعيلن، /0 ؟)، (فعولن، فعولن، فاعلاتن /0 /0 ؟)، (فعولن، فعولن، فاعلن، /0 /0 ؟)].

    (1) من اجل إدراك الفرق العميق بين الواقع الحقيقي والواقع المتوهّم، راجع البند 6 و7 في (مختصر خريطة العقل). ويمكنك تحميل المختصر من صفحة (علم عروض قضاعة) على الفيسبوك.

    فاحتواء الجزء على وتد واحد وسببين على الأكثر؛ هو شرط لصحته كجزء معتبر في نظام الخليل، وغيره باطل في نظامه؛ لكن هذا الشرط إنما هو شرط لصحّة الجزء في نظام الخليل في نفسه، وليس شرطاً في واقع مصفوفات الشعر العربي الذي لا يعترف بفكرة الجزء لكونه واقع متوهّم؛ سواء كان عرياناً أم كان مرتدياً هندام (فعل) الصرفية. والدليل على ذلك، أنّ شرط صحة الجزء هذا، لا يكفي لتأصيل البحر وقوالبه في نظام الخليل، إذ يجب على المتعلم لنظامه أن يراعي ضرورة تجنّب صف أجزاء البحر القياسية بكيفية ينتج عنها اجتماع عقدتين متجاورتين، أو عثرات (أي أربعة أسباب خفيفة وراء بعضها).
    فإذا لم يراع المتعلم ذلك، كان اصطفاف الأجزاء خاطئاً، لا يعكس صورتها القياسية في عروض الشعر العربي، ولا يعكس صورتها القياسية في نظام الخليل أيضاً. فلا يمكن للجزء مستفعلن أن يتبعه الجزء مفاعيلن، كاحتمال لصورة أيّ بحر قياسية، فترميز هذا الاجتماع هكذا: [مستفعلن مفاعيلن: /0/ 0 //0 //0/ 0 /0]، فهذا لو حصل فسوف يحطم مبحث الزحاف في نظام الخليل..؟ ذلك أنّ الوتدين المتجاورين لا ينتجان إلّا بفعل الزحاف على الجزء القياسي.
    كما لا يجوز العكس أيضاً، فالعكس منهما وإن كان لا ينتج عنه تجاور للأوتاد المجموعة، لكن ينتج عنه اجتماع أربعة أسباب خفيفة بين وتدين مجموعين [مفاعيلن مستفعلن: //0/ 0 /0/ 0 /0 //0]. فهذا الترميز وأمثاله مرفوض، فلا وجود له في عروض شعر العرب أبداً، لا كصورة قياسية ولا كصورة مزاحَفة.
    فلكون الجزء هكذا هو واقعه، فهو المسئول عن تلك الظاهرة المحسوسة من الجميع، وهي أنّ المتعلم لنظام الخليل، القائس بمسطرة نظامه؛ يظن في كل موضع من تعليمات نظامه أنه محيط به، لكن ما إن ينتقل إلى الصورة الكلية لنظامه، أو يبدأ في استعمال مسطرة النظام على واقع الشعر العربي؛ يجد الصورة ضبابية، ويختلط سهلُها بصعوبتها المعقّدة، فتطغى الصعوبة على السهولة فيها. ذلك أنّ الجزء في نظامه، وبسبب أنه يشير لواقع متوهّم كما قلنا؛ فهو لا يتجلّـى قائماً بنفسه في كل الأحوال، بل في معظم الأحوال هو يقع بين جزأين، خاصة في الصور المزاحفة. (2)

    (2) فترميز هذا التسلسل ( //0 ///0 ) مثلاً، له ثمانية احتمالات في نظامه، واحد منها فقط معرّف في نظامه، وهو كجزء الوافر مفاعلَـتن السالمة. أمّا الاحتمالات السبعة الباقيات فغير معرّفة لوقوعها بين الأجزاء. ففي هذه السلسلة: //0 ///0 /0 /0 //0 ///0 / 0، هو [فعولُ مفا]، وهو موضع التقاء بين جزأين في نظامه (طويل: قبض فعولن). وهو أيضاً في هذه السلسلة //0 ///0 /0 //0 ///0 / 0، موضع التقاء بين جزأين في نظامه [فعولُ فعوْ]، (متقارب: قبض فعولن الأولى والثالثة). ولن نستطرد في ذكرها. فكيف والحال هكذا سيطارد العقل ترميز هذا التسلسل في المصفوفات العربية، من أجل معرفة حقيقته بالاستناد على نظرية الخليل..! وماذا عن هذا الترميز (///0 -/0) الذي احتمالاته كثيرة جداً، بعضها معرّف وكثير منها غير معرّف..؟ وماذا عن ترميز الأجزاء المزاحفة الواقفة على متحرك بفعل الزحاف: //0 /، //0 /0 /، /0 //0 /..؟ ولاحظ أنّ ما قلناه قد تعلق باحتمالات ممكنة الحصول في مصفوفات الشعر العربي، أي أنّ النفس مطمئنة إلى أنّ ذلك الترميز ترميز عربي صحيح ضمن مصفوفة صحيحة؛ فكيف إذا أنتجت قريحة الشاعر العربي المتعلم لنظام الخليل أبياتاً، وظهر هذا الترميز في إحدى سلاسله أو كلها، مع بقاء عـجز العقل عن التعرّف عليه بسرعة ومرونة. فالنتيجة أنّ قريحته ستنطفئ بسبب اليأس الناتج عن عُقم المسطرة المستخدمة في القياس.

    ففكرة الجزء القياسي والمزاحف، المركّبين على واقع الجزء المتوهّم وليس الحقيقي؛ قلَب الإدراك العقلي عند الإنسان رأساً على عقب، الأمر الذي ورّث نظام الخليل صعوبة مزمنة لا فكاك منها؛ فهذا جعل الجزء هو الثابت، وواقع الشعر هو المتغير. وهذا يعني أنّ الخليل، بوعي أو دون وعي؛ قد قام بتكييف واقع التسلسلات والسلاسل الصوتية لتتطابق مع نظريته العروضية، وليس أنّ نظامه هو الذي يجب عليه أن يتكيّف مع الواقع لأنه وصف له أو محاولة تفسيريه له. وكيفية حصول هذا الأمر الأخير قد شرحناه في الكتاب الأم لعروض قضاعة. (3)

    (3) وهذا تماماً كما حصل مع الأصواتيين مع فكرة المقطع المتوهّمة (Syllable)، وذلك لـمّا أعياهم انطباقها على جميع السلاسل اللغوية بسلاسة؛ فقاموا بوعي أو دون وعي؛ بتكييف واقع السلاسل اللغوية لتكون هي التي في خدمة فكرة المقطع..! وكيفية حصول هذا الأمر الأخير قد شرحناه في الكتاب الأم لعروض قضاعة.

    وفكرة الجزء المتوهّمة هي المسئولة كذلك عن الاستنتاجات الخاطئة وربما الباطلة التي وقع فيها البعض. فمقولة أنّ أجزاء نظام الخليل الثمانية في اللفظ والعشرة في الحكم هي مقاطع صوتية موسيقية؛ وذلك لتبرير وجود فكرة الجزء، هي قضية خاسرة عند من راهن عليها. فبعض العروضيين المعاصرين، ولسنا بحاجة لذكر أسمائهم؛ قد أتوا بالأعاجيب استناداً على فكرة الجزء المتوهمة. فقد اخترعوا بحوراً جديدة كثيرة بواسطتها مخالفة لأبجديات عروض الشعر العربي. أو استحدثوا بالاستناد عليها قوالب جديدة للأبحر العربية القائمة، مخالفة لمواصفات قوالب الشعر العربي.
    ... يتبع.

  3. #3
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    (3)

    والسبب الثاني لصعوبة نظام الخليل، فهو ارتهان نظرية الخليل ومسطرة نظامه للمدرج الوسيط في التأصيل والتفسير، أي للحرف الصوتي بشقيه المتحرك والساكن؛ لكن الحرف الصوتي لا يصلح للتعامل مع السلاسل الصوتية لأنه غير مؤهل لذلك بسبب كونه مدرج وسيط؛ وبسبب أن الحرف الصوتي والوحدات الصوتية لا يلتقيان، فلا يمكن لأحدهما أن يسد محل الآخر. فالوحدات الصوتية الحقيقية هي السبب الخفيف والوتد المجموع والفاصلة الصغرى والكبرى؛ أما الوتد المفروق والسبب الثقيل فهي مدارج صوتية متوهمة، اخترعها الخليل من اجل ترابط نظامه وشموليته. (1)

    (1): (راجع المقالة التي بعنوان: نظام الخليل العروضي لا يحتمل التجزيء التساعي لأي سبب كان) في رابطة الواحة.

