أحدث المشاركات
صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 21

الموضوع: هل عقلية الخليل عقلية رياضية؟ وهل لها علاقة باللغة والعَروض؟

  1. #1
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي هل عقلية الخليل عقلية رياضية؟ وهل لها علاقة باللغة والعَروض؟

    هل عقلية الخليل عقلية رياضية..؟
    وهل لهذه العقلية الرياضية المفترَضة علاقة باللغة والعَروض العربي، على ما يزعم البعض..؟
    حقيقة ظاهرة التقليب بين معجم العَـين للخليل ونظامه العروضي
    كيف أنشأ الخليل نظامه العَروضي فكان مترابطاً شاملاً..؟ (السّر الدّفـين)

    الباحث العروضي/ أبو الطيّب ياسر بن احمد القريـــــــني البلوي القُضاعي
    تاريخ نشر هذه المقالة: 1- 4- 2023م.
    التعديل الأخير تم بواسطة ابو الطيب البلوي القضاعي ; 01-04-2023 الساعة 09:07 PM سبب آخر: تعديل تنسيق

  2. #2
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    (1)

    تزايدَ عدد الذين يرون أنّ عقليّة الخليل بن احمد - رحمه الله- هي عقلية رياضية. وزعمهم هذا كان يمكن أن يمر مرور الكرام، من باب تِعداد مناقِب الخليل الكثيرة رحمه الله؛ لولا أنهم أقحموا هذه الـمَنْـقَبَة فيما لا دخل لها به، وذلك كاللغة والعروض. فالذي جرت به العادة – وما يقبله العقل السليم- هو أن الـمُنتَج الذي قدّمه الشخص، يستحضر معه من باب المديح، الـمَنْـقَبَة المعينة للشخص التي لها على علاقة ماسّة بهذا المنتج، وليس استحضار منقبة له لا علاقة لها بهذا المنتج، حتى لو اشتملَ عليها الشخص بالمعيّة.

    فـمَنْـقَبَة الفروسية مثلاً، وليس منقبة المعرفة بالرياضيات حتى لو وُجِدت، هي ما تستحضَر للفارس الذي كسب الحرب. ومنقبة العدل وليس منقبة الشجاعة، هي ما تستحضر للحاكم الذي لا يُظلم عنده احد. ومنقبة الحفظ والذكاء وسعة الاطلاع وليس منقبة الزهد، هي ما تستحضر للإشادة بالباحث اللغوي والباحث الشرعي.
    وعلى ذلك، فمن باب الازدراء بالشخص والتهكم عليه، هو أن تَستحضر له منقبة لا علاقة لمنتجه المعين بها، فهل يصح من باب المدح والثناء، أن توصف عقلية المهندس البارع الذي خطّط لحفر الأنفاق تحت البحر، أو خطط الجسور الطويلة فوقه، بأنه ذو عقلية لُغوية جبارة..؟

    ونفس الشيء يقال هنا، فما علاقة أبحاث اللغة وأبحاث العروض بكون الشخص ذو عقلية رياضية أم لم يكن..؟ فلا علاقة بين الاثنين إطلاقاً (ظن جازم). بل ما علاقة الرياضيات والأرقام بمبحث العَروض على الأخص..؟ فلا علاقة بين الاثنين على الإطلاق أيضاً (ظن جازم). ومن ظن انه ثَـمّة علاقة للرياضيات وللعقلية الرياضية بهذه المباحث، على عكس ما نقول؛ فليتقدّم وليقدّم لنا براهين وأدلة يُخضع بها أعناقنا. وأقولها بكل ثقة أنه لن يستطيع. وبالتالي، فمن يُصرّ على هذا الأقوال فهو يسيء للخليل من حيث يدري ولا يدري. (1)

    (1): انظر مثلاً هذه النصوص الثلاثة لميشيل أديب في مقالة واحدة له (العروض متى نحميه من التغريب؟- مجلة الموقف الأدبي، العدد 373 ، أيار 2002)، ربط فيها بين العروض واللغة وعقلية الخليلية الرياضية المفترَضة، ولم يقدّم دليلاً واحداً على ما زعم، لكن دليلهم الأوحد على ذلك معروف عندي، وهو العلاقة المنطقية بين ظاهرة التقليب في نظام الخليل، وبين معجم العين للخليل، لكنه دليل واهٍ كما سنرى. فهو إنما شُبهة حسبوها دليلاً لهم، وسنهدمها بإذن الله.
    1- (إنَّ الخليل، كما سنحاول توكيده، هو أحد الرياضيين العباقرة وأحد العلماء الجبابرة، الذين أدَّوا للعربيّة وللعرب أعظم عطاء، فهو الذي صنع لها علامات إعرابها، وضبط لها نقاط حروفها ووسائل قراءتها من رموز ونحو. *** ولولاه، لما عرفنا علم العروض الذي ضبط به أوزان بحور الشعر، **، إنه بتثبيت "الوحدات الصوتية" التي بلغت ثمانياً [أجزاء نظام الخليل]، على محيط خمس دوائر، استطاع أن يحفظ، خمسة عشر بحراً من الضياع، إلاَّ أنه لم يشرح للدارسين عمليته الرياضية التي أوصلته إلى اختراع هذه الوحدات، التي لم تقوَ الأيام على الانتقاص منها أو الزيادة عليها).
    2- (**، وأكثر ما يعيب كتب العروض القديمة والحديثة، أنها، على الرغم من مظاهر العبقرية، التي لم يكشف الخليل عن أسرارها، لم تحاول تحليل العملية الذهنية التي مكَّنت الخليل من بلوغ هذه القمَّة الرياضية التي لا تتأتَّى إلاَّ للأفذاذ). أقول (أبو الطيب): وهذه الفقرة الثانية، قد افتتن بها الأستاذ خشان أشد الافتتان، وهو دائم التكرار لها.
    3- (إن كلام الشنتريتي وكلام كثيرين قبله وبعده، عن صور أفضل لتوزيع تفعيلات الخليل على محيط الدائرة، يدل على نقص في الفهم، وربّما على خطأ فيه، حين لا يدركون أن هذا التوزيع على دوائر الخليل، جاء نتيجة لعمليَّة رياضية معقّدة).


    والأستاذ خشّان صاحب أحد الطرق الرقمية المشهورة في العروض، هو من أولئك الذين يصرّون على أنه ثَـمّة علاقة للرياضيات بمبحث العروض العربي، فقد زعم بأن الذائقة العربية في وزن الشعر هي ذات صفات رياضية دقيقة مطردة، أشبه ما تكون ببرنامج رياضي أودعه الخالق سبحانه الوجدان العربي، فضبطت أوزانه كما يضبط برنامج الفطرة في النحلة هَندسة خلـيّتها..! حتى أنه غالى بهذا الزعم فوق المعقول، إذ قد نقل هذا الزعم إلى الخليل نفسه كما فعل ميشيل أديب، فزعم أن عقلية الخليل عقلية رياضية، وأن تفكيره في العروض وغيره، هو تفكير علمي رياضي..!

    وامتدت هذه المغالاة منه إلى توصيفه لطريقته الرقمية أيضاً، فقد زعم بأنها أول محاولة في التاريخ العربي وغير العربي، شرحت منهج الخليل الشامل الذي انبثقت منه أحكامه في جزئيات البحور والتفاعيل..! ونتساءل هنا: أين ذهبت إذن محاولات الزمخشري والدماميني والسكاكي ومحمد العلَمي حديثاً (وغيرهم كثير)..؟

    وزاد غلّوه أكثر لـمّا زعم أن الرقمي خاصته يشكل جسراً بين فكر الخليل كما يستلهمه في العروض، وبين معارف شتى..! (العَروض رقمياً، بحثٌ في منهجية الخليل، ص: 4- 5- 9- 249- 252). فلو أن كل هذه المزاعم للأستاذ خشان قد أقام عليها أدلته التي لا تقبل نقضاً، لسلّمنا له بها، لكن بعضها مجرّد افتراضات قامت على شُبهات كما سنرى، وبعضها الآخر مبالغات وخيالات ليس إلّا.

    هذا عدا عن خروج الطُرق الرقمية جميعها على نظرية الخليل كما سنرى. فلا ينفع في ذلك ادعاء الباحث العروضي الرقمي بأنه في طريقته الرقمية ما زال وفياً لفكر الخليل ومنهجه، وأن طريقته الرقمية هي قبس من نور الخليل، أو أنها ترجمة لفكر الخليل الرياضي الشمولي، على ما يزعم الأستاذ خشّان على الأخص؛ فالادعاء وحده لا يكفي. هذا دون التقليل من شأن الأستاذ خشان ومن جهده المبذول في سبك طريقته الرقمية، فلكل مجتهد نصيب. (2)

    (2): الادعاء بأن عروض الشعر العربي موزون بطريقة رياضية، ليس ظنّ الأستاذ خشان وحده، فيشاركه بهذا الادعاء كل من احمد مستجير ومحمد طارق الكاتب؛ وهما أصحاب طُرق رقمية قبل طريقة خشان. لكنهم كانوا أقل مغالاة من خشان، فلم يُقحموا عقلية الخليل الرياضية بالموضوع؛ إنما قالوا ما ذكرناه فقط، فيقول محمد طارق الكاتب بداية مقدمة كتابه {كنت أفكر دائماً بأن الشعر العربي موزون بطريقة رياضية}. (موازين الشعر العربي باستعمال الأرقام الثنائية- ص 19). ويقول احمد مستجير: {أعرف يا قارئي أنّ الشعر ليس أرقاماً، وليس معادلة رياضية، ولكن بالله كيف استطاع الخليل- هذا العبقري- أن يصفها في دوائر إن لم تكن مجموعات البحور تسير في متواليات رياضية..؟} (لأدلة الرقمية لبحور الشعر العربي، ص 14). أمّا غير من ذكرنا، ممن هم ليسو أصحاب طُرق رقمية، كمحمد العلَمي وسيد البحراوي؛ فهم افترضوا بأن الخليل أقام نظريته العروضية على أساس رياضي، استنادً على تلك الشّبهة التي عرّضنا بذكرها تمهيداً لشرحها ومن ثم هدمها، وسنعود فنذكر تفاصيل محاولة محمد العلَمي وسيد البحراوي بعد قليل لأهميتها.