    فارتهان الخليل للحرف الصوتي في إنشاء نظامه، بالإضافة لخطأ فكرة الجزء في ذاتها؛ هو ما جعل عدد العلل في نظامه كثيراً وغير مبرر. هذا بالإضافة إلى أنه لم يُحسب في عداد العلل جميع الاحتمالات، بما يجعلها تستوعب احتمالية ورود قوالب مستدركة. فالهدف من وجود مبحث العلة أصلاً وفصلا، هو بيان طول السلسلة بعد إنقاص وحدات صوتية منها، وهذا واقع ثابت يستغرق جميع السلاسل الصوتية.
    أما عند الاقتصار على الوحدات الصوتية الحقيقية فهي فقط علتان؛ وتُفرد العلة التي تضيف الساكن لنهاية الوحدة الصوتية نهاية شطر العجز، بعلة وحدها ثابتة على طول الخط. بل أنّ إلباس الجزء هنداماً لغوياً، هذا المأخوذ من (فعل) الصرفية، قد جعل مسطرة نظامه مسطرة لغوية بالكامل؛ فالهندام مصطلح لُغوي إيقاعي، وهذا بعكس الترميز الذي هو واقع صوتي ثابت؛ فهكذا يتعامل الذهن مع مسمّى الهندام كلما حضر. فصار العقل مع هذا الصنيع مشغولاً بهيئة الهندام اللغوي بعد دخول العلة أو الزحاف، كيف يصير وكيف يُنطق. هذا إذا كان التسلسل المعين يعود لجزء مزاحف حقاً، وليس لتسلسل متموضع بين الأجزاء كما قلنا.
    وجاء صنيع الخليل بإلباس الجزء الذي تمزّق بفعل الزحاف والعلة أو بهما معاً، هنداماً لغوياً جديداً، إذ صار الهندام القديم الممزق ثقيلاً في اللفظ؛ فأضاف هذا الصنيع عبئاً إضافياً على العقل فوق العبء المتمثل بخطأ فكرة الجزء؛ حتى أنه صُنعت جداول في بعض كتب العروض توضح إلى ماذا يمكن أن يحوّل الجزء بعد أن يَعتل أو يزاحَف، أو بهما معاً..! (2)

    (2): انظر فصل [في ما يتشابه من الأجزاء بعد تغييرها وما لا يتشابه] في كتاب (شفاء الغليل في علم الخليل، ص 110)، لمحمد بن علي المحلى (ت/ 673 هـ). وكذلك فعل الدماميني (ت/ 827 هـ)، صاحب كتاب (الغامزة على خبايا الرامزة)، فقد عقد فصلاً في نهاية كتابه يبيّن ذلك (ص 224 - 231). ويُرجع ابن جنّي هذا الصنيع للخليل، ويبرره بالتالي: {إنّ الخليل **، هجر ما كان بَقّتْهُ صَنعة الزحاف من الجزء المزاحَف مما كان خارجاً عن أمثلة لغتهم. وذلك أنه لمّا طوى [الجزء] (مستفعلن) فصار إلى (مستعلن)، ثَناه إلى مثال معروف وهو (مفتعلن) لمّا كره (مستعلن)، إذ كان غير مألوف ولا مستعمل} (الخصائص، ج 2 ص 67).

    فهذا الصنيع قد أرهق العقل والذاكرة، وأعمى المسطرة وأعمى من سيقيس بها..؟ فليس صحيحاً ما زعمه أبو الحسن العروضي من أنّ السبب في عدم إبقائهم للهندام الممزق بفعل الزحاف على حاله، واستبداله بهندام آخر معروف في نظام الخليل؛ هو حتى يعلم القارئ له بتغييره عمّا كان عليه..! (الجامع، ص 202). فالعكس من ذلك هو الصحيح تماماً..؟
    فتفسير الزحاف في نظرية الخليل اعتمد على مفهوم الحرف الصوتي، حذفاً للساكن أو تسكين له إن كان محركاً؛ فتعلّق الذهن به من هذا الجانب حصراً. وبالتالي، فيجب إبراز هذا التغيير كما هو، أي ذكر هيئة الهندام الذي بقّته صَنعة الزحاف على حد تعبير ابن جني الموفّق؛ وليس بكسوته بهندام لغوي آخر محجوز في الذهن لكائن أصيل في نظام الخليل.
    ... يتبع.


  4. #4
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    (4)

    أمّا السبب التفصيلي الثالث لصعوبة نظام الخليل، وهو السبب المزمن المتسبب بذلك، فهو عدم استدلال الخليل على القوانين الصوتية العاملة على الإيقاع [التكافؤ والخبب]. وهو السبب الأوضح بينها عند العارفين والمتذمرين من صعوبة نظامه. فكل المحاولات التي هدفت للخروج على نظرية الخليل بسبب عُقم مسطرة نظامه، لإيجاد نظرية أقوى من نظريته، ومسطرة أبسط من مسطرة نظامه؛ بما فيها محاولة صاحب عروض قضاعة ومحاولات الرقميين؛ محفّزها الأول والأخير هو وجود إيقاعين في الشعر العربي، أوّلي وثانوي (قياسي ومزاحف).(1)

    (1) تأكيداً لِما قلناه تواً، من أنّ وجود إيقاعين في الشعر العربي هو السبب المزمن وراء تعقيد وصعوبة مسطرة نظام الخليل. راجع ما قالته الدكتورة ربيعة الكعبي تحت عنوان (التغييرات: الزحاف والعلة)، في كتابها (العروض والإيقاع في النظريات الحديثة، ص 346)، فقد أشارت المؤلفة لهذا الأمر. وأشار الدكتور عمر خلّوف إليه أيضاً (مجلة المنتدى، ص 46). ومع أنّ خلّوف ابتدع طريقة للتهوين من عُسر مسطرة الخليل، إلّا أنّ ذلك لم يكن كافياً لنزع صفة العُقم والصعوبة عن مسطرة نظام الخيل، لأن الصعوبة التي ورثتها مسطرة نظامه، كامنة في النظرية الخليلية؛ ثم أنّ هناك وجهاً آخر للصعوبة فيها، وهو عجزها المزمن عن الحكم على الإيقاع المستجد.

    فالجهل بوجود وحقيقة القانون العامل في واقع ما، سيمنع الباحث من صياغة نـص القانون الذي يَـنْظِم عمله على هذا الواقع صياغة محكمة؛ كدليل إرشاد عام يغني عن تعداد المصطلحات التي سوف تصف عمل هذا القانون على كل واقع له فيها مظِنّة عمل. على ما هو مشاهد في مبحثـَيّ الزحاف والعلة في نظام الخليل؛ الأمر الذي انعكس على مسطرة نظام الخليل صعوبة فوق صعوبتها الأساس المتمثل بخطأ فكرة الجزء. بل أنّ فكرة الجزء الخاطئة زادت الطين بِلّه مع هذا الأمر.
    فمفهوم زحاف الخبن (مثلاً)، والذي هو حذف الثاني الساكن من الجزء؛ يُفترض بواقعه الذي يجب أن يدل عليه، أن يكون ثابتاً في كل في سلاسل الشعر العربي، فيستحق نفس المسمّى على طول الخط؛ وذلك ليمكن للعقل التعامل معه بمرونة. لكن الخبن في نظام الخليل متغير الوقائع والمسمّيات لارتباطه بفكرة الجزء الافتراضية في نظامه. فالخبن على الجزء فاعلن في بحر البسيط أينما ورد، هو ذاته زحاف القبض على الجزء فعولن في الطويل أينما ورد، وكذلك في المتقارب؛ مع أنّ الواقع في الحالات الثلاث واحد، وهو نسق الفتلة في عروض قضاعة وحالة جدلها (لا نعم - تؤول الى- نعمم).
    بل أنه بسبب خطأ فكرة الجزء، فإنّ واقع نسق الفتلة، والذي هو واقع ثابت، سواء كان نسق الفتلة متروكاً أم مجدولاً (نعمم ///0)؛ ليس له ضابط يحكمه في نظام الخليل، فمرّة يتجلى قائماً بنفسه كجزء خماسي، فيرتدي هندام فاعلن حصراً، كما في البسيط والبندول، ومرّة لا يتجلى قائماً بنفسه كجزء، إنما تجده ضمن الجزء السباعي كما هو الحال في المديد [فاعلا من فاعلاتن]. ومرّة لا تجد له مكاناً بالمرّة، وذلك لوقوعه بين جزأين، كما في سلسلة المتقارب وسلسلة الطويل. ونتيجة لذلك، تعدد مسمّى جدل الفتلة في نظامه، فأخذ مسمّى الخبن مرّة، وأخذ مسمّى القبض في حالة أخرى، مع أنه نفس الواقع.
    ومع أنّ الشرم واقعه الصوتي واحد (أي وقوف نهاية الصدر على متحرك)، لكن التعبير عنه في نظام الخليل متعدّد، نفياً وإثباتاً؛ ذلك لأنه دخل في مبحث الزحاف في نظامه بسبب خطأ فكرة الجزء، ما زاد الأمر تعقيداً لنظامه. وقل نفس الشيء عن ظاهرة إضافة السكون للضروب، فواقعها واحد؛ لكنها حجزت من علل نظام الخليل أربعة مسمّيات (علة القصر- علة التذييل- علة التسبيغ- علة الوقف). فسبب تعددها لأربع علل في نظام الخليل، أنّ المدرج الوسيط هو أساس نظامه في التفسير والتأصيل؛ فبحسب ما ينتهي به الجزء وهو سالم قبل إضافة الساكن إليه، يتحدد مسمّى العلة المضيفة للسكون لآخر سكوت.

    والذي زاد الطين بِلّة، أنّ زحاف الخبن في نظام الخليل، له واقع مختلف على ثلاثة أجزاء في نظامه (مستفعلن، فاعلاتن، مفعولاتُ). كما أنّ فعولن تمثل قفلاً بمفهوم عروض قضاعة (نعم لا)، أي يتوقف عندها فعل قانون التكافؤ الصوتي، هذا الذي عبّر عنه الخليل بأن الزحاف لا يمس ساكن الوتد المجموع. لكن لا يخلو بحر من الأقفال، كما أنّ ثلاثة أجزاء سباعية في نظامه قد احتوت قفلاً (فاعلاتن، مفاعيلن، مفاعلَـتن) ما جعلها تقف على متحرك في الحشو في حالة زحاف الكف، مع أنّ العرب لا تقف على متحرك بشهادتهم.

    فكما ترى، فجهل الباحث بوجود قانون يعمل في واقع ما، سيؤدي إلى أنّ المصطلحات الواصفة لعمله ستتعدّد بسبب ذلك لا محالة، هذا إذا لم يؤدِ ذلك إلى انقسام الواقع الواحد لمظِنّة عمل هذا القانون، إلى وقائع متعددة، كما هو حاصل في نظام الخليل. فإن قلتَ: أنّ انضباط مفهوم زحاف القبض (مثلاً)، متحقق بكونه متعلقاً بالخامس الساكن من الجزء، والذي هو حتماً ساكن سبب خفيف. وانضباط مفهوم الخبن متحقق بكونه متعلقاً بالثاني الساكن من الجزء، والذي هو حتماً ساكن سبب خفيف أيضاً، رداً على الدعوى السابقة. أقول: هذا انضباط منقوص الأهلية؛ لأنه انضباط على مستوى الجزء النظري، وليس على مستوى سلاسل الشعر العربي التي هي الواقع الحقيقي.

    فهذا الصنيع، أي فكرة الجزء القياسي والمزاحف، المركبين على واقع الجزء المتوهّم وليس الحقيقي؛ قلَب الإدراك العقلي عند الإنسان رأساً على عقب كما قلنا، خاصة في هذه المسألة؛ ذلك لأنه جعل الجزء هو الثابت، وواقع الشعر هو المتغير. لكن الواقع المعيّن المحسوس بالنظر [أو بالسمع]، هو واقع ثابت طالما أنّ الـحس لم يلمس غير ذلك. وبالتالي، فالمصطلحات الموجهة للإشارة لوجود هذا الواقع، يُفترَض بها [بل يجب]، أن تعكس ثبات الإحساس بالواقع الذي تصفه، لتكون منضبطة ومحكمة، فتمنع بالتالي اضطراب العملية العقلية عند الإنسان. فإنه إذا انتقل واقع محدد مضبوط بمصطلح ما، إلى موقع آخر دون أن يتغير الإحساس به، فيجب على المصطلح أن يلحقه إلى موقعه الجديد، إن كان على سبيل التعريف أم كان على سبيل التنكير. لا أنّ الواقع هو الذي يجب عليه أن يلاحق المصطلح ليتكيّف معه، كما هو الحال في نظام الخليل، وكما هو مع فكرة المقطع البائسة عل ما أشرنا من قبل. فالواقع عامل ثابت كما قلنا في مختصر خريطة العقل. وبالتالي، يجب أن يتلازم الإحساس مع الواقع المعين حيثما حلّ هذا الواقع وارتحل، ما لم تصرفه قرينة واضحة جداً عنه لتدل على غيره؛ وسيكون هذا الصرف له إنما جاء من باب ماهية الواقع لا من باب وجوده. وتفصيل هذه الفقرة الأخيرة يتعذر حاليا.

    ونتيجة لكل ذلك، ولأسباب فرعية أخرى ذكرناها في الكتاب الأم لعروض قضاعة؛ فإنّ متعلّمي نظام الخليل غالباً ما يعجزون عن معرفة قالب البحر باستخدام أدوات مسطرة نظامه، خاصة إذا كان إيقاعه ثانوياً. ثم جاء تقرير الخليل للمدرجين المتوهّـمَين، الوتد المفروق والسبب الثقيل، وتشريعه للإدماء والخرم؛ فزاد الطين بِلّة أكثر وأكثر.

    توجيه: إذا كان اضطراب العملية الفكرية عند قياس الشعر بمسطرة نظام الخليل المعقدة والصعبة، بسبب ما ذكرنا؛ قد خفتت حدّتها عند من ألِفَ التعامل مع نظامه، فهذا لا يلغي التفسيرات السابقة التي ذكرناها لصعوبة مسطرة نظامه. فعقل ذاك الشخص من حيث يدري ولا يدري، قد رتّب لكل واقع في مسطرة نظام الخليل القياسية، إحساس خاص به، متخذاً قرينة اكتشفها وثبت لديه ثباتها النسبي، فاستعملها لربط نظرية الخليل بالتطبيق [بالمسطرة]، من أجل الاستدلال على قوالب البحور، وليس أبعد من ذلك. وطريقة عمر خلّوف التي وصفها بقوله: (طريقة علمية جديدة لتقطيع الشعر ومعرفة بحوره)، هي مثال جيد على هذا القول [(مجلة المنتدى)، (كن شاعراً، ص 183)]. وطريقة الأخ خشّان الرقمية مثال آخر عن ذلك. ولك أن تعتبر أنّ النظر إلى نظام الخليل من خلال عينَـيّ نظام قضاعة، هو أيضاً مثال جيد عن ذلك؛ فإتقان نظام قضاعة سوف يسمح بتجاوز صعوبة مسطرة نظام الخليل.
    ... يتبع.

  5. #5
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    (5)

    من احد تبعات الصعوبة المتأصلة في نظام الخليل العروضي، والتي هي وجه آخر خطير من أوجه الصعوبة فيه؛ ولعله الأخطر بينها بسبب تبعاته الفظيعة؛ أنه قد ساهم مساهمة فعالة في إماتة قرائح العرب؛ فالعربي لا يتعلم العروض لأجل ذاته، بل لأجل استخدامه عند النظم أو في الأبحاث اللغوية التي لها علاقة به.
    والسبب في ذلك أن الخليل لم يُقم نظريته العروضية على أساس القواعد الصوتية والإيقاعية التي راعتها قرائح العرب المعتدّ بنظمهم؛ أي القواعد التي تحكم عروض شعر العرب؛ بل أقامها على قدر ما وصل له من قوالب شعر العرب؛ وهذه القوالب هي ما شكلّت كيان نظامه، النواة وغلافها؛ بحيث انه إذا استُدرك قالب على نظامه من العرب المعتد بنظمهم، ولم يكن له مكان في نظامه، تخلخل نظامه وصنّف هذا القالب بأنه من الشواذ ظلماً. وسنكتفي هنا بمثال واحد عن ذلك، وهي قصيدة لشاعر من عصر المخضرمين، على قالب مستدرك من الوافر ليس له مكان في نظام الخليل.

    قال البريق الهُذَلي (مخضرم) – (من قصيدة عدّت 16 بيت، شرح أشعار الهُذَليين، ص 756):

    رمَيتُ بِثابت مِن ذِي نُمارٍ .... وأَردَفَ صاحِبانِ لَهُ سِواهْ
    //0 ///0 //0 /0 /0 //0 /0 .... //0 ///0 //0 ///0 نعم Ø
    مفاعلَـتن مفاعلْـتن مفاعلْ .... مفاعلَـتن مفاعلَـتن مفاعْ

    فأغْرى صاحِبَيهِ فقُلتُ مَهلاً .... فإنّ الـموتَ يَأتِي مَن أتاهْ
    //0 /0 /0 //0 ///0 //0 /0 .... //0 /0 /0 //0 /0 /0 //0 Ø

    فأوْمَأْتُ الكِنانَةَ إنّ فيها .... مَعابِلَ كَالـجَحِيمِ لَها لَظاهْ
    //0 /0 /0 //0 ///0 //0 /0 .... //0 ///0 //0 ///0 //0 Ø

    ومِنكُمْ مَيِّتٌ قَبلِي فَأبقُوا .... على أدنى الثَّلاثَةِ مَن نَعاهْ
    //0 /0 /0 //0 /0 /0 //0 /0 .... //0 /0 /0 //0 ///0 //0 Ø

    -جملة نظام الخليل في وصف هذا القالب: لم يثبت الخليل هذا القالب للوافر في نظامه، وليس له مكان فيه [الوافر ذو العروضة التامة المقطوفة، ولها ضرب ماذا..؟]؛ فبينما يمكن وصف عروضته في نظامه، فإنّ ضربه مستحيل الوصف باستعمال مصطلحات نظامه الحالية.
    - تُنقل مفاعلْ إلى (فعولن). أمّا (مفاعْ: نعم Ø) فقد ينقلوها إلى (فعولْ).

    فقد حاول الشنتريني وصف هذا القالب المستدرَك من خلال أدوات نظام الخليل، فقال أنه شذّ في ضربه الأول القَصْر (المعيار في أوزان الأشعار، ص 44). لكنه توصيف خاطئ بالنظر لبنية نظام الخليل. فعلة القصر تحذف ساكن السبب الخفيف آخر الجزء وتسكّن ما قبله؛ وعند تطبيقها على جزء الوافر (مفاعلَـتن) المنتهي بسبب خفيف [وهو سبب خفيف وهمي على الحقيقة]؛ فهذا سيوصلنا إلى مفاعلَـتْ [//0 //0] وليس إلى مفاعْ ( //0 Ø)..! فحتى توصلنا علة القصر إلى السكون المضاف للوتد المجموع ( //0 Ø)، فهذا لا يكون إلّا لو كان الضرب هو فاعلاتن أو فعولن حصراً. لكن جزء الوافر مفاعلَـتن (//0 ///0)، منتهي بالفاصلة الصغرى؛ والجزء القياسي هو منطلق تطبيق العلة، وليس الجزء المقطوف المعلول، أي الذي على هيئة فعولن؛ هو منطلقها. (1)

    (1) الذي يغلب على الظن أنّ الشنتريني قد غلب على ذهنه القول المتداول في الكتب وعلى ألسن العروضيين، عن القالب الأول للوافر في الوافر الذي أثبته الخليل في نظامه، بأنّ عروضته وضربه هي (فعولن). فأجرى علة القصر على (فعولن) دون العودة للأصل القياسي التام منطلق عمل العلة، أي العودة إلى (مفاعلَـتن) السالمة. (ظن شائك)