    ومع قناعتي التامة بأن الدافع الأول والوحيد للتعبير عن العروض العربي رقمياً، إنما هو القفز عن الصعوبة المزمنة التي طبعت نظام الخليل (3)؛ فلا علاقة للرياضيات ولا للطُرق الرقمية بحقيقة العروض العربي، ولا حتى بعقلية الخليل الرياضية المفترَضة في مبحث العروض ولا في غيره. ومع قناعتي التامة أيضاً، بأن التعبير عن العروض العربي رقمياً هو خطأ شنيع، فلا يصح صناعة مسطرة رقميه لتعبّر عن عروض الشعر العربي وتقيسه. (ظن جازم)

    إذ لو كان التعبير عن العروض بالأرقام مقبولاً وسائغاً، لسبقهم الخليل إلى ذلك، طالما أنهم يزعمون له عقلية رياضية وتفكير رياضي، ويزعمون أن الذائقة العربية في وزن الشعر هي ذات صفات رياضية دقيقة مطردة، ويزعمون أن الخليل أقام نظريته على أساس رياضي..! فإذا كان كل هذا قد زعموه للخليل، خاصة الأستاذ خشان، فالمنطق يحتم بحسب افتراضاتهم هذه، أن يكون الخليل هو صاحب أول طريقة رقمية في العروض، أليس كذلك..؟ لكن الخليل لم يفعل ذلك، لأن هذه الافتراضات مجرّد أوهام، ولأن التعبير عن العروض العربي رقمياً هو خطأ شنيع كما قلنا، حتى لو كان ذلك ممكناً نظرياً وعملياً.

    (3): راجع مقالتنا في رابطة الواحة (صعوبة نظام الخليل وتعقيده، آتيةٌ من ذاته، لا من ذات المشتغلين فيه مُعلّمين أو مُتعلّمين)، فقد بينا فيها الإجماع على صعوبة نظام الخليل، وفسرنا سبب هذه الصعوبة التي لازمت نظامه منذ ظهوره.

    فمع قناعتي التامة بكل ذلك، وهو ما سنتعرض له بتفصيل في مقالة قادمة؛ لكننا هنا سنناقش شُبهة لهم ونهدمها، وهي شبهة ظاهرة التقليب المتواجدة في كلٍّ من نظام الخليل العروضي ومعجم العين له؛ جعلوها إمّا دليلاً لهم على أنّ عقلية الخليل بن احمد عقلية رياضية، وإمّا دليلاً لهم على أنّ الخليل أقام نظريته العروضية على أساسٍ رياضي.
    وبإسقاطنا لهذه الشّبهة، فأظن أنّ كل دعاوي الرقميين وغيرهم بهذا الشأن، ستنهار مرّة واحدة وإلى الأبد. فلا يتبقى لبعض الرقميين إلّا الادعاء بأن الأرقام تصلح للتعبير عن النظرية العروضية المعينة، وهو ما نرفضه أيضاً، وبشدة.

  3. #3
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    (2)

    وتتلخّص هذه الشّبهة التي لوّحنا بذكرها، بأن هناك ظاهرة مشتركة بين نظام الخليل العروضي ومعجم العين للخليل، قد لاحظها السابقون واللاحقون، أطلق عليها حديثاً مسمّى (ظاهرة التقليب). وهذه الظاهرة تنطوي على لفتة رياضية تتعلق بموضوع الإحصاء، والذي بمساعدته يتم حصر جميع الاحتمالات الممكنة في الشيء موضوع البحث، من خلال تقليب المكوّنات التي تؤلّفه.
    فالمكونات الصوتية التي يتألف منها الجزء في علم عروض الخليل، هي السبب بنوعَيه والوتد بنوعَيه (السبب الخفيف والثقيل [/0 - //]، والوتد المجموع والمفروق [//0 - /0/]). وعند تقليب موقع السبب الخفيف والوتد المجموع في الجزء الخماسي، ينتج عنه احتمالين: فاعلن وفعولن [لا نعم – نعم لا]، وليس هناك احتمال ثالث. وتقليبها في الجزء السباعي المحتوي على سببين خفيفين ووتد مجموع واحد، سينتج عنه ثلاثة احتمالات (مستفعلن- مفاعيلن - فاعلاتن) [لا لا نعم – نعم لا لا - لا نعم لا]، وليس هناك احتمال رابع. وتقليبها في الجزء السباعي المحتوي على سببين خفيفين ووتد مفروق، سينتج عنه ثلاثة احتمالات (فاع لاتن /0/ - /0 - /0– مستفع لن /0 - /0/ - /0– مفعولاتُ /0 - /0 - /0/)، وليس هناك احتمال رابع.

    ومع أنّ ظاهرة التقليب موجودة جزئياً في الأجزاء السباعية الثلاثة ذات السبب الثقيل (مفاعلَتن – متَفاعلن- فاعلاتكَ)، لكننا سنتجاهلها حتى حين. فأجزاء نظام الخليل ليست ثمانية لفظاً وعشرة حكماً (أي عشرة في التحقيق)، إنما هي على الحقيقة تسعة لفظاً وإحدى عشر حكماً. فالجزء (فاعلاتكَ : /0 //0 //) جزء أصيل في نظام الخليل، لكن يتم تجاهله لأنه جزء مهمل يؤلف بحراً مهملاً أيضاً، وسنعود له بعد قليل.

    وظاهرة التقليب تسمّى عند العروضيين القدماء بنظرية (الأصل والفرع). فالأصول منها أربعة أجزاء، وهي تلك المبدوءة بوتد [فعولن- مفاعيلن – مفاعلتن، والأصل الرابع هو (فاع لاتن) المبدوءة بوتد مفروق]. والفروع ستة، وهي باقي الأجزاء غير المبدوءة بوتد. وتصنيفها إلى أصول وفروع راجع لقوة الوتد بزعم الخليل (الجامع في العروض والقوافي، ص 244)؛ وهو زعم لا يخلو من وجاهة في نظرية الخليل، فالوتد - وبعكس السبب- لا يمسه الزحاف في نظامه، كما أنّ جميع تفاصيل نظام الخليل العروضي، دارت حول الوتد في الجزء [الجزء- الدائرة - الزحاف- مراتب الزحاف- العلة- العروضة- الضرب- التام- المجزوء- المنهوك- المعاقبة- المراقبة- المكانفة- الاعتماد- الخرم- التشعيث].

    تنبيه: قد استخدمت كلمة (عَروضة) في هذه المقالة، وفي كتيب المنتج الجاهز، وكذلك في الكتاب الأم لعروض قضاعة، لتدل على آخر جزء في شطر الصدر، بدل كلمة (عَروض) التي درجَ عليها علم عَروض الخليل. وسبب إقدامي على ذلك أنه قبل ظهور عَروض قضاعة، كانت كلمة عَروض إذا سبقها كلمة (علم)، أو لحقها كلمة (الشعر)، صارا معاً (علم العَروض- عَروض الشعر). فلا يخطر على الأذهان حتى تلك اللحظة سوى علم عَروض واحد، وهو علم عَروض الخليل. أمّا بعد قيام عروض قضاعة كعلم عروض منافس لعلم عروض الخليل عن جدارة واستحقاق؛ فحينها لن تعود تلك العبارات تدل على اسم مُعرَّف واحد. فاقتضى التنبيه.

    توجيه: مسمّى التفعيلة لا يسد عن مسمّى "الجزء"، والخليل يعرف ذلك، فقد سمّى التفعيلات العشرة الأصلية السالمة من التغيير التي أقام عليها نظامه، باسم محدد، وهو مسمّى (الـجُزْء)؛ تمييزاً لها عن غيرها من التفعيلات في نظامه. فالجزء تفعيلة خاصة بمواصفات خاصة، وهي إمّا سباعية الحروف وإمّا خماسية الحروف، وكل جزء يجب أن يحتوي على وتد واحد وسببين على الأكثر. أمّا التفعيلة فهي مسمّى عام غير مخصص [نكرة]، ينطبق على كل تفعيلة. فمثلاً: ناتج دخول علة مركبة من الحذف والقطع على الجزء (فعولن) في المتقارب، وتسمّى (علة البتر)، هي التفعيلة (فعْ /0)، وليس الجزء (فعْ)؛ على الرغم من أنّ هذا الترميز (/0) يشير في نفس الوقت إلى ترميز السبب الخفيف في نظام الخليل. فإذا أريد الإشارة إلى (فعْ) بدلالة الجزء، فهذا يكون بالرجوع لأصلها كجزء قبل دخول علة البتر المركّبة عليه، ثم ذكر ما أصابها من علة أو زحاف أو بهما معاً، أي بالقول: الجزء فعولن المبتور أي (فعْ)، أو قول: الضرب المبتور في المتقارب.
    وبالتالي، فإنّ عدم استحداث الخليل لمسمّى الجُزء المخصص في نظامه، من اجل تفريقه عن مسمّى التفعيلة العام، كان سيربك الذهن. وبذلك يسقط اعتراض الدماميني على الشيخ أبي حيّان. فأبو حيان على مثل رأيي في أنّ الجزء مسمّى مخصوص، لكون أنّ أجزاء نظام الخليل محصورة العدد، وُضِعت لغاية مخصوصة، فلا يسد عنها مسمّى التفعيل الذي هو مسمّى عام يدخل فيه الجزء وغير الجزء. أمّا الدماميني فيرى أنّ التفاعيل بمنزلة قولنا الأجزاء تماماً. وقد زعم أنّ الخليل قصد ذلك (الغامزة: ص 32، وص 38). أقول (أبو الطيب): هذا توهّم من الدماميني (ظن ثاقب)، فالخليل عبقري من الطراز الأول، فقد كان حريصاً على ضبط مدلول مصطلحات نظامه.


    وظاهرة التقليب هذه موجودة في معجَم العين للخليل أيضاً، إنما على أساس تقليب الحروف في المفردة اللغوية، ودون مراعاة لكون الحرف ساكن أم متحرك. فعند تقليب الحروف في الأصل الثنائي والثلاثي للكلمات، فإنه يمكن استخراج جميع المفردات اللغوية العربية الممكنة الوجود، الثنائية والثلاثية الأصل. [فالمادة اللغوية الثنائية تنتج حالتين، والثلاثية تنتج ستاً، هكذا في الثنائي: (بع - عب)، وهكذا في الثلاثي (عبد - بعد - دعب - عدب- بدع – دبع). (دراسة في التأسيس والاستدراك، د. محمد العلَمي، ص 83)

    وبهذه الطريقة الإحصائية الرياضية القائمة على تقليب الحروف، قد ضَمِنَ الخليل في معجمه عدم غياب أيّ مفردة عربية عن ذهنه بفعل النسيان أو الغفلة. ثم أنّ التي وجد لها استعمالاً عند العرب أثبَتها في معجمه، وتلك التي لم يجد لها استعمالاً نفاها ولم يذكرها. وباستعمال هذه الطريقة الإحصائية الرياضية، كان معجَم العين شاملاً لمفردات العربية حقاً.