    وقد دار جدال على هذا القالب بين أتباع نظام الخليل، لم يتمحور حول كونه موافق لنظام العرب أم غير موافق، فنظام الخليل يعجز عن البَتّ في ذلك؛ إنما تمـحور النقاش عنه حول هل بُني على الإطلاق أم على الوقف..؟! وهل كان بناءه على الوقف كان لتجنّب الإقواء أم لا..؟ (العروض والقافية- دراسة في التأسيس والاستدراك ص 197-198).
    فلو بُني على الإطلاق فهذا معناه زيادة سبب حفيف لنهاية لعجز [** سِواهُ: ** //0 /0]، وبذلك لن يَعود قالباً مستدركاً على الخليل، إنما يكون هو النوع الأول من الوافر. فكما ترى، فكل هذا الجدل إنما هو محاولتهم لإرجاعه لنظام الخليل، حتى أنساهم ذلك أن يناقشوا هل له مكان في نظام الخليل فيما لو بُني على الوقف حقاً أم لا؛ ومحمد العَلمي احدهم.
    فليس مستغرباً أن ينتج هذا القالب عن قريحة العرب، فهو يسير على القواعد التي سارت قرائحهم عليها كما سنرى في الكتاب الأم لعروض قضاعة. والقرينة المؤكِّدة لذلك، أنّ هذا المثال للبريق الهُذَلي، ليس هو المثال الوحيد على هذا القالب المستدرك على الخليل في الوافر، فهناك قطعة ثانية على نفس هذا القالب لزياد الأعجم (أموي)، مطلعها (ألَمْ تَرَ أنَّـنـِي وَتَّـرْتُ قَوسِي ... لِأبْقَعَ مِن كِلابِ بنِي تَمِيمْ)، (من قصيدة عدّت ثمانية أبيات، ديوانه: ص 100).

    ومن هنا، فقد انطبع في الأذهان بأن القوالب التي أثبتها الخليل في نظامه، هي الممثلة حصراً لذائقة العرب الإيقاعية (العروضية)، أمّا غيرها المستجِد في كل عصر أو المستدرَك عليه، فهو لا يمثلها حتى لو كان متطابقاً مع ذائقة العرب الإيقاعية. وهذا ما عبّر عنه ابن عبد ربّه في أرجوزته قديماً، وما زال قوله سارياً لحد الآن. (العقد الفريد، ج 6، ص 288)

    هذا الذي جرّبهُ المُجرِّبُ ... مِن كل ما قالت عليه العربُ
    فكل شيءٍ لم تَقُلْ عليهِ ... فإنّنا لم نلتَفِت إليهِ
    ولا نقولُ غيرَ ما قد قالوا ... لأنهُ مِن قولِنا مُحالُ

    وفي ظل الأساسات التي انطلق منها الخليل في إنشاء نظامه، خاصة فكرة الجزء أسّ نظامه؛ فلا يمكن تطويع نظامه ليقوم على أساس ما ذكرنا. ومع كون مسطرة نظام الخليل صعبة الاستخدام جداً ومعقّدة، وكونها سيفاً مسلّطاً على الرقاب؛ فهي ليست بريئة من إماتة قرائح سواد العرب الأعظم؛ فلا هي تركت القريحة تمرّن نفسها بتنعيم العرب أو بـمتيرها دون سطوتها عليها (2)، ولا هي قدِرت أن تأخذ بيد القريحة لمرادها؛ فكل شيء في الحياة يحتاج إلى تمرين كي يصبح ملَكة يسيّرها العُقيل لا العقل، فالعربي لا يولد شاعراً من بطن أُمّه.

    (2) المتير: [قال الباقلاني:] وحكى لي بعضهم، عن أبي عمر علام ثعلب، عن ثعلب، أنّ العرب تعلّم أولادها قول الشعر بوضع غير معقول، يوضع على بعض أوزان الشعر، كأنه على وزن: قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حبيبٍ ومنزلِ، ويسمون ذلك الوضع (المتير)، واشتقاقه من المتر، وهو الجذب أو القطع، يقال: مترت الحبل، أي قطعته وجذبته. ولم يذكر هذه الحكاية غيره، فيحتمل ما قاله}. (إعجاز القرآن، ص 63. نقلاً عن (دراسة في التأسيس والاستدراك، ص 37).

    فلو كانت مسطرة نظام الخليل في متناول اليد من كل جانب، لَما خلا بيت عربي في كل عصر من شاعر يكون فيه. ومقصودي من عبارة {في متناول اليد}، هي قدرة الناظم عقلياً وليس شعورياً، على تقييم ما أنجزته قريحته من سلاسل صوتية بسرعة ومرونة ساعة اشتعال القريحة [ساعة نظمها]، مع القدرة على تصويب ما أخطأت القريحة غير المصقولة جيداً في نظمه، ومعرفة الخيارات الممكنة للتصحيح بسرعة ومرونة دون مثال كان يُـحتذى، لا سمعياً ولا بصرياً. سواء وردت هذه القوالب عن العرب أم لم تـرِد، اللهم أنها تسير بحسب القواعد التي راعتها قرائح العرب. فاشتعال القريحة لتبدأ النظم متى ما أراد الشاعر، ليس من طبعها، بل أنّ المؤكد في طبعها أنها سريعة الانطفاء إذا لم ترِدها الصور من المخيلة تدور حول القافية بسرعة.

    توضيح: المقصود بقولي {دون مثال كان يُحتذى، لا سمعياً ولا بصرياً}: أي أنّ الهدف الأسمى للنظرية العروضية العربية الواجب عليها أن تحققه في الميدان العروضي، ومن مسطرة النظرية التي يجب أن تمثلها كأداة قياس؛ لا يعكسه المتير الذي يحاول فيه بعض من الناظمين تشرّب إيقاع عربي ما سمعياً، من خلال حفظ أبيات منظومة مسبّقاً تعكس إيقاع بحر عربي معيّن تام، أو قالب معيّن فيه، ثم بجعل قريحته تحاول محاكاته. وانتبه أني لا أقول أنّ هذا خطأ، بل أقول أنّ هذه الطريقة ليست مثالاً على الهدف الأسمى المقصود. فهذه الطريقة هي طريقة لصقل القريحة وليست طريقة لقياس مدى جودة المسطرة العروضية عقلياً.
    أو محاولة بعض الناظمين بصرياً، وضع أجزاء نظام الخليل لبحر تام أو قالب فيه نصب العين مع جوازاتها، ومن ثم محاولة إسقاط تراكيب الكلام عليها. فما ينتج عن النظم البَصَري والمتير شعر ركيك جداً، تماماً كما وصفه أبو فراس الحمداني رحمه الله، حينما قال: (ديوانه، ص 177)

    تَناهَضَ القومُ للمعالي ... لـمّا رأوا نحوَها نُهوضي
    تَكلّـفوا الـمَكرُماتِ كَـدّاً ... تَكلّفَ الشّعرِ بالـعَروضِ

    وإنه وإن كان النظم السمعي أحسن حالاً بكثير من النظم البصري، لكن كلاهما في النهاية نظم عقل وليس نظم قريحة، ونظم العقل ينتج عنه شعر ركيك في الغالب. فاشتعال القريحة لتبدأ النظم متى ما أراد الشاعر، ليس من طبعها كما قلنا.


    والذي ذكرت آنفاً هو الهدف الأسمى من صناعة علم العروض العربي على الأخص، ومن المسطرة التي يجب أن تمثله. ذلك أنّ علم العروض علم عقلي وليس علم شعوري، وبالتالي فلا دخل للقريحة ولا للشعور بأحكامه. فتحقيق هذا الهدف يستتبع معه تحقيق جميع الأهداف الأخرى، تلك التي تُسهب كتب العروض في شرحها، القديمة منها والحديثة. [راجع ما قاله أبو الحسن العروضي بهذا الخصوص، فقد أسهب في شرح ذلك تحت عنوان (باب الحض على تعلّم علم العروض)- الجامع، ص 35 - 45]
    فلو حقّقت مسطرة نظام الخليل الهدف الأسمى الذي ذكرته، لكانت الأهداف التي قالها أبو الحسن العروضي وغيره، قد تحققت بالمعيّة لجميع العرب وليس للخاصة منهم. ولما وُجِد في زمنه [وما قبله وما بعده]، مَن جعل عـجزه عن استعمال مسطرة الخليل، ينقلب إلى التقليل من شأن علم العروض بعامة. فهُم إنما طعنوا في نظام الخليل بسبب عجزهم عن استعمال مسطرة نظامه الصعبة الاستخدام والفاقدة للمرونة؛ دفاعاً منهم عن سلامة عقولهم أمام الناس [حيلة نفسية].

    ولو كانت مسطرة نظام الخليل مسطرة سهلة ومنضبطة ومَرِنة، لكان المستعملين لها هُم الأكثرية، وبالتالي من لم يتقن القياس بها كان سينقمع من قِبل الأكثرية، بل ومن قِبل نفسه فيما لو انتقص من شأن هذا العلم، فلا تجد له حِسّاً حينها، خوفاً من فضح نفسه التي عـجزت عن ما أتقنه الكثيرون. فهل رأيت جهّالاً بالقراءة والكتابة في زماننا هذا، يزعم واحدهم أنه لا فائدة منها، خاصة وأنّ الأطفال يتقنونها..!
    ... يتبع.

  6. #6
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    (6)

    عدم قدرة المستخدِم لنظام الخليل على الحكم على الإيقاع المستجَد أو المستدرَك، أهو عربي أم غير عربي. وإذا كان عربياً في الإطار العام، هل هو موافق لشروط العرب أم شاذ عنه؛ هو بحد ذاته صعوبة قائمة بنفسها في نظامه. فنظام الخليل عاجز على الحكم على الإيقاع المستحدَث عجزاً مزمناً؛ فحتى لو كان القالب المستجَد محل البحث عربياً في الإطار العام، فهل هو خالٍ من أية مخالفة إيقاعية، أم به مخالفة إيقاعية؛ وهل المخالفة الإيقاعية الحاصلة بسيطة ما يجعل الحاصل معها كسر نَغم، أم هي مخالفة خطيرة ما يجعل الحاصل معها هو كسر إيقاع مرفوض حتى لو كان منشأه قانونياً. فكل هذا لا يستطيعه نظام الخليل. أمّا نظام قضاعة فيستطيع ذلك؛ فنظرية قضاعة قامت على القواعد الصوتية والإيقاعية التي سارت عليها قرائح العرب، سواء وردت القوالب موثقة عنهم أم أبدعها شاعر معاصر.

    فالنظرية العروضية ومسطرتها من ورائها، إذا فقدت القدرة على الحكم على ذلك بموثوقية عالية، فقد فقدت الهدف الجوهري منها، حتى لو أرغمت ظروف موضوعية بقائها مهيمنة على الساحة العروضية؛ ذلك أنّ قضية العروض العربي برمتها هي قضية إيقاعية وليست قضية لُغوية. فإذا كان نظام الخليل العروضي قد أدّى الدور المنوط به طوال مدة ألف ومائتي سنة تقريبا، فهذا لا يقدح فيما ذكرناه تواً؛ وهناك سبب عقلي يشرح ذلك. (1)

    (1): السبب العقلي الذي يشرح ذلك، يشرحه البند العقلي رقم 12 في (مختصر خريطة العقل)، وهو: أنّ الحكم الظنّي المستوفي للشروط المعتبرة، أي له براهين وقرائن معتبرة وليس عن هوى؛ حتى لو كان موجهاً لوجود الواقع وليس لماهيته فقط، هو فكر صائب؛ فيظل صائباً حتى يتبين خطؤه؛ فإذا تبيّن خطؤه فعندئذ فقط يُحكم عليه بالخطأ. وعلى ذلك، فالتذمر من صعوبة نظام الخليل والإقرار بوجود أخطاء فيه، هو شيء مختلف عن العجز عن إيجاد بديل له أفضل منه ومـُحكم مثله؛ فلم يستطع احد مدة ألف ومائتي سنة تقريبا [حتى مولد عروض قضاعة كما أزعم]؛ أن يأتي بما هو أحسن من نظام الخليل، ناهيك عن أن ينقضه، لهو الدليل العقلي على ذلك.
    بما في ذلك محاولة أحد العروضيين الرقميين، الذي زعم أن طريقته الرقمية تجسيد لفكر الخليل الشمولي..! فصرفَ بهذا الادعاء بعض العرب عن عروض الخليل إلى طريقته الرقمية، وما عادوا يعرفون عن نظام الخليل إلّا شكليات؛ لكنه أتى بأعاجيب نقض بها أساسات نظرية الخليل دون يدري. وسيكون لنا مقالة طويلة قريباً، ننسف فيها مزاعمه.


    فلا شك أنّ القوالب الموسيقية العربية عالية الطراز، وقد تأكد لنا ذلك في الكتاب الأم لعروض قضاعة؛ لكن هذا النظم العالي الطراز بنظر الأتباع، قد انحصر فيما أثبته الخليل من قوالب في نظامه؛ لكن نظرية الخليل بسبب طبيعتها، والتي هي مستندهم في الحكم؛ عاجزة على الحكم على الإيقاع المستحدَث والمستدرك عجزاً مزمناً. وإذا لم يكن للقالب المستدرَك مكان في نظام الخليل، لا يتردد القوم بالحكم عليه بالشذوذ، مع عدم قدرتهم على بيان سبب شذوذه بياناً شافياً (راجع المعيار للشنتريني كمثال). مع أنّ قضية العروض العربي برمتها هي قضية إيقاعية وليست قضية لُغوية كما قلنا وسنظل نقول.

    فمثلاً: عدا عن الأمثلة التي مرّت معنا سابقاً، ولا مكان لها في نظام الخليل؛ فإنه إذا تواجه نظامه مع نظم على الهزج التام، كما في قصيدة للبحتري (عباسي ت/ 284 هـ) [وهي قصيدة عدّت تسعة أبيات، ديوانه: قطعة رقم 452، ص 1119، مطلعها: أَبـَا الْـعَبـّاسِ بَـرَّزْتَ عَلى قَـوْمِ ... كَ آداباً وَأَخْلاقـاً وَتَبـْرِيْـزا: مفاعيلن مفاعيلُ مفاعيلُ ... مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن]. حيث لم يرد في نظمه هذا مفاعلَتن لتُحسَب على الوافر التام الذي له مكان في نظامه؛ فليس للهزج التام مكان في نظام الخليل، لأن الخليل يعتبر الهزج مجزوء وجوباً؛ لكن حُـجّة الـجَـزْء وجوباً ليست حُـجّة إيقاعية معتبرة، ولا حجة صوتية معتبرة.

    أمّا إذا تواجه نظام الخليل مع هذا النظم العالي الطراز والجميل لشاعر معاصر، الموافق لشروط العرب في صناعة القوالب، والموافق لطريقتهم في النظم كذلك؛ فسوف يحكم عليه أتباع نظام الخليل بأنه ليس بعربي؛ ليس لشيءٍ إلّا بسبب أنه ليس له مكان في نظام الخليل..!

    قال الشاعر اليمني جَبر البعداني (شاعر معاصر): (نقلاً من موقع العروض الرقمي للأستاذ خشان: https://arood.com/vb/showthread.php?p=56008#post56008)


    مَــسَائِـيْ مَــداراتٌ مِنَ الْأَرَقِ ... وَصُـبْحِـيْ مَساحاتٌ مِنَ الْــقَــلَقِ
    //0 /0 - //0 /0 /0 - //0 / - //0 ... //0 /0 - //0 /0 /0 - //0 / - //0
    فعولن مفاعيلن فعولُ مفا ... فعولن مفاعيلن فعولُ مفا

    وَيَــوْمِيْ فَـما يَــوْمِـيْ سِوَى نَـــزَقٍ ... سَأَمـْشِيـْهِ فِي شَـوْقٍ إلى نَـــزَقِ
    //0 /0 - //0 /0 /0 - //0 / - //0 ... //0 /0 - //0 /0 /0 - //0 / - //0

    حَياتِـيْ كَـمَا قَــلْبِـيْ مُـعَـلَّــقَــةٌ ... مِنَ الْـوِجْدِ مَا خُـطَّـتْ عَلَى وَرَقِ
    //0 /0 - //0 /0 /0 - //0 / - //0 ... //0 /0 - //0 /0 /0 - //0 / - //0

    فهذا القالب من الطويل، وهو موافق لشروط العرب في النظم بحسب تقرير نظام قضاعة. لكن لم يثبته الخليل في نظامه، بل لا مكان له فيه إطلاقاً. فلم يصنع الخليل علة تحذف أربعة حروف من الجزء، ممثلة بسببين خفيفين متروكين [عيلن من مفاعيلن]، فأقصى مقدار قد تحذفه علة من حروف آخر الجزء في نظام الخليل، فيستطيع نظامه تحمله؛ هو ثلاثة أحرف [على ما شرحنا عند تفسير عند علل نظام الخليل في الكتاب الأم لعروض قضاعة]. كما أنّ توصيف الضرب لهه القصيدة التوصيف الصحيح في نظامه، سيواجه معضلة عويصة، فهو بحاجة إلى مفهوم الاعتماد في المتقارب وليس مفهومه الذي في الطويل؛ وذلك ليشير إلى ضرورة التزام قبض فعولن التي قبل العروضة والضرب [فعولُ مفَا //0 / //0]، لا على الاستحسان كما هو الحال في الطويل، بل على الوجوب كما هو الحال في المتقارب.(2)

    (2) الاعتماد في نظام الخليل لقَب للزحاف وليس زحافاً. فالاعتماد فيه عموماً، هو وصف متعلق بزحاف جزء في الحشو، لكن أثر فعل هذا الزحاف سيقع على تسلسل الضرب؛ ومفهوم الاعتماد في المتقارب معاكس لمفهوم الاعتماد في الطويل. فهو في الطويل محصور بعجز النوع الثالث فيه [فعولن مفاعيلن فعولن مفاعي: الطويل ذو العروضة التامة المقبوضة، ولها ضرب محذوف معتمَد]. فالاعتماد في الطويل هو أنّ ورود (فعولن) قبل الضرب المحذوف سالمة من زحاف القبض، هو أمرٌ قبيح؛ أمّا ورودها مقبوضة فهو الحسن (فعولُ). فقبضها هو الاعتماد هنا، أي أنّ الاعتماد في الطويل على الجواز وليس الوجوب. أمّا الاعتماد في المتقارب فقصته مختلفة، فعدا عن أنّ مفهومه معاكس تماماً لمفهومه في الطويل، فأيضاً وظيفته في المتقارب مختلفة تماماً. فهو في المتقارب، وفي في النوع الثالث والخامس منه [النوع 5: فعولن فعولن فعولن فعو: المتقارب ذو العروضة التامة الجائز فيها الحذف والقبض والقصر، ولها ضرب أبتر معتمَد]. فالاعتماد فيه يعني وجوب المحافظة على سلامة فعولن من زحاف القبض في العجز، هذه التي قبل (فعو). وهذا الاضطراب في مفهوم الاعتماد في نظام الخليل، سببه خطأ فكرة الجزء.