    وبهذه المقابلة بين نظام الخليل ومعجم العين له، تتحقق نظرياً ظاهرة التقليب في الأجزاء على أساس تقليب الأسباب والأوتاد، وتتحقق في معجم العين على أساس تقليب الحروف. فيفترضون أن الجزء الذي سينشأ عن تقليب الأسباب والأوتاد، وكان له وجود في شعر العرب، فقد أثبته الخليل في نظامه، أمّا الذي لا وجود له فيه فقد نفاه، تماماً كما فعل بمعجم العين بحسب ظنهم.

    وبناءً على ظاهرة التقليب هذه، المحسوسة ظاهرياً في كلا مُنتجَيّ الخليل هذين، فقد افترض فريق منهم بأنّ عقلية الخليل بن احمد لا بد وأنها عقلية رياضية أساساً، وأنه أقام نظريته العروضية على أساس رياضي أيضاً، وذلك كالأستاذ ميشيل أديب، والأستاذ خشان طبعاً (العَروض رقمياً، بحثٌ في منهجية الخليل، ص 9-10). أمّا الفريق الثاني فقد كان أكثر تواضعاً، وذلك كالدكتور سيد البحراوي والدكتور محمد العلَمي وغيرهما، فلم يُقحما العقلية الرياضية بالموضوع، إنما اكتفيا بالقول بأن الخليل أقام فكرة الجزء على أساس رياضي. والخلاصة أن الفريقين قد اتفقا على افتراض أن الخليل أقام نظريته العروضية على أساس رياضي.

    ومن الجدير ذكره هنا، أنّ محمد العلَمي - وهو الباحث العروضي الـمُجِدّ- لم يجد في المصادر التي بين يديه مَن ينسب فكرة (الأصل والفرع) في العروض إلى الخليل، لا صراحةً ولا ضمناً، إلّا أنّ العلَمي يرجح بأنها فكرة الخليل، لأنها توافق تصوّر الخليل عن التقليب بزعم محمد العلَمي. (دراسة في التأسيس والاستدراك. ص 86). فالعلَمي أيضاً مفتون بفكرة التقليب، وقد ذهب بها وبفكرة التماثل على مستوى الأجزاء المؤلفة للبحر، أعمقَ مما ذهب غيره من السابقين واللاحقين. وذلك بأنْ جعلها فرضية مفصّلة متماسكة، تفسر برأيه كيفيّة صنع الخليل نظامه العروضي بهذا الترابط والشمول المشاهد، وزاعماً في نفس الوقت أنّ فرضيته يمكنها تفسير البعد الإيقاعي في الجزء وفي الدائرة، الذي تقصّد الخليل إبرازه بحسب ظن العلَمي. وسنرى بعض تفاصيل محاولته في نقاشنا القادم.

    وكذلك فعل سيد البحراوي في كتابه (العَروض وإيقاع الشعر العربي، محاولة لإنتاج معرفة علمية. الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993م). فقد فُتن هو الآخر بفكرة التقليب التي اتبعها الخليل في معجم العين، هذه التي جرى فيها التقليب على أساس الحرف الصوتي دون مراعاة لكونه ساكن أم متحرك. وهو يصف فكرة التقليب بنظرية "التبادل والتوافق"، ويقول أنها كانت معروفة في عصر الخليل (ص 22). فافترضَ أن الخليل عند صنع نظامه العروضي، قد استعمل نفس فكرة التقليب التي في معجم العين، إنما مع مراعاة كون الحرف ساكن أم متحرك، في صناعة الأسباب والأوتاد نفسها، ولاحقاً في صناعة أجزاء نظامه بعد استقرار الخليل على اعتماد الأسباب والأوتاد كوحدات بناء لنظامه، ثم تقليبها بعد ذلك في الجزء الخماسي والسباعي على ما شرحنا.

    فعند تقليب الساكن والمتحرك بحسب افتراض البحراوي، دون اشتراط مسبّق لكيفية التقليب، فلا شك ستظهر الأسباب والأوتاد كأحد الاحتمالات، بل وستظهر الفاصلة الصغرى والكبرى أيضاً. فزعم البحراوي أن الخليل اختار من هذه الاحتمالات الكثيرة جداً، الأسبابَ والأوتاد؛ لأن الخليل رآها مناسبة لإنشاء نظامه، لأنه حرص على تقليل الوحدات الصغرى قدر الإمكان، ولأنه يتحقق فيها شرط الوحدة التي لا تنقسم (ص 24). ثم تخلّص الخليل من باقي الاحتمالات لأسباب متعددة، وضعها البحراوي تحت بند "حدود التوالي في اللغة العربية في الشعر"؛ هكذا قال. (ص 22- 24)

    وهو يرى أن مبدأ "التبادل والتوافق"، أي التقليب، الذي سيطر على ذهن الخليل بظنه، قد تجلّى في نظامه العروضي بأوضح صورة عند تقليب الأسباب والأوتاد لاستخراج الأجزاء العشرة، أكثر من تجلّيه عند تقليب الحروف على أساس الساكن والمتحرك لاستخراج الأسباب والأوتاد. (ص 25)
    وجميع قوله جاء بدعوى أنّ الأساس الذي انطلق منه العرب في علومهم اللغوية، هو الحرف بكلا شقيه، المتحرك والساكن. وبدعوى أن الحرف المتحرك، وكذلك الساكن إذا لم يكن حرف مد، له أساس علمي كما قال (ص 18). فالبحراوي في كل كلامه كان مدفوعاً بمقولات علم أصوات اللغة الـمحدَث (Modern Phonetics)، خاصة فكرة المقطع Syllable، وعلى الأخص المقطع القصير الذي هو الحرف المتحرك بمفهومنا (ص/ 18- 20)، وكذلك المقطع الطويل الذي يتوافق مع السبب الخفيف (ص 19). ولذلك وجدناه يقول بما معناه (ص 6، 21): أنه باستثناء السبب الخفيف لأن له أصل علمي، فإن الوتد بنوعيه والسبب الثقيل، وكذلك الفاصلتين الصغرى والكبرى، التي لا تتفق مع أيّـاً من مقاطع الأصواتيين، هي نتاج صناعة عروضية من الخليل، منبعها نظرية "التبادل والتوافق".
    وعلى العموم، فالناتج النهائي لمحاولة البحراوي تفسير كيفية إقامة الخليل لنظامه العروضي، هو هذا الاستنتاج له، والذي هو محل استشهادنا هنا، وهو: {أنّ الفرض الرياضي قد حكم الخليل أكثر من الأساس اللغوي أو الموسيقي أو الشعري}. (ص 24). (4)

    (4) الفرض الأول للبحراوي غير واقعي نهائياً، أي بكون أن الأسباب والأوتاد ظهرت للخليل من خلال تقليب الحروف على أساس الساكن والمتحرك. ذلك أن هذا الفرض يظهر فيه الخليل كشخص ساذج [وحاشاه]؛ فاللغويون العرب وعلى رأسهم الخليل، عندما قالوا بالمتحرك والساكن، هم يعرفون أن المتحرك دائماً يسبق الساكن، فهذا مبحوث عندهم ضمن باب "تفسير الأصوات". راجع (العروض للأخفش، ص 142)، (الجامع في العروض، ص 56، لأبي الحسن العروضي). وراجع: (سر صناعة الإعراب، لابن جني، ج 1، ص 32).
    ثم أن عدد الاحتمالات الممكنة لهذا التقليب العبثي، سيكون لا نهائياً بوصف البحراوي نفسه (ص 23)، وكثير منها لا أساس له من الصحة كالابتداء بساكن. وهذا يتناقض مع الغاية التي لأجلها يُستخدم التقليب كوسيلة رياضية إحصائية، فالتقليب في مثل مبحث العروض والمعجم، يًستخدم لحصر ما هو قابل للحصر، وليس لحصر ما لا يمكن حصره. وهذا ما اعترف به البحراوي نفسه، فاكتفى منها بحصر ست وعشرون احتمال، تاركاً لنا توقّع الباقي.


    ثم تخلّص البحراوي من مأزق هذا الفرض غير الواقعي، بأن زعم بأن هذه العملية لم تكن تلقائية تماماً، وإنما ضبطها الخليل بحدود التوالي في اللغة العربية بحسب قوله. فالعربية لا تبتدئ بساكن، ولا يجوز اجتماع ساكنين فيها، ولا اجتماع أكثر من أربع متحركات، ثم عرض الخليل هذه الاحتمالات على ما هو متحقق في الشعر، وما وجده منها أبقاه وسـمّاه، وما لم يجده أهمله، هكذا قال. أقول: فحتى مع هذه الضوابط سيظل عدد الاحتمالات كثيراً، فهذه الاحتمالات (///، /00، //00، ///00، /0//، /0 ///، //0/ ، //0//، ///0/، وهناك غيرها) موجودة في الشعر العربي، لكن الخليل لم يستخدمها كوحدات بناء صوتية في نظامه العروضي، رغم أنها موجودة في الشعر..!

    ومما يطعن في هذا الافتراض عقلياً، أن هذا الإحصاء المزعوم، كان يجب أن يتقيّد بحدود التوالي في اللغة العربية في الشعر، قبل إجراء الإحصاء بالأساس، وذلك ليخرج من مأزق لانهائية الاحتمالات، قبل القفز إلى افتراض أن الخليل صفّى (فلـترَ) تلك الاحتمالات الرياضية اللانهائية بناءً على حدود التوالي في الشعر، وصولاً لاعتماده الأسباب والأوتاد كوحدات بناء لنظامه العروضي. فإن لم يتقيد الباحث بذلك ابتداءً، فستكون هذه المحاولة من قبيل العبث وتضييع الوقت والجهد، وهذا ما لا نظنه جديراً بعقلية الخليل أن تفعله.

    فالمتوقع من شخص عبقري كالخليل، هو أن يجعل واقع الشعر هو مدار البحث، وليس افتراضات التقليب العبثية هذه. فواقع الشعر بعد استرشاد الخليل برواية التنعيم المعروفة، أنبأته بأن هناك إيقاع أولي قياسي، وإيقاع ثانوي ناتج عن الزحاف، هي ما أرشدته للسبب الخفيف والوتد المجموع كوحدات بناء صوتية؛ وقد صدّق واقع الشعر العربي ذلك؛ وأقوى بينة على ذلك أن الوتد لا يمسه الزحاف. ثم أن بعض الثغرات الخطيرة التي واجها الخليل خلال صنعه لنظامه، في ظل انه ارتهن بشدة للحرف الصوتي بشقيه (المتحرك والساكن)؛ هي سبب مولد كائن السبب الثقيل والوتد المفروق لإقفال هذه الثغرات الخطيرة، كما سنرى بعد قليل، وليس هذا التقليب العبثي.

    ولن نخوض عميقاً في تفاصيل محاولة البحراوي أكثر مما فعلنا، إذ الغاية من ذكرها هنا إنما هو الإشارة إلى اتحاد تلك الشبهة بينهم (ظاهرة التقليب في العروض ومعجم العين)، والتي ارتكز عليها كل فريق في دعواه. وللعلم هناك آخرون يقولون بهذه الشبهة، وليس فقط المذكورون هنا. وعند شرحنا للكيفية الحقيقة التي أدّت لظهور ظاهرة التقليب في نظام الخليل دون تقصّد من الخليل (مصادفة)، والتي سنذكرها نهاية هذه المقالة، أو كجزء ثاني لهذه المقالة، تحت عنوان "السّر الدفين"، سوف تنهار كل هذه الدعاوي، ما يغنينا ويغني القارئ عن الغوص عميقاً في تفاصيل جميع محاولاتهم.

  4. #4
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    (3)

    الآن وبعد أن بيّنا تفاصيل هذه الشبهة التي استندوا عليها في مزاعمهم بكل وضوح، ننتقل الآن لهدمها، فنقول: الذي أوقعهم في هذا الاستنتاج الخاطئ، أي بكون أنّ عقلية الخليل بن احمد عقلية رياضية، أو بكون أنّ الخليل أقام نظريته العروضية على أساس رياضي؛ هو الارتهان لفن المنطق في التفكير على طول الخط..؟ فالأسلوب المنطقي في التفكير أسلوب خطير إذا لم ينتبه له الإنسان، فمغالطاته كثيرة وليست سهلة الكشف في كل الأحيان. وبسبب من طبيعته كاد أن يكون طريقة ثالثة في التفكير وليس أسلوباً معيناً في التفكير؛ والأهم أنه لا يصلح لكل أنواع البحوث. [راجع مختصر خريطة العقل للمؤلف- البند 17]

    فهم لـمّا رأوا أنّ الخليل هو صاحب أول معجم عربي أُنشِئ على فكرة التقليب لغاية إحصائية، وأنّ نظرية الخليل العروضية القائمة على فكرة الجزء، موجودة فيه ظاهرة التقليب على مستوى الأجزاء؛ فإن النتيجة المنطقية بظنهم تقتضي أنّ الخليل قد أقام نظامه العروضي على فكرة التقليب أيضاً، برابط منطقي مفاده أن المؤلِّف في الحالتين واحد..! بل قد ذهب البعض بسبب هذا الرابط المنطقي المخادع، إلى الاعتقاد بأنّ العقلية التي مكّنت الخليل من إنشاء نظام عروضي مترابط وشامل، وإنشاء معجم شامل للغة العربية (معجم العين)، لا بد وأن تكون عقلية رياضية بالضرورة..!

    لكن هذا الرابط المنطقي تسبّب بالخطأ والانحراف، ففن المنطق مغالطاته كثيرة كما قلنا، فإنه إذا كانت إحدى المقدمات خاطئة فسينهار الرابط المنطقي بينها، فتكون النتيجة المنطقية خاطئة تبعاً لذلك. ذلك أنّ الواقع محل البحث في أسلوب التفكير المنطقي، ليس هو بؤرة التركيز في التفكير. ففي فن المنطق يجري ربط مقدمات ببعضها للوصول إلى نتيجة منطقية منها، وليس يجري فيه تفكير في الواقع محل البحث والتعمق فيه لفهمه وفهم ما يحيط به، للخروج بنتيجة عقلية من ذلك.

    فطريقة التفكير المنطقية ليست كالطريقة الجوهرية في التفكير، هذه المؤسسة على تعريف العقل [راجع مختصر خريطة العقل]. فالطريقة الجوهرية المؤسسة على تعريف العقل على ما يتبّنى أبو الطيب، تبحث في الواقع نفسه بكل تفاصيله، على ما يقتضيه تعريف العقل الذي يتعامل مع الوقائع المحسوسة، رابطاً إيّـاه بركائز معرفية معينه على علاقة به، للخروج بحكم عقلي موثوق به عليه، حتى لو كان الحكم ظنياً.

    والطريقة الجوهرية في موضوعنا هذا، تبحث في واقع ظاهرة التقليب نفسها في كلّ من معجم العين للخليل ونظرية الخليل العروضية، كيف ظهرت هذه الظاهرة في كل منهما أساساً..؟ وما كانت الغاية منها في كلّ منهما..؟ وهل جاءت بتقصّد أم مصادفة..؟ بعيداً عن الرابط المنطقي المخادع الذي يصرف العقل عن التفكير في ذات الواقع محل البحث. فالطريقة الجوهرية إذا كانت هي المهيمنة على طريقة تفكير الإنسان، فهي ستمنع على الأقل، الربط المنطقي في غير مكانه.

    فإذا جئنا نبحث ظاهرة التقليب على أساس الطريقة الجوهرية في التفكير، فسنجد أن ظاهرة التقليب في نظام الخليل العروضي، وبرغم قصورها كما سنرى بعد قليل، إنما هي ظاهرة حصلت عرَضياً فيه (مصادفة)، فلم يتقصّد الخليل حصولها ولا استعمالها في إنشاء نظامه. وهذا بعكس ما حصل في معجم العين الذي تقصّد الخليل استعمال فكرة التقليب فيه لغاية إحصائية (ظن جازم). أمّا كيف ولماذا نشأت هذه الظاهرة في نظام الخليل العروضي أصلاً وفصلاً، فهذا ما سنناقشه نهاية هذه المقالة كما قلنا "السّر الدفين".

    ففعلاً قد استخدم الخليل ظاهرة التقليب في معجم العين كطريقة إحصائية رياضية، وكانت غاية الخليل من استعمالها فيه، هو لكي يضمن عدم غياب أيّ مفردة عربية عن ذهنه بفعل النسيان أو الغفلة. وليس غريباً على الخليل الذكي، ولا على غيره ممن هم أقل ذكاءً منه، أن يلجأ لمثل هذه الحيلة الرياضية البسيطة، لضمان أن يكون معجم العين شاملاً لكل مفردات اللغة العربية.
    فحلّ هذه المعضلة البسيطة لا يحتاج لأنْ يكون الشخص ذو عقلية رياضية كما يزعمون. فحلها لا يحتاج إلى معرفة المعادلات الرياضية الصعبة، ولا إلى التفاضل والتكامل..! ففكرة التقليب كوسيلة إحصائية هي من أسهل الأفكار وأبسطها. فلو أنّ أحداً خطر على باله عمل معجم لمواد اللغة المستعملة، فوارد جداً أن يفكر باختراع طريقة ما تمكّنه من حصر جميع ما ورد في اللغة من مفردات مستعملة، دون أن تندى عنه مفردة واحدة بفعل الغفلة أو النسيان.

    والذي سينبّهه إلى ضرورة استعمال وسيلة لحصرها، هو استدراكه على نفسه مفردات غابت عنه. فسواء خطرت له فكرة التقليب اللازمة لذلك من أول محاولة، أم خطرت له بعد تعثّر تجارب سابقة مرّ بها، ففي النهاية سيصل لها إذا كان الشخص عادي الذكاء، وليس عبقرياً حتى. وهذا يعني أن إصباغ صفة العقلية الرياضية على الخليل بسبب استخدامه لهذه الوسيلة الرياضية البسيطة، فيه تقليل من شأن الخليل، وهم يحسبون أنهم يُعلون من شأنه بالتركيز عليها؛ فعبقرية الخليل تتجلى في أمور كثيرة، ليست هذه - التي يقدر عليها من هُم أقل ذكاءً من الخليل- من بينها.

    وإذا كان الخليل هو أوّل مَن صنع معجماً للغة العربية، فلا يُعدّ هذا دليلاً على استخدامه لفكرة التقليب قبل غيره، إنما هو دليل على أن الخليل هو أوّل من فكّر بعمل معجم للعربية وأنجزه، وفي هذا السّبق تتجلى عبقرية الخليل، إضافةً لكم التفاصيل العميقة التي احتواها. فلو أن غيره سبقَ إلى فكرة عمل معجم لمفردات العربية، فمن السهولة عليه أن يستخدم وسيلة التقليب لحصرها، حتى لو كان شخصاً عادي الذكاء؛ ذلك أنها فكرة سهلة كما قدّمنا.

    أمّا في نظرية الخليل العروضية، فالأمر مختلف، فظاهرة التقليب فيه، الواضحة في مكونات أجزاء نظامه. أي على أساس الأسباب والأوتاد فيه وليس الحروف. فهذه قد ظهرت مصادفة في نظامه كما قلنا، فلم يتقصّد الخليل حصولها، بل لا يسعه عقلاً تقصّد حصولها، ولا استعمالها في إحكام نظامه ليكون مترابطاً شاملاً على ما هو مشاهَد..؟
    فالخليل لم يخترع علم عروض عربي على شرطه، ثم أجبر شعراء العرب بعد ذلك على السير عليه؛ إنما هو وضع نظرية عروضية أسّها فكرة الجزء والدائرة رُوحها، حاول بها تفسير واقع موجود قبل الخليل نفسه. وقد تطابقت نظريته فعلاً مع معظم ما جاء عن العرب، فقد قال مثلاً: أن ساكن الوتد سواء المجموع أو المفروق، لا يزاحف، وهذا بعكس ساكن السبب. وفعلاً جاءت الشواهد عن العرب بذلك. وكل ما في الأمر أن ظاهرة التقليب ظهرت مصادفة في نظامه، لأمر لم يتقصّد الخليل حصوله. ما يعني أنه حتى لو اشترك معجم العين للخليل ونظرية الخليل العروضية بظاهرة التقليب، لكن واقع هذه الظاهرة مختلف تماماً في كلٍّ منهما.

    وإنّ سلّمنا لهم بأن الخليل هو أوّل مَن قال بفكرة التقليب كوسيلة إحصائية - ومع أن هذا فرضٌ غير صحيح كما قدّمناه- وأردنا وضع فكرة التقليب في نصابها الصحيح بين نظامه العروضي ومعجمه، مِن جهة أيّ منتَج بينهما هو الذي أثّر في الخليل فدفعه لاستلهام فكرة التقليب؛ فالترجيح سيكون لجهة أن الخليل لاحظ فكرة التقليب التي ظهرت مصادفة في نظامه العروضي، واستلهما من ثم كوسيلة رياضية إحصائية في صناعة معجم العين، وليس العكس ولا التساوي (5). (ظن ناقب) (6)

    (5): يشهد لنا بهذا الاستنتاج، أنّ زمن صنع الخليل لعلم عروضه، قد سبق زمن صنعه لمعجمه (العين) على ما نظن. وقرينتنا على ذلك مادة (خبن) في معجم العين، ولنقرأ معاً ما قاله الخليل رحمه الله عن هذه المادة: {خبن: **، والمخبون من أجزاء الشعر: ما قُبِض من حروف مَشوه مما يجوز في الزحاف فيلزم قَبضه، كقولك (فاعلن) (فَعِلُنْ) في القافية، أو في النصف فيلزم ذلك القبض. وذلك الشعر مخبون، والجزء مخبون} [والقبض هنا بمعنى حذف ساكن السبب الخفيف عموماً، وليس زحاف القبض المعرّف]، (كتاب العين، ج4، ص 279، تح: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي). أقول (أبو الطيب): فلو كان زمن وجود علم عروض الخليل لاحقاً لزمن وجود معجمه، لَما وجب أن يذكر مصطلح (الخبن في عروض الشعر) ضمن معجمه، أليس كذلك..؟ فدل هذا على أن زمن صنع علم عروضه قد سبق زمن صنعه معجمه. (ظن شائك)
    لكن هذه القرينة ستكون قوية وصحيحة فقط، فيما لو ثبت حقاً أن معجم العين هو من تأليف الخليل بالكامل، لكن الاختلاف على هذا القول مبثوث في الكتب. فلا شك أن فكرة عمل معجم العين هي للخليل، والإجماع منعقد على ذلك. وفي ذلك يقول أبو منصور الهروي (ت/ 370 هـ): {ولم أر خلافاً بين اللغويين أن التأسيس المجمل في أول كتاب (العين)، لأبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد، وأن ابن المظفر أكمل الكتاب عليه بعد تلقفه إياه عن فيه}. (تهذيب اللغة، ج 1، ص 35 - تح: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي - بيروت، ط 1، 2001 م).
    فإن تولى أحد بعد الخليل إكماله، فليس من المستغرب أن يضيف له مصطلحات العروض. وبالتالي، لن تكون هذه القرينة قوية، خاصة وأن العرب لم تستعمل كلمة "خبن" بمدلول عروض الخليل في لغتها، في ظل أن معجم العين مخصّص لكلام العرب المعتد بلغتهم. وهذا هو سبب منحي لهذه الفكرة درجة الشائك الظنية الضعيفة [شائك: 55 – 57 %]. (راجع: "سلم قضاعة" ذي الدرجات العشر، لقياس مستوى الظنية في الأفكار - مختصر خريطة العقل للمؤلف).

    (6) قولنا في المتن (ظن ناقب)، قد جاء استنادً على سُلّم مقترَح لمؤلف هذه المقالة (أبو الطيب البلوي)، لقياس مستوى الظنيّة في الأفكار المطروحة، أسميته "سُلّم قضاعة". وهو مكوّن من عشر درجات، كلها ظنية ما عدا درجتين. فمعظم أحكام العقل أحكام ظنية، بما فيها نظرية الخليل العروضية ونظرية قضاعة. وإذا عُرِف مستوى الظنية في الفكرة على وجه دقيق، بالاستناد على أساس عقلي متين، فقد عُرِف مستوى الدقة والمصداقية في الفكرة، التي يريد صاحبها بيانها من خلال قيمة الدرجة الظنية الممنوحة لها. وعُرِفت بالتالي الكيفية التي يجب أن تُعامَل بها الفكرة على أكمل وجه. وسيكون لاستعمال هذا السلم أثر على القارئ الواعي؛ فهو بعد الاطلاع على "سلّم قضاعة"، ستجعله يقدّر الكلام الوارد حق تقديره، فلا يَظلِم ولا يُظلَم. ولكل درجة ظنية من هذه العشرة، شروط عقلية لمنحها للفكرة وليس عبثاً. (راجع (مختصر خريطة العقل - لأبي الطيب البلوي القضاعي). وهذه هي مسميّات الدرجات العشر الظنية في "سُلّم قضاعة"، وكذلك النسبة المئوية من الصحة التي تعكسها:
    1 - بهرج (صفر %). 2 - ظن هائم (1 - 5 %). 3 - ظن غافل (25 - 29 %). 4 - شك (49 - 51 %). 5 - ظن شائك (55 - 57 %). 6 - ظن ناقِب (65 - 69 %). 7 - ظن ثاقِب (73 - 77 %). 8 - ظن عازم (85 - 89 %). 9 - ظن جازم (93 - 97 %). 10 - يقين (100 %).


  5. #5
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    (4)

    ثم أنّ هناك فرقاً جوهرياً آخر بين عروض الخليل ومعجم العين، فيما يخص ظاهرة التقليب الموجودة في كليهما. وهذا الفرق بينهما يمنع من تطابق ظاهرة التقليب بينهما على الوجه الذي ظنّوه؛ فينتفي بذلك الرابط المنطقي الرياضي المتوهّم بينهما. ففي معجم العين قد كان التركيز منصباً على حصر المفردات اللغوية من غير ارتباط لها بسلاسل الكلام. أي أنه بحصر المفردات العربية من خلال عملية تقليب الحروف، تكون عملية التقليب في معجم العين قد اكتملت، أي قد أدّت دورها الإحصائي الرياضي في المعجم على أكمل وجه. أمّا في نظام الخليل العروضي، فالجزء ليس معلقاً في الهواء، إنما هو ضمن السلاسل القياسية التامة في نظامه. وبالتالي، فالتقليب على أساس السبب والوتد في الجزء، هو تقليب منقوص الأهلية..؟

    فحتى يصح افتراضهم بكون الخليل قد استخدم التقليب كوسيلة رياضية إحصائية في إنشاء نظامه، فيجب أن تنعكس ظاهرة التقليب على السلاسل الصوتية القياسية، فلا تبقى محصورة بذات الجزء، حتى لو كان الجزء أسّ نظامه محققاً لظاهرة التقليب في ذاته. فالشعراء العرب المعتَدّ بنظمهم، أي الجاهليون ومَن هُم في حكمهم حتى عصر بين الدولتين، يخلو نظمهم من شطر اقتصر على جزء واحد، والخليل نفسه قد انتبه لهذا فلم يثبته في نظامه ترجمة لهذه الحقيقة.

    بمعنى، هل يصح أن نقول عند إجراء التقليب على أساس مكوّنات الجزء الصوتية: هذا الجزء قد استعمله العرب لذلك قام الخليل بإثباته، وذلك الجزء لم يستخدمه العرب فلم يقم الخليل بإثباته لأجل ذلك. وبذلك تكون عملية إنشاء الخليل لنظامه العروضي قد اكتملت تماماً، كما حصل في معجم العين..؟ طبعاً لا، فالجزء تسلسل ضمن سلسلة، وليس هو سلسلة قائمة بذاتها. كما أنّ فكرة الجزء فكرة إيقاعية من اختراع الخليل، ويمكن اختراع أو اكتشاف فكرة إيقاعية بديلة عنها، إمّا بمثل قوتها أو دون ذلك أو أقوى منها.

    أمّا السلسلة الصوتية التي يسبح فيها الجزء، سواء كانت سلسلة قياسية كما هي على الدائرة [أي تامة وسليمة من الزحاف والعلة]، أو كانت غير قياسية كما هو حالها في منظوم الشعر على قوالب البحور [أي معلولة وقد دخلها الزحاف]؛ فهي واقع ثابت من إنتاج شعراء العرب المعتدّ بنظمهم، سواء عبّرت عنها بأجزاء نظام الخليل السالمة والمعلولة والمزاحفة، أو عبّرت عنها بتفاعيل أخرى غيرها كان ضمنها تفاعيل رباعية وسداسية وثمانية وتساعية، أو عبّرت عنها بتنعيم العرب، أو بالتنغيم المعبّر عن أنساق عروض قضاعة مع طوالع الأنساق، أو عبّرت عنها بمقاطع الأصواتيين، أو حتى عبّرت عنها بالأرقام كما يفعل الأستاذ خشان الذي ألغى الحدود بين التفاعيل في طريقته الرقمية المعروفة باسمه (العَروض رقمياً، بحثٌ في منهجية الخليل، ص: 22- 24، 236)، (منظومة الخليل لعلم العروض، خشان، ص 5- 13).

    وحقيقة ظاهرة التقليب الملاحظة في عَروض الخليل، إنما تظهر فقط على مستوى السلاسل القياسية التامة الأولية العُقدية [أي ذات الأوتاد المجموعة (7)]، ذلك أنّ الأجزاء فيها مكتملة الهيئة كما هو مقرّر لها على دوائر نظام الخليل. أمّا على مستوى السلاسل غير القياسية وغير الأولية في نظامه (قوالب البحور)، أي التي أصابتها العلة والزحاف، فظاهرة التقليب فيها محصورة بحشو السلسلة فقط، وفقط بالأجزاء غير المزاحفة في الحشو. وعلى ذلك، ففي كل حديث قادم عن السلاسل القياسية، فإننا نقصد جميع هذه التفاصيل المذكورة للسلاسل القياسية، أي التامة والأولية والعُقدية؛ لأنها هي المعنية بظاهرة التقليب بحسب افتراضهم.

    (7): مصطلح "العُقدية" مأخوذ من مسمّى العُقدة في نظام قضاعة العروضي، فالعقدة هي الوتد المجموع (نعم). فحيث أنّ الوتد في نظام الخليل وتدين، واحد مجموع وواحد مفروق، لذلك فإن مقولة "الوتد" وحدها لا تكفي لبيان المقصود. ثم أن عروض قضاعة لا يعترف بالوتد المفروق. وهو أيضاً لا يعترف بالسبب الثقيل؛ وفوق ذلك فمصطلح "الوتد المجموع" غير مرن لأنه مصطلح مركب من كلمتين. ولذلك فإن استخدامنا لمسميات عروض قضاعة للوحدات الصوتية الأربعة الموجودة في عروض العرب، تحت مسمّى التنعيم، كلما كان ذلك ضرورياً، سوف يجنبنا سوء الفهم في بعض المواضع المخصوصة.
    وهذه هي مسميات هذه الوحدات الصوتية الأربع في عروض قضاعة (خطوة- عُقدة- جدلة- ربطة)[= في نظام الخليل: سبب خفيف- وتد مجموع- فاصلة صغرى- فاصلة كبرى]. وهذه هي رموزها في عروض قضاعة (لا – نعم- نعمم – نعملم). فالتنعيم في عروض قضاعة هو تعبير عن المكونات الصوتية الأربعة بهذه الأدوات.
    أمّا كيف سيعبّر التنعيم عن الناحية الإيقاعية في السلسلة، فهذا يكون عن طريق التنغيم (بالغين)، هذا المتمثّل بوضع فواصل [ ، ] بين تسلسلات محددة في السلسلة [مثلاً: نعم، لا نعم، لا نعم، لا نعم، لا = فعولن فعولن فعولن فعولن (المتقارب)]، فالتنغيم يتضمن تلقائياً التنعيم المشار إليه. فالتنغيم مركّب على مسطرة التنعيم، وهو يعبر عن الناحية الإيقاعية بحسب رؤية أبي الطيب البلوي، تماماً كما هي فكرة الجزء في نظام الخليل في تعبيرها عن الناحية الإيقاعية برؤية الخليل. فأبو الطيب يرفض إلباس انساق نظامه الإيقاعية وطوالعها هنداماً لغوياً كما فعل الخليل، ذلك أن العروض العربي ناحية موسيقية إيقاعية لا علاقة لها باللغة. ففعل الخليل لذلك، هو احد أوجه الصعوبة الكثيرة في نظامه. (راجع المنتج الجاهز لعروض قضاعة، لمزيد من التفاصيل).