    وقد ذكر أبو الحسن العروضي (ت/ 342 هـ) هذا القالب من الطويل ، فشنّع على صانعه أشد تشنيع، ليس لشيء سوى انه لا مكان له في نظام الخليل؛ وذلك تحت عنوان (باب الاحتجاج للعَروض والرد على من خالفَ أبنية العرب)؛ ولنستمع لِما قاله أبا الحسن من البداية، فمن وراء ذلك مغزى لنا. قال: {**، فإنّ قوماً يزعمون أنّ الأبنيَة يجوز أن تكون أكثر من هذه، وأنّ الخليل لم يحصرها عن آخرها. ويقولون لو أنّ إنساناً عمل شعراً من عنده واخترع وزناً من ذاته، لكان ذلك جائزاً. ونحن نبيّن فساد ما ادّعى هؤلاء ونستقصي الـحُجّة عليه إن شاء الله تعالى. أمّا مَنِ ادّعى أنّ أوزان الشعر أكثر من هذه التي ذكرها الخليل فيقال له: من أين صَـحَّ عندك ذلك، أمِن جهة رواية وقعت إليك، أم مِن ظن ظننته..؟ فليس بالظنّ يبطل اليقين، ولا بالشكوك تَـفسُد البراهين}. (الجامع ص 60).

    ثم انحرفَ أبو الحسن عن موضع النزاع، فجعل اعتراض المعترض على ذلك وكأنّه ملازم لاتهام الخليل في علمه وقدره، مع انه ليس هناك تلازم بينهما أصلاً، فكلٌّ يؤخذ من قوله ويرد عليه، والاحترام والتقدير هو غير التقديس الأعمى؛ فقال أبو الحسن متابعاً قوله السابق: {وإن كان من جهة رواية، فما أحسبك تحشر الخليل في الرواية ولا تتقدمه في الدراية، إذ كان هذا الرجل [يقصد الخليل]، قد ظهر من علمه وبراعته، ما قد بان فضله عند العامة والخاصة من أهل العلم}.

    ثم عاد أبو الحسن لموضع النزاع فقال: {وإذا تُتبّعت الأشعار التي نقلتها الرواة عن العرب الفصحاء لم تخرج عن الأوزان التي ذكرها الخليل، ويشهد بعضها لبعض؛ فكيف يمكن أن تكون الأوزان أكثر من هذه وقد حُدّت وجُـمعت وأُخذ فيها بالوثيقة، ولم يُترك لطاعن متكلّم ولا لشَغْب مَغْمَز}.
    ثم ذكر حجة المعترض القوية، تمهيداً للرد عليها، فقال: {فإنِ احتجّ مـحتج فقال: الدليل على أنّ الأوزان أكثر من هذه، وأنّ الخليل قد أغفلَ منها شيئاً؛ وإذا جاز الإغفال عليه في بعضها، جاز أن تكون هاهنا أشياء قد ذهبت عنه لم تبلغنا؛ كما في ما يُروى عن عُبيد بن الأبرص **، وقول الحارث بن حنش السلّمي **، وقول محمد بن إياس الليثي **، وقول سلَمة بن ربيعة الضبي **، وقول أم تأبّط شرا **، وقول المحدثين منهم أبو نواس **. فهذه الأشعار لا تخرج من العروض ولم يذكرها الخليل، ولعل أشياء كثيرة لم تبلغنا قد ذهبت عليه ولم يُحِط بها علمه، مما شكّوا أن تكون الأوزان أكثر من هذه}. (3)

    (3) المقصود بما يروى عن عبيد الأبرص، هو قصيدته المضطربة على مخلع البسيط التي مطلعها: (أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ مَلْحُوْبُ ... فَالْقُطَّبِيّاتُ فَالذّنُوبُ). والمقصود بقول الحارث بن حنش السلّمي، هو مشطور له على البسيط لم يثبته الخليل في نظامه، مطلعها: إنّ أَخِيْ هاشِمَاً لَيسَ أَخَاً واحِدْ. والمقصود بقول محمد بن إياس الليثي، هو مقطوعته على الرمل لم يثبته الخليل في نظامه، مطلعها: إنّ لَيلِيْ طالَ واللّيلُ قَصِيرُ ... طالَ حَتّى كادَ صُبْحٌ لا يُنِيـْرُ. والمقصود بقول سلَمة بن ربيعة الضبي، هو قصيدته له على قالب في البسيط لم يثبته الخليل في نظامه، مطلعها: إنّ شِــواءً وَنـَشـــْوَةً ... وَخَــبَـبَ الْبـازِلِ الْأمُــوْنِ. والمقصود بقول أم تأبّط شراً، هي القصيدة التي تنسب أيضاً للسَلَكة أم السُلَيك، اختلف عروضي الخليل عليها أهي تنسب للمديد أم للرمل، وعروض قضاعة ينسيها للمديد: مطلعها وثاني بيت فيها: طافَ يَـبْـغي نَـجْــوَةً... مِن هَــلاكٍ فَهَـلَكْ. ليتَ شِعْري ضلَّـةً ... أيُّ شيءٍ قـتَــلَـكْ. والمقصود بقول أبا نواس، هو قالب للمنسرح مستدرك على الخليل ولم يثبته الخليل في نظامه، وهذا القالب من المنسرح نظم عليه شعراء قبل زمن أبي نواس، وهما: عمرو بن أحمر الباهلي- مخضرم، فله عليه قصيدة سبق وعرضناها، مطلعها: عَذَّبَنِي ذُو الجَلالِ بالنّارِ ... إنْ هامَ قَلبي بِذاتِ إسْوارِ. ونظم عليه كذلك شاعر أموي مقطوعة، هو قيس بن ذُرَيح، مطلعها: ماتَتْ لُبَيْنَى فَمَوْتُها مَوْتِيْ ... هَل تَنفَعَنْ حَسْرَةٌ على الْفَوْتِ. فهذه القطع لها مكان في نظام الخليل لكن الخليل لم يثبتها في نظامه.

    فيردّ أبو الحسن العروضي على هذه الدعوى فيقول: {**، وما هذه الأشعار الشواذ في جنب الأشعار الصحيحة الوزن، إلّا كالإبرة التي ترى في الجبل الذي لا يخفى. **، وبعدُ، فإنّ هذه الأشعار التي ذكرت أنها لا تخرج من العروض، أنّ الخليل لم يذكرها؛ فكلها لها مذهَب في العروض نبيّنه ونوضحه؛ وكلها ذكرها الخليل ولوّح بها وعرّض بذكرها}. (الجامع، ص 60 - 66)
    وعن قالب الطويل المذكور سابقاً، الذي جاء عليه قول شاعرنا المبدع جَبر البعداني، قال أبو الحسن (ص 67): {**، قد كان هذا الرجل الذي عرّضنا بذكره، يزعم أنّ له أوزاناً هو اخترعها وابتدعها لم يسبقه احد إلى مثلها، وكان له قوم يتعصبون لمذهبه **، وليس يـحسّون بمواضع التلبيس فيها لضعفهم في هذا العلم وقلة بصيرتهم فيه, **، ومما لَـبّس فيه قوله:

    بِـنَـفْسِيْ حَبِـيْبٌ صَدَّ وَاجْـتَـنَــبَا ... وَأَظـْــ هَـرَ لا مِنْ رِيْـبَـةً غَضَــبَا
    //0 /0 - //0 /0 /0 - //0 / - //0 ... //0 / - //0 /0 /0 - //0 / - //0
    فعولن مفاعيلن فعولُ مفا .... فعولُ مفاعيلن فعولُ مفا

    وَوَالله ما أذْنَــبْـتُ أَعـْــلَـمُــهُ ... إلَـيْــهِ، ولا وَجَـدْتُــهُ سَـبَـــبَا
    //0 /0 - //0 /0 /0 - //0 / - //0 .... //0 / - //0 /0 /0 - //0 / - //0

    فهذا الشعر مركّب، جعل في صدر كل بيت منه فعولن فعولن، ثم جعل بعده فاعلن فعِلن؛ وكذلك فعل في النصف الأخير. ويجوز أن يكون عَمد إلى الطويل فجعل عروضته وضربه فعِلْ، لأن أجزاءه كلها تخرج من الطويل إلّا العروضة والضرب؛ فكأنه قصد إلى مفاعلن [عروضة الطويل التي ليس له عروضة غيرها في نظام الخليل]، فحذف منها (علن) فبقي (مفا)، فنقله إلى فعِـلْ}. (الجامع، ص 70)

    ثم انصرف أبو الحسن العروضي يهاجم هذا القالب ويهاجم صانعه، بكلام هو أوهى من بيت العنكبوت؛ قال: {وما مثله في هذا إلّا مثل من تعمّد الـلّحن وقصد الخطأ، لأنه إذا قصد إلى أوزان العرب فبدأ بها، ثم خلط بها غيرها وقال هذا وزني؛ قيل له: ما هذا بوزن، ولكنك أخطأت الوزن وخالفت الوضع، **، وما أنت في هذا إلّا مثل رجل قال قد وضعت غريباً لنفسي فسمّيت الذهب (الشغليق)، والفضة (الطفَفْثور)، **، وكرجل قال قد عملت لنفسي نحواً لم يسبقني إليه أحد، خالفت فيه جميع العرب؛ فنصبت الفاعل ورفعت المفعول، **، أفلا ترى إلى شناعة هذا القول وقبحه؛ فكذلك يقبح قول من يقول قد ابتدعت وزناً من عندي، **، إلّا أنّ القبح الأول أبين لمعرفة الناس به ووضوحه عندهم، وهذا يَبعد عليهم لقلة أُنـْسهِم به ومِرانهم فيه، فلذلك احتمل هذا التلبيس وخفِـيَ عليهم}. (الجامع، ص 70)

    أقول (ابو الطيب): هل لاحظت أنّ أبا الحسن رحمه الله، قد غابت عنه حقيقة الشعر نفسها، وأنه يخلط بين أمرين، الأول: بين البحر وقوالبه، والثاني: بين عروض شعر العرب وعروض غيرها. أمّا أنّ أبا الحسن قد غابت عنه حقيقة الشعر نفسها، وأنه يخلط بين عروض شعر العرب وعروض غيرها؛ فهذا واضح من جعله مخالفة أوزان العرب التي أثبتها الخليل، هو بمرتبة الخطأ في النحو واللغة..!
    لكن الكلام في الشعر ليس فيه خروج على قواعد اللغة؛ فمفهوم الشعر عموماً، هو استخدام جُمل اللغة المعينة في الشعر بأسلوب مثير للعواطف، غير الأسلوب العادي في الكلام. وهو بمفهوم العرب موزون مقفّى. وعند غيرهم من الأقوام، قد يكون موزوناً على شرط العرب وقد لا يكون. وقد يكون مقفّى وقد لا يكون. فتتويج جميع جمل الشعر بالقافية يرجع لثراء اللغة وطبيعة نحوها وصرفها، وليس لأيّ سبب آخر. (الجملة في الشعر العربي، ص: 5- 18). وعلى ذلك، فمفهوم الشعر أوسع من مفهوم العروض بكثير ؛ فعند العرب شعر، وعند الأقوام غيرهم شعر؛ أمّا أنّ شعر العرب أعلى كعباً من شعر غيرها بسبب كذا وكذا، فهذا تفصيل إضافي لا يسلب استحقاق ما أنتجه غير العرب بهذا الشرط، مسمّى شعر. (4)

    (4) ونفس هذا الرأي عن المفهوم المغلوط للشعر عموماً، سنجده عند الأخفش (ت/ 221 هـ)، وعند تلميذه الزجّاج (ت/ 311 هـ)، قال الأخفش: {**، فإنهم جمعوا كل ما وصل إليهم من أبنية العرب، فعرفوا حروفها ساكنها ومتحركها. وهذا البناء المؤلّف من الكلام هو الذي تسميه العرب شعراً. **، وما خالفه وإن أشبهه في بعض الأشياء، فليس اسمه شعراً} (العروض للأخفش، 143). وقال الزجّاج نفس قول الأخفش تقريباً، إلّا انه زاد فقال: {**، فلم يَـخف عليهم من ذلك إلّا ما لا بال به}. (العروض للزجّاج، ص 120). فلو كان الاتفاق على مفهوم الشعر بمعناه العام حاضراً عندهم، لَما اختلف على منهوك الرجز ومنهوك المنسرح بأنها ليست بشعر (دراسة في التأسيس والاستدراك، ص 203)، مع أنها في الإطار العام قد مضت على ما مضت عليه مشطورات السريع.

    بل أنّ الكلام المنظوم على هيئة قوالب العرب، أي مؤلفاً من أنساق كما يقول عروض قضاعة لكنها غير منتظمة التكرار، أو يكون القالب معلول المهاد في أصله، أو غير محقق للقاطع، أو غير ملتزم بأحكام التلوين؛ فهو يستحق مسمّى شعر أيضاً. بل لو قد التزم فيه بوجه واحد من الإيقاع لا يفارقه، لكن أسسه العروضية مخالفة لأسس عروض العرب، كأن يكون متعثراً، فهو يستحق مسمّى شعر أيضاً. لكن لا يحق لناظمه أن يطالبنا بأن نخـتم له بختم الخليل أو بختم قضاعة، بأنّ نظمه نظم عربي؛ فهذا هو أصل الخلاف في هذه المسألة، وهذا هو دافع حضور نظرية عروضية عربية تصف وتقنن علم عروض العرب لتميزه عن غيره ليس إلّا. (5)

    (5): (راجع المقالة التي بعنوان: (الفرق بين الإيقاع المجرّد والإيقاع العربي، وأهمية العروض للعربية)- في رابطة الواحة.
    وبمعنى آخر، يحق لهذا الرجل الذي لم يسمّه لنا أبا الحسن، إنما اكتفى بأن عرّضَ بذكره؛ أن يخترع من الأوزان على هيئة قوالب العرب ما شاء. ووظيفة العروضي أن يقرر أيّ من هذه الأوزان موافقة لشروط العرب، وأيها مخالف لها؛ لكن لا يحق للعروضي أن يسلب شموله بمصطلح (شعر)؛ ولا يحق لهذا الأخير أن يرغمنا على اعتبار كل ما استحدثه تابع لنظم العرب بالضرورة.

    ... يتبع.

  7. #7
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    (7)

    والأصل الثاني للخلاف بيننا وبين أبي الحسن وغيره، هو في هل نظام الخليل قادر على الحكم بموثوقية على هذه الأوزان، بأنها تتبع لشروط العرب أم أنها لا تتبع لها؛ أم أنّ نظامه عاجز عن ذلك. والجواب هو أنه عاجز عن ذلك قطعاً، وعلامة ذلك هو اعتراضات أبي الحسن المتناقضة في الرد على هذه المسألة. وأنهم يصفون كل ما لم يثبته الخليل في نظامه بأنه شاذ ونادر، وتناسوا بأنّ هناك مما أثبته الخليل في نظامه، ينطبق عليه توصيف كونه شاذ ونادر أيضاً.
    ومثال ذلك الضرب المسبغ من الرمل (الشاهد رقم 109 من شواهد الخليل)، وكذلك الضرب المقصور المخبون من الخفيف، (الشاهد رقم 154). وقالب المضارع المجزوء (الشاهد رقم 156). فهذه القوالب شواهدها معدومة عن العرب المعتد بنظمهم [راجع دراسة توثيقية للعلَمي- جزء الدواوين، ص 21]، هؤلاء الذين هم عماد الخليل وأبي الطيب البلوي في إقامة نظرياتهم العروضية باستقراء نظمهم. (1)

    (1) ذلك الشاهد الوحيد الذي زعمه محمد العلمي على الضرب المسبغ من الرمل لعدي بن زيد العبادي (جاهلي) [ديوان عَدَيّ بن زيد العبادي: قطعة رقم 135، ص 180). وانظر (دراسة توثيقية للعلَمي- جزء الدواوين، ص 18، 21، 51]، فهذا الشاهد قد ألْحَقه محمد العلمي بالضرب المُسبَغ في الرمل من خلال فرض التقييد على قافيته غصباً، لأنه إذا افترض قافيته مطلقة، فلن يكون للقالب الناشئ عن ذلك مكان في نظام الخليل. فهذه المقطوعة لعدي مقطوعة حائرة؛ أي لها روايات مختلفة عروضياً عن بعضها البعض. والملاحظ أنّ محقق ديوان عَدي بن زيد الذي يعتمد عليه العَلمي أيضاً، قد ضبط رَوِيّ القافية بالفتحة، وهو النون. أي بإطلاق الروي، فينشأ عن ذلك قالب لم يثبته الخليل في نظامه، لا للرمل ولا للمديد. وليس بتقييده على ما اعتبره العَلمي لكي يقع على الضرب المسبغ من الرمل عند الخليل؛ خاصة وأنّ مظِنّة الإقواء فيها غائبة.

    أمّا أنّ أبا الحسن خلط بين البحر وقوالبه في دفاعه عن نظام الخليل في وجه المعارضين، أو في وجه المتذمّرين من صعوبة مسطرة نظامه؛ فلو أنّ كلامه عن الخليل قد توجّه بكونه حصر الأبحر فلم يترك لطاعن حـجّة، فهذا صحيح؛ فحتى بحر المتدارك الذي يسميه نظام قضاعة (بحر البندول) لأسباب موضوعية، وكذلك بحر الخبب الذي يسميه نظام قضاعة (بحر الراقص) لأسباب موضوعية أبضا، فقد حصرهما الخليل، إذ هو نص على طرحهما من نظامه، ليس لأنهما غير عربيين، بل لخطرهما معاً على نظامه. وحتى مع اعتراض عروض قضاعة على الخليل بشأن المضارع بأنه فاسد، والمراقبة فيه باطلة؛ لكن أصله كبحر في (دائرة قحطان) في نظام قضاعة موجود.

    أمّا قوله بأن الخليل حصر قوالب العرب الممكنة جميعها في نظامه، فلم يترك لطاعن مغمَز، فهذا غير صحيح؛ فالقوالب بالضرورة يجب أنّ تتعدد لأكثر من سبب، وبالضرورة سيكون الخليل قد غَفِل عن بعضها مما هو موجود فعلاً، وغفل عن كثير مما يمكن أن يوجد نظرياً..؟
    ذلك أنّ نظام الخليل لم يقم على بيان القواعد التي سارت عليها قرائح العرب كما قلنا، فلو قام على ذلك، فحينها ليس من داع لحصر جميع القوالب الممكنة الوجود، والعالية الطراز في نفس الوقت؛ إلّا على سبيل الرفاهية. لكن نظام الخليل صُنع وركّب أساساً على قدر ما وصلَ للخليل من قوالب شعر العرب، بحيث إذا ورد قالب لم يُحسب حسابه، كاستدراك أو كتصوّر نظري؛ تضعضع نظامه. وقد رأينا كيف أنّ مبحث العلة في نظامه، قد عجز عن استيعاب قوالب استدركت عليه استدراكاً حقيقياً موثّـقاً.