    توضيح: مفهوم "التمام" في نظام الخليل له مناطين يتعلق بهما، فهو إمّا متعلق ببيت الشعر، وإمّا متعلق بالدائرة. ومفهوم التمام المتعلق بالدائرة هو الذي يعنينا هنا في هذه المقالة. فالبيت التام من الشعر هو الذي استوفى جميع الأجزاء المقرّرة له لكل شطر من البيت كما هو في دائرته، حتى لو أصاب جزء الضرب أو جزء العروضة في المنظوم من الشعر، علة من علل نظام الخليل الاثنا عشر. فهو كذلك لأن العلة قد أصابته وهو تام، فلم يصل مقدار الحذف من نهاية الشطر بوجود علل النقص التسعة على الأخص، إلى حذف جزء كامل منه. فلو وصل مقدار الحذف لذلك، ومن كل شطر طبعاً، فهذا هو مفهوم المجزوء في نظام الخليل. أمّا لو وصل مقدار الحذف من البيت إلى حذف شطر كامل، وكذلك حذف جزء واحد من نهاية الشطر المتبقي، فهذا هو المنهوك في نظام الخليل. أمّا المشطور في نظامه فهو شطر واحد تام، حتى وإن أصاب أجزائه زحاف أو علّة. والزحاف لا يمنع البيت من استحقاق احد تلك الألقاب الأربعة (التام، المجزوء، المنهوك، المشطور). كما أن علل نظام الخليل قد تدخل على المجزوء والمشطور والمنهوك أيضاً، فلا يمنع دخولها عليها من بقاءها مستحقة لهذه الألقاب الثلاثة، تماماً كما في مفهوم البيت التام.
    أمّا مفهوم التمام في الدائرة، وهو الذي يعنينا هنا في هذه المقالة كما قلنا، فمختلف عن ذلك جذرياً. فالسلسلة فيه تقتصر على شطر واحد تام قياسي، ولا وجود للعلل والزحاف في الدائرة، وبالتالي فلا وجود لها أيضاً في السلاسل القياسية التي تُفك منها. ولذلك فالتام في الدائرة هو الشطر الواحد وقد استوفى جميع الأجزاء المقرّرة له على الدائرة، بدون دخول الزحاف والعلّة على الخط. والسلسلة القياسية شطر واحد في دوائر الخليل، لأن دوائره دوائر هندسية ذات طول كمّي محدد، مغلقة على مكونات الجزء الصوتية من الأسباب والأوتاد. ومفهوم التمام في الدائرة ذو علاقة جدّ وثيقة بمفهوم البحر في نظامه وفي العروض العربي. فالسلسلة لن تستحق لَقب (بحر)، فيكون لها بعد ذلك قوالب متفرعة عنها تابعة لها؛ إلّا لو حققت مفهوم التمام على الدائرة، إضافة لشرطين آخرين، وهما شرط الأولية وشرط خلوها من العثرات، وسنعود ونذكر هذين الشرطين بتفصيل بعد قليل.
    ولأجل أن دوائر الخليل ذات طول كمّي محدد، فلاحظ أن دلالة التمام في دائرة المختلف التي منها الطويل البسيط والمديد، يختلف عن دلالته في باقي دوائر الخليل من حيث الطول الكمّي، أي من حيث عدد المتحركات فقط، فكل متحرك عبارة عن وحدة كمية واحدة بنظر عروض قضاعة [والذي هو الزخم بمفهوم عروض قضاعة]. فدائرة المختلف لكونها تتألف من جزأين سباعيين وجزأين خماسيين، فهي بطول 14 وحدة كمية (أي ع.= 14). ويطلق عروض قضاعة على هذا الطول مسمّى "دارع". ولذلك فالسلاسل القياسية التامة التي ستفرزها دائرة المختلف، جميعها يجب أن تكون دارعة الطول، بما في ذلك البحور المهملة فيها.
    بينما باقي دوائر الخليل، لكونها تتألف من ثلاث أجزاء سباعية، أو من أربعة أجزاء خماسية كما في دائرة المتقارب، فهي بطول 12 وحدة كمية (ع. =12). ويطلق عروض قضاعة على هذا الطول مسمّى "تام"، الذي استعرناه من نظام الخليل إنما بغير معناه عنده. وطول التام ينطبق كذلك على دائرة السبب الثقيل (المؤتلف)، فيما لو أعدناها لأصلها الأولي. فالدائرة العربية إيقاع أولي. فهذه الدائرة على الحقيقة هي دائرة الهزج في نظامه، إنما على الإيقاع الثانوي الخببي (أي المزاحِف على الحقيقة). وإذا كان قد استقام أمر دائرة السبب الثقيل للخليل في كونها تامة بمفهوم نظامه للتمام، على الرغم من كونها إيقاع ثانوي؛ فهذا لأن مقياس الخليل لطول الجزء مبني على عدد حروفه، وليس على مقدار ما فيه من زخم، فأجزاء دائرة السبب الثقيل عند احتسابها بالأحرف، فهي سباعية الأحرف (مفاعلَتن – متَفاعلن- فاعلاتكَ).
    وعليه، فإنه عند استخدامنا لمصطلح السلسلة القياسية التامة في نظام الخليل، فمقصودنا هو الطول القياسي للسلسلة، سواء كانت بطول التام (12 وحدة كمية)، أم كانت بطول الدارع (14 وحدة كمية). وهذا الأمر هو ما جعل طول السلسلة المجزوءة الآتية من دائرة المختلف التي منها البسيط، أطول من طول السلسلة المجزوءة الآتية من باقي البحور. وفي نهاية هذه المقالة، عندما سنشرح الكيفية الحقيقة التي أدّت لظهور ظاهرة التقليب في نظام الخليل (السر الدفين)، سوف يتضح لك ما ذكرناه هنا بشكل أوضح. (ويمكنك الرجوع لكتاب "عروض قضاعة- المنتج الجاهز"، لمزيد من التفاصيل).


    ومع ذلك، فالجزء لا قيمة له بمعزل عن السلاسل القياسية مع هذا الفَرْض، لأنه تسلسل ضمن سلسلة وليس سلسلة قائمة بذاتها كما قلنا. فهذه السلاسل القياسية هي موضوع البحث الرئيس في العروض العربي عند إرادة حصرها، بمساعدة فكرة التقليب الرياضية. فاستخراج احتمالاتها الممكنة الوجود على شرط العرب، حتى لو لم يستخدمها العرب، هو من صميم فهم ودراسة الإيقاع عموماً. فالشيء يُعرف بضده، فكيف سنعرف أن هذه السلسلة القياسية بحر عربي على الحقيقة وليس على الفرض، وتلك ليست ببحر عربي؛ في ظل أن الجزء بعض من السلسلة وليس كلها، وفي ظل أن كثيراً من السلاسل تشترك بنفس المواصفات التي لسلاسل العرب القياسية كما قلنا.

    بل حتى لو لم تكن السلاسل قياسية، فنحن نحتاج أنّ نعرف هل هي سلسلة عربية أم غير عربية، لكن الجزء لن يسعفنا في ذلك لأنه بعض من السلسلة، ولأنه ليس شرعية في ذلك كما سنرى. فالإيقاع مجرّداً هو إيقاع سواء وافق نظم العرب أم خالفه؛ أمّا الإيقاع العربي فهو إيقاع مخصوص؛ وهو سبب حضور نظرية الخليل ونظرية قضاعة لبيان ماهيته من اجل تفريقه عن غيره، ومن أجل أنّ معرفته له تبعات على باقي علوم اللغة العربية. (8)

    (8): راجع مقالتنا في رابطة الواحة التي عنوانها: (الفرق بين الإيقاع المجرّد والإيقاع العربي، وأهمية العروض للعربية).

    وهذا ما انتبه له محمد العلَمي، فجعل التقليب ينتقل من الجزء إلى الدائرة، وذلك حتى يتماسك هذا الفَرْض الرئيس لهم فلا ينهار. وذلك من خلال تمييزه بين نوعين من التقليب، ظنّ العلَمي أن الخليل استعملهما عند إقامة بنيان نظامه العروضي، وهما: التقليب الثابت، والتقليب المتحرك. فالتقليب الثابت برأي العلَمي، هو الذي يختص بتقليب مكوّنات الأجزاء في ذاتها. أمّا التقليب المتحرك فهو الذي يختص بتقليب الأجزاء نفسها على مستوى الدائرة، أي على مستوى السلاسل القياسية التي ستفرزها دوائر الخليل. فالعلَمي يرى أنّ مبدأ التقليب في الجزء (أي التقليب الثابت)، ظل قائماً في الدائرة على مستوى تقليب الأجزاء نفسها، إنما بصورة أخرى هي ما أطلق عليه (التقليب المتحرك). (دراسة في التأسيس والاستدراك/ 85- 86- 121). ومحاولة العلَمي هذه في أصلها، هي تكرار مُحسّن لمحاولة الزمخشري من قبله (ت/ 538 هـ). (القسطاس، ص/ 47 - 50). (9)

    (9) فالتقليب المتحرك بظن العلمي يكون هكذا: أنه عند تقليب الجزء الخماسي والسباعي مكان بعضهما مرتين في دائرة المختلف، هذه التي منها الطويل والبسيط والمديد؛ فهذا سيجعلها تفرز السلاسل القياسية لهذه البحور الثلاثة، وينتج عنها في نفس الوقت فكُّ بحر من آخر بالتقليب. وحيث أن هناك بحرين آخرين أفرزتهما دائرة المختلف لكنهما غير مستعملين في واقع الشعر (وهناك مهملات أخرى في باقي الدوائر أيضاً)، فقد سمّاهما الخليل "بحوراً مهملة" تشبيهاً لها بالمواد اللغوية غير المستعملة التي أظهرها التقليب في معجم العين، فسماها الخليل لأجل ذلك "مواد لغوية مهملة"؛ هكذا قال العلَمي. والتقليب المتحرك في الدوائر الأخرى التي اقتصرت على الأجزاء السباعية، أو التي اقتصرت على الجزء الخماسي كدائرة المتقارب (دائرة المتفق)، فهذه ستفرز بحورها على أساس تقليب الجزء المكوّن لها من حيث كونه خماسي فقط أم سباعي فقط. أي إمّا بتكرار الجزء نفسه كما في بحور دائرة الهزج (دائرة المجتلب) ودائرة المتفق. وإمّا بتكرار أجزء سباعية مختلفة عن بعضها، كما في دائرة الوتد المفروق، أي دائرة المشتبه. (دراسة في التأسيس والاستدراك، ص/ 121- 124، 133)

    وحتى بتعدية التقليب إلى الدائرة دون إهمال حضوره في الجزء، كما يفترض محمد العلَمي؛ فإنه كي يصح افتراضهم بكون الخليل قد استعمل فكرة التقليب في إنشاء نظامه، فيجب أن نكون قادرين بواسطة التقليب المتحرك كما يصفه العلَمي، على حصر جميع احتمالات السلاسل القياسية الممكنة الوجود على شرط العرب على الأقل. ثم أنّ السلسلة القياسية التي ستتوافق مع ما عند العرب بعد الحصر، سنفترض أن الخليل أثبتها في نظامه كبحر لأجل أن العرب استعملتها. وتلك التي ليست عند العرب كبحر مستعمل، لكنها متوافقة مع شروطهم العامة، قام الخليل بنفيها لأن العرب لم تستعملها؛ تماماً كما حصل في معجم العين فيما يخص المفردات اللغوية عند تقليب الحروف..! ولم يناقش العلمي هذه المسألة في فرضيته عن التقليب المتحرك.

    لكن الجزء لن يستطيع حصرها في كلا نوعَيّ التقليب (الثابت والمتحرك)..! فهو لن يستطيع حصرها على أساس التقليب الثابت، لأن الجزء بعض من السلسلة وليس كلها كما قلنا. وهو لن يستطيع حصرها على أساس التقليب المتحرك، لأنه الجزء ليس له شرعية في ذاته، إنما شرعيته مستمدة من دوائر نظام الخليل فقط (كما سنرى بعد قليل).

  6. #6
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    (5)

    وعلى ذلك، فالخليل لم يستخدم ظاهرة التقليب في إنشاء نظامه إطلاقاً على ما ظن القوم (ظن جازم)، ذلك أن فكرة الجزء لن تسعف الخليل للقيام بهذا الدور. فحتى مع التزام شرط العرب في تأليف السلاسل القياسية، وهو شرط الأولية، وشرط الخلُـوّ من العثرات، وشرط طول التام القياسي الشائع؛ فهناك سلاسل قياسية لن تستطيع فكرة الجزء تقطيعها، مع أنها ستكون مشابهة لسلاسل شعر العرب من حيث التمام والأولية والـخُلُـوّ من العثرات.

    معلومة: في الاصطلاح العَروضي: قطّعَ الشعر تقطيعاً: حلّلهُ إلى أجزائه العروضية المتعارف عليها في نظام الخليل. أي بحسب شرط صحّة الجزء في نظامه، والذي هو احتواء الجزء على وتد واحد وسببين على الأكثر؛ فناتج تطبيق هذا الشرط هو الجزء السباعي أو الخماسي فقط، الذين قام عليهما نظام الخليل. أمّا التقطيع لغةً: فمصدر قَطّع الشيء، قطعه قطعةً قطعة. وقد نطلق مصطلح (التجزيء) على التقطيع، على اعتبار أنّ تقطيع السلسلة هو تجزيئها إلى أجزاء قياسية، أي بحسب شرط صحّة الجزء في نظام الخليل.

    إضاءة: الإيقاع الأولي هو أصل الإيقاع العربي (ظن جازم)، والإيقاع الأولي العربي يخلو من الأوتاد المجموعة المتجاورة [نعم نعم]، ويخلو كذلك من الفواصل الصغرى والكبرى (///0 نعمم- ////0 نعملم). فلا يعتد بصنيع الخليل الذي أمضى الكامل والوافر على الإيقاع الثانوي في نقض هذا الأمر. فالخليل إنما فعل هذا ليحل معضلة عويصة في نظامه، لا تحل إلّا بالطريقة التي فعلها الخليل في ظل الأساسات التي انطلق منها في نظامه؛ وهذه المعضلة هي كيفية فصل الكامل عن الرجز في نظامه، وفصل الهزج عن الوافر. وهذه الطريقة في الفصل بينهما هي التي تولّد عنها كائن السبب الثقيل، وتولد عنها كذلك دائرة السبب الثقيل التي هي صورة مشوّهة عن دائرة الهزج في نظام الخليل.
    والإيقاع الأولي العربي يخلو كذلك من العثرات، والعثرة تسلسل وليس سلسلة، وهي ذو تنعيمات متنوعة، قد تكون في الحشو وقد تكون في موضع الجرس (في نهاية السلسلة). وقد تكون العثرة ظاهرة في الإيقاع الأولي أو الثانوي، وقد تكون العثرة مطمورة في الإيقاع الثانوي. فالعثرة هي حالة تواجد أربعة أسباب خفيفة أو أكثر في حشو السلسلة (أربع خطوات)، (مثل هذه: نعم، لا لا لا لا نعم، لا لا نعم).
    أو هي تواجد خمس خطوات فأكثر في موضع الجرس (مثل هذه السلسلة: نعم، لا لا نعم، لا لا لا لا لا)، والجرس بحسب تأصيل عروض قضاعة هو ثابت معياري دائم لكل السلاسل العُقدية. فهو بعد آخر عُقدة قِفْل في السلسلة (وليس بعد خطوة القفل فانتبه)، والقِفل هذا هو تنعيمه (نعم لا). وقد يكون الجرس خطوة واحدة وقد يكون تسلسلاً مؤلفاً من خطوتين أو أكثر، أو من عدة مكونات صوتية أخرى.
    أمّا تواجد العنقود ذي الخطوات الأربع في موضع الجرس (مثل هذه: لا نعم، لا لا لا نعم، لا لا لا لا)، ومع أنه عثرة يجب التخلص منها؛ لكن العنقود ليس بعثرة أصلية إنما هو عثرة إيقاعية. فالعنقود سينتج عن نسق العنقاء (لا لا لا نعم) عند تطبيق علة القطع على العنقاء في موضع الجرس (لا لا لا نعم - تؤول بالقطع إلى عنقود: لا لا لا لا)؛ تماماً كما آلت مستفعلن إلى مستفعل بعلة القطع في نظام الخليل (لا لا نعم تؤول بالقطع إلى لا لا لا).
    فالعنقود مكون أصيل في عروض العرب، لكن الخليل لم يقل به في نظامه لأنه ليس له مكان في بنية نظريته لكونه ثماني الأحرف، والجزء في نظام الخليل إمّا خماسي الأحرف وإما سباعي. ولأن العنقود مكون أصيل كما قلنا، فقد ظهر في مسطرة نظام الخليل (وليس بنية نظامه فانتبه)، وذلك عند تقرير الخليل للنوع الخامس في بحر الخفيف، فألزمه الخليل الخبن ليتخلص من عثرة العنقود. وهو الضرب المقصور المخبون، الذي شاهده عند الخليل: كُلُّ خَطبٍ إن لَم تَكو ... نُوا غَضِبتُم يَسيرُ [لا نعم، لا لا لا نعم (ع.= 8) ... لا نعم، لا نعم، لا (ع.= 7)]. فتنعيم عجز هذا الشاهد قبل إلزامه الخبن، قد ظهر فيه جرس العنقود، هكذا: لا نعم، لا لا لا لا : فاعلاتن مستفع لْ، أمّا بعد أن ألزم الخليل (مستفع ل) المقصورة الخبن، من اجل التخلص من عثرة العنقود، يصير هكذا: فاعلاتن متفع لْ : لا نعم، لا نعم لا. والحقيقة أن عجز هذا القالب هو إيقاع البندول وليس إيقاع الخفيف. فهذا القالب للخفيف شاذ ومفقود في شعر العرب، وهو مرفوض في عروض قضاعة؛ فالعرب لم تخلط بين الإيقاعات على ما ظن البعض.
    وانتبه أن سلسلة البحر الراقص (بحر الخبب)، غير مشمولة بهذا القول عن العثرة، فالراقص بحر لاعُقدي، فهو لا يتألف من خطوات منفردة على ما ظن البعض (من أسباب خفيفة منفردة)، إنما هو يتألف من خطوتين متلازمتين احتساباً من بداية الإيقاع. وهاتين الخطوتين المتلازمتين هما نسق يدعوهما نظام قضاعة (نسق العود)، وهو نسق لاعُقدي كما ترى (لا لا). فالراقص كما ورد عن العرب بتأصيل عروض قضاعة تنغيمياً (بالغين)، هكذا: لا لا، لا لا، لا لا، لا لا (ع.= 8). وإيقاعه الثانوي هكذا: نعمم، نعمم، نعمم، نعمم. ولأن الراقص بحر لاعُقدي لكونه يقتصر على نسق العود كما قلنا، فهذا سبب تركيزنا على إضافة وصف [العُقدية]، عند حديثنا عن حصر السلاسل القياسية الممكنة الوجود على شرط العرب. فخلط نسق العود بأجزاء الخليل السباعية سينتج عنه عثرة لا محالة. ولمزيد من التوضيح، راجع كتاب (المنتج الجاهز لعروض قضاعة).


    بعد اطلاعك على الإضاءة أعلاه، نتابع كلامنا فنقول: فحتى مع استخدام التقليب المتحرك، حيث التقليب الثابت متضمَّن فيه تلقائياً؛ فلا يمكننا بواسطته استخراج جميع احتمالات السلاسل القياسية الأولية على شرط العرب. نقول ذلك بدليل أنه يتوجب على المتعلّم لنظام الخليل، أن يراعي عند تصويره لصور البحور القياسية بالأجزاء، تجنّب صف الأجزاء بكيفية ينتج عنها اجتماع وتدين مجموعين، أو اجتماع أربعة أسباب خفيفة (10). وهذا لو حصل سيكون منافياً لشرط العرب في تأليف السلاسل القياسية. فكيف يمكن والحال هكذا استعمال فكرة التقليب المتحرك بحسب اقتراح العلمي، في حصر السلاسل القياسية على شرط العرب؛ والتي هي موضوع البحث الرئيس في العروض العربي فيما يخص فكرة التقليب المزعومة. وفي هذا تأكيد على ما قلناه قبل قليل، من أن شرعيته الجزء مستمدة من دوائر الخليل فقط، وليس من ذاته.

    (10) [(هكذا مثلاً: مفاعيلن مستفعلن***: نعم لا لا لا لا نعم)، والعكس أيضاً مرفوض لأنه سينتج عنه اجتماع وتدين مجموعين، هكذا: مستفعلن مفاعيلن ***: لا لا نعم نعم لا لا].

    بل أنه باستعمال التقليب المتحرّك بحسب فرضية العلَمي، في إجراء حصر للسلاسل القياسية العُقدية على شرط العرب، فإن من ضمن الاحتمالات الكثيرة التي سوف تظهر، هو احتمالات كثيرة مكرّرة، حتى مع الحفاظ على شرط العرب في السلاسل القياسية العُقدية. وظهور التكرار منافٍ لفكرة استعمال التقليب المزعومة كوسيلة رياضية إحصائية من أساسها. ومنافٍ أيضاً للتماثل الذي ظنّه العلَمي في الأجزاء المؤلفة لدوائر الخليل، باستخدام التقليب المتحرك المتضمن للتقليب الثابت، هذه التي يسميها "العلاقة التكوينية". (دراسة في التأسيس والاستدراك، ص 121). (11)

    (11) لك في سلسلة المديد القياسية التامة في نظام الخليل، مثال ممتاز على ذلك: (لا نعم، لا لا نعم، لا نعم، لا لا نعم، ع.= 14): فتقطيع الخليل لها هو: فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلن). والتقطيع الآخر الممكن لها، المراعي لصحة الجزء في نظام الخليل، والموافق كذلك للتماثل المتمثّل بمبدأ تقليب الجزء الخماسي والسباعي مكان بعضهما مرتين في دائرة المختلف على ما يقول العلمي، أي العلاقة التكوينية كما يصفها، ألا وهو: (فاعلن مستفعلن فاعلن مستفعلن)، لكن الخليل انحاز للتقطيع الأول لأنه الأسلم لنظامه.
    لكن يوجد لسلسلة المديد القياسية تقطيع ثالث لها مراعي لصحة شرط الجزء في نظام الخليل، لكنه غير موافق لمبدأ تقليب الجزء الخماسي والسباعي مكان بعضهما مرتين في دائرة المختلف (غير موافق للتماثل بحسب العلمي)؛ وهو هذا: (فاعلاتن فاعلاتن فعولن فاعلن..!)؛ إذ تم التقليب هنا بين سباعيين متبوعين بخماسيين مختلفين عن بعضهما. لكن من خلال انساق عروض قضاعة، مع طوالع الأنساق، فليس لها إلّا احتمال وحيد..! (لا نعم، لا لا نعم، لا نعم، لا لا نعم، ع.= 14).
    وكمثال آخر عن ظهور الاحتمالات المكرّرة باستخدام فكرة الجزء في الإحصاء، هو هذه المحاولات الثلاثة (مثلاً لا حصراً):
    1) فاعلن مستفعلن مستفعلن فاعلن
    2) فاعلاتن فاعلن مستفعلن فاعلن
    3) فاعلاتن فاعلاتن فاعلن فاعلن
    فهذه جميعها تنعيمها الصوتي واحد..! وهو: (لا نعم، لا لا نعم، لا لا نعم، لا نعم). وليس فيها وتد مفروق أو سبب ثقيل حتى نـؤوّل اختلافها لمصلحة الخليل. وفي هذا زيادة تأكيد على أن شرعيته الجزء مستمدة من دوائر الخليل فقط، وليس من ذاته كما قلنا. وبالمناسبة، قام صاحب عروض قضاعة بحصر للسلاسل القياسية العُقدية على شرط العرب، دون أن يتكرّر منها شيء، وذلك من خلال أدوات نظام قضاعة؛ فوجد أنها سبع وثلاثين سلسلة قياسية، وإذا استثنينا حضور جرس العنقود فيها، مع انه مكون أصيل في عروض العرب كما قلنا، فهي ثلاث وثلاثون سلسلة قياسية، لم يستخدم العرب منها سلاسل قياسية كبحور، سوى 14 سلسلة قياسية (14 بحر).


    فمعنى تكرار السلاسل عند استخدام فكرة الجزء في محاولة حصرها عن طريق تقليب الأجزاء نفسها، هو تعدّد احتمالات تقطيع كثير منها من خلال فكرة الجزء، حتى مع المحافظة على شرط صحة الجزء في نظام الخليل (احتواءه على وتد واحد وسببين على الأكثر )، والذي هو الشرط الأهم قبل شرط التماثل. فالتماثل الموهوم بينها على أساس التقليب المتحرك، أي كما هي في نظام الخليل، لا يظل في جميع الأحوال حاضراً كما رأينا في الأمثلة. فالذي فرض التماثل الذي ظنّه العلمي، في دائرة المختلف والمشتبه على الأخص (ص 121- 122)، هو تقرير الخليل لاتجاه دوران محدّد للدائرة، وبأن لكل دائرة بحر هو أصلها الذي تُفك من عنده.

    وبذلك يسقط افتراض أن الخليل أقام نظام عروضه على ظاهرة التقليب بزعمهم. وفي هذا زيادة تأكيد على أن الجزء ليس له شرعيته في ذاته، إنما شرعيته مستمدة من دوائر نظام الخليل فقط، بل أنّ دوائره موظّفة توظيفاً خاصاً لتمنح الجزء الشرعية المطلوبة. بل أنّ هناك سلاسل قياسية تامة على شرط العرب، ليس لها تقطيع باستخدام فكرة الجزء في نظام الخليل، ما يعني أنها حتى لن تظهر في نواتج إحصاء السلاسل عند استخدام فكرة الجزء في محاولة حصرها عن طريق تقليب الأجزاء نفسها..! وبذلك تسقط ظاهرة التقليب المفترضة في عروض الخليل من هذا الجانب أيضاً. (12)

    (12) وذلك كهذه السلاسل الأربعة القياسية التامة (ع.=12)، المشابهة لسلاسل العرب القياسية (وهناك غيرها أيضاً): (نعم، لا نعم، لا لا لا نعم، لا لا) ، (نعم، لا لا نعم، لا نعم، لا نعم) ، (لا نعم، لا نعم، لا نعم، لا لا لا)، (لا لا لا نعم، لا لا نعم، لا نعم). فهذه السلاسل لا يمكن تقطيعها مع المحافظة على شرط صحة الجزء في نظام الخليل (وتد واحد وسببين على الأكثر). وفي هذا زيادة تأكيد على أن شرعيته الجزء مستمدة من دوائر الخليل فقط، وليس من ذاته كما قلنا. وفي هذا تأكيد أيضاً على قصور نظام الخليل عموماً، إذ يفترض به أن يكون قادراً على توصيف جميع السلاسل، بما فيها الباطلة بنظر العرب؛ مع القدرة على بيان سبب بطلانها؛ لكن نظام الخليل لا يستطيع ذلك. راجع مقالتنا في رابطة الواحة التي عنوانها: (صعوبة نظام الخليل وتعقيده، آتيةٌ من ذاته، لا من ذات المشتغلين فيه مُعلّمين أو مُتعلّمين).


  7. #7
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    (6)

    وكدليل آخر مهم جداً على فشل فكرة التقليب في ذاتها كأصل عام في عروض الخليل، هو جُـزئَـيّ الكامل والوافر، متَفاعلن ومفاعلَتن. فالسبب الثقيل فيهما لا يأتي بعده إلّا السبب الخفيف الوَهْمِي المتخلّف عن صنعه، ذلك لأن السبب الثقيل نتجَ أصلاً عن شق الفاصلة الصغرى نصفين [// /0]. فإذا قلّبت موضعهما مع الوتد المجموع على ما تفترض نظرية التقليب في أجزاء عروض الخليل، فسوف تختفي حقيقة السبب الثقيل أصلاً وفصلاً.

    وإذا كان الجزء المشوّه فاعلاتكَ [/0- //0 - //]، القادم من نفس الدائرة التي جاء منها جُـزئَـيّ الكامل والوافر. والذي أثبته الخليل في نظامه (دراسة في التأسيس والاستدراك، ص 85)، لكنه اعتبره جزءاً مهملاً وجوباً، لكونه يؤلّف بحراً مهملاً عليها عند تكراره ثلاث مرات في الشطر ، يُطلق عليه حالياً مسمّى المتوفر. (الغامزة ص 26). فذكر البحر المهمل في دوائر الخليل ليس ترفاً على ما ظنّ البعض.

    أقول: فإذا كان الجزء فاعلاتكَ قد جاء على خلاف ما قلنا، إذ قد جاء السبب الثقيل فيه بعد الوتد المجموع وليس قبل السبب الخفيف الوهمي؛ وهذا قد يعني بنظر البعض توفّر مظِنّة حصول التقليب فيه. لكن هذا ليس دليلاً لأحد على انطباق فكرة التقليب على جُـزئَـيّ الكامل والوافر أيضاً..؟
    ذلك أن هذا الجزء المشوّه لم ينتج بالتقليب المذكور، إنما نتج بسبب مفهوم الدائرة في نظام الخليل. هذا عدا عن أن إثبات الخليل للجزء فاعلاتكَ في نظامه مع كونه جزء مهمل، بل وإثباته للبحور المهملة في دوائره، يتناقض مع فرضهم الذي انطلقوا منه..! إذ الواجب إهمالها تماماً لكونها غير مستعملة، أسوةً بما فعله الخليل بمعجم العين، أليس كذلك..؟

    فالخليل لـمّا اعتبر أنّ السبب الخفيف الوهمي المتخلّف عن صنع السبب الثقيل، هو مكوّن صوتي مستقل، أي كسبب خفيف حقيقي في نظامه، فكان يجب أن يدخل في تأليف دائرة الوافر، وأن تبتدئ من عنده سلسلة على الدائرة. وذلك ليكتمل بناء الدائرة في نظامه (دائرة المؤتلف). ذلك أن دوائر نظامه هي دوائر هندسية مغلقة على المكونات الصوتية لأجزاء بحورها كما قلنا (الأسباب والأوتاد). (انظر الشكل)

    دائرة السبب الثقيل.png

    ولـمّا كانت دوائر نظامه