    ثم إنّ تعدّد القوالب في البحر الواحد، هو حاجة للقريحة المطبوعة لأكثر من سبب. سواء جاء السبب من جهة ضرورة تعدّد الضروب لتلبي حاجة القريحة لقوافي الوحدات صوتية متنوعة في كل بحر؛ فالقافية التي ستلتحم بالسبب الخفيف، يتوجب أن يتوفر لها ضرب ينتهي به. أو جاء السبب من جهة الإطلاق والتقييد. أو جاء السبب من جهة الأطوال اللازمة للتعبير عن أفكار الشاعر وتصوّراته وتشبيهاته. أو جاء من جهة أحكام أخرى يعجز نظام الخليل عن بيانها وشرحها كأحكام المهاد وأحكام قاطع البحر. ولا يمكن تطوير نظام الخليل في ظل الأساسات التي بُني عليها، ليكون قادراً على تلبية كل ذلك دفعة واحدة. ولذلك، فبالضرورة سيكون الخليل قد غَفِل في نظامه عن بعض القوالب.

    وقد تحاشى أبو الحسن في دفاعه عن نظام الخليل، أن يسأل نفسه: لماذا مثل هذا اللغط يحصل في نظرية الخليل ومسطرة نظامه، عند استخدامهما في الحكم على الإيقاع المستحدَث..؟ والجواب على ذلك أنّ مسطرة نظام الخليل عقيمة وصعبة الاستخدام، حتى لو قصَرنا استخدامها على القوالب التي أثبتها الخليل في نظامه؛ وهذا لم يرد أبا الحسن الاعتراف به.
    وقد كان يكفي أبا الحسن بدل هذه المحاضرة المليئة بالمغالطات، أن يجيب على كل هذه الاعتراضات الموجهة لنظام الخليل، حتى لو بدت اعتراضاتهم لها محل مقبول لكنها مرفوضة مع ذلك؛ أن يقول: إنّ الحكم الظنّي المستوفي للشروط المعتبرة، كنظرية الخليل؛ هو فكر صائب؛ فيظل صائباً حتى يتبين خطؤه، فإذا تبيّن خطؤه فعندئذ فقط يُحكم عليه بالخطأ. (خريطة العقل: البند 17).
    ومنبع ثورة أبا الحسن، هو أنّ الجميع منذ صنع الخليل هذا العلم، قد عـجزوا عن نقض أساساته والإتيان بأفضل مما أتى به الخليل على وفق أسس نظامه نفسها، أو على غير أسس نظامه. فظنّ المغرمون بنظامه لأجل ذلك، أو الناقمين عليه، لا فرق؛ أنّ ترابط نظامه وشموليته حقيقيان، وما هما كذلك. لكن المفرح المبكي في آن، أنّ نظام الخليل مع ذلك، قد كان وجوده ضرورة لعلوم اللغة العربية.
    ... يتبع.

  8. #8
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    (8)

     هل أجاز الخليل الإتيان بوزن عربي غير ما وصفه في نظامه، أو غير ما يحتمله نظام شعر العرب..؟

    نقدّم بين يديّ هذا العنوان كمدخل نلِج منه إليه، رأي عروضِيّ قدير معاصر، وهو محمد العَلمي. فقد زعم بأنّ الخليل أجاز الإتيان بنظم غير موافق لنظم العرب؛ وبالتالي لم يقف الخليل ولا نظامه في وجه تطوّر الشعر العربي. وكان هذا رداً منه على المتهمين للخليل ولنظامه بعرقلة تطور إيقاع الشعر العربي (دراسة في التأسيس والاستدراك، ص 116- 117).
    واستند العَلمي على زعمه هذا بأبيات وردت في أرجوزة ابن عبد ربّه الأندلسي السابق ذكرها. ففي أرجوزة ابن عبد ربه إشارة ضمنية إلى تجويز الخليل لذلك، واعتراض ابن عبد ربّه الأندلسي عليه في هذا التجويز بشدة، قال ابن عبد ربّه: (الشاهد في الأبيات من 3 – 6)

    ولا نقولُ غيرَ ما قد قالوا ... لأنهُ مِن قولِنا مُـحَـالُ
    وإنهُ لو جازَ في الأبياتِ ... خِلافهُ لَـجازَ في اللغات
    وقد أجازَ ذلك الـخليلُ ... ولا أقولُ فيهِ ما يَقولُ
    لأنهُ ناقضَ في معناهُ ... والسَيفُ قد يَـنْـبُـو وفيه ماهُ
    إذ جعلَ القولَ القديمَ أصْـلَـهُ ... ثم أجازَ ذا وليسَ مِثلَـهُ
    وقد يَزِلُّ العالِـمُ النِّـحْـريـرُ ... والْـحَبْـرُ قد يَخونهُ التَحبيرُ

    فهذا الخبر في أرجوزة ابن عبد ربّه عن تجويز الخليل للوزن الـمختَرع الخارج عن نظام شعر العرب، أُقدّره بدرجة الظن الناقب فقط، ذلك أنّ الخبر محل اتهام من جهة المتن كما سنرى. ولولا أنّ ابن عبد ربّه تتحقق به مظِنّة النقل عن كتاب الخليل المفقود لدينا، لَما حصل هذا الخبر على هذه الدرجة. وهناك غيري من يشكك بهذا الخبر الذي قاله ابن عبد ربّه عن الخليل، بجواز الوزن المـختَرع؛ وهو الأستاذ سليمان أبو ستة (راجع مقدمة شواهد الخليل لأبي ستة).

    فالتطوير على ما أفهمه، هو إضافة قيّمة على ما هو موجود، لم تخرج به عن أصله؛ أمّا الخروج عن ما هو موجود، فليس هذا بتطوير، إنما هو نظام آخر، أو هو هدم للموجود إذا خُلِط الاثنين ببعض. فنظام قضاعة (مثلاً)، يعتبر من باب التسامح [وليس على الحقيقة]، تطويراً لنظام الخليل؛ لأن كلا العِلمين يتعاملان مع نفس الواقع الموجود فلم يخرجا عليه، أي الشعر العربي المعتَد به؛ اللهم أنّ كلا العِلمين اختلفا في بحث ماهية عروض شعر العرب، هذه الجائز الاختلاف فيها كما قلنا في مبحث خريطة العقل.

    فلو كان المقصود بهذه الدعوى، أنّ الخارج عن أوزان العرب ما زال يستحق مسمّى شعر، طالما تحقق شرطه؛ إنما هو ليس بشعر عربي؛ فهذا قول مقبول كما قلنا. أمّا لو كان المقصود هو الخروج عن أوزان العرب من باب التطوير؛ مع اعتبار الخارج عنه في نفس الوقت تابعاً لنظام العرب؛ فحينها لفرط نظام شعر العرب الذي جاهد الخليل رحمه الله في حفظه. بل لا معنى حينها لقيام علم عروض يقنّن إيقاع الشعر العربي من الأساس، ولصار الاكتفاء بمفهوم الشعر العام الذي ذكرناه، مغنياً عنها جميعاً.

    ولو افترضنا بأنّ مقصود العلمي هو التطوير على نظام الخليل نفسه، دون المس بنواته ومعظم غلافها؛ ومع أنّ هذا ليس مقصَد العلمي؛ فهذه قضية خاسرة كما رأينا؛ فنظام الخليل لا يقبل التطوير إطلاقاً..؟ ذلك أنّ نظرية الخليل بسبب طبيعتها، عاجزة عجزاً مزمناً على الحكم على الإيقاع المستحدَث والمستدرك كما قلنا؛ فكيف السبيل إلى معرفة أنّ الحاصل تطوير أم ليس بتطوير، أهو شعر عربي أم ليس بعربي؛ وهي فاقدة لقدرة الحكم على ذلك أصلاً. وقد رأينا كيف أنّ الاتهام بالشذوذ، لم يكن فقط من نصيب الشاذة حقاً عن نظام العرب، بل كان من نصيب المتوافقة مع نظام العرب أيضاً.

    بل أنّ الخليل لم يـُجِز الإتيان بوزن لا يستوعبه نظامه، حتى لو كان عربياً؛ إن لم يكن بحقيقة المقال فبحقيقة الحال؛ فنواة نظامه ستنهار إذا سمح بذلك..؟ فبنية نظامه لا تستطيع استيعاب البحر الراقص العربي (بحر الخبب)، والراقص سحب البندول معه إلى خانة المطروح من نظامه، حفاظاً على تماسك نظامه. وبنية نظامه لا تستطيع استيعاب قوالب السريع تابعة للرجز مكانها الطبيعي، وغير ذلك مما ذكرناه في الكتاب الأم لعروض قضاعة. والخليل قد صمّم قاعدة للفصل بين النظامين الصوتيّـين، التكافؤ والخبب؛ ليفصل بين البحور الأربعة المشتركة بإيقاع أولي واحد؛ أي الرجز والكامل من جهة، والهزج والوافر من جهة؛ راعت هذه القاعدة التي صممها سلامة نظامه على حساب واقع شعر العرب المناقض لها على ما رأينا في الكتاب الأم لعروض قضاعة.

    حتى أنّ مفهوم الدائرة في نظام الخليل، والتي هي روح النظام العروضي العربي، قد وظّفها الخليل لخدمة نظامه. بل أنه صمم دائرة السبب الثقيل الوهمية خدمة لقاعدة للفصل بين النظامين التي قالها؛ وصنع دائرة المشتبه على عينه لتضم إليها ما رفض من إيقاع شعرهم الانصياع لنظريته. أبعد كل هذا سيجيز الخليل الخروج على نظامه الوصفي المتدثر بعباءة قانونية زائفة، هذا مُحال. (ظن ثاقب).
    انتهت هذه المقالة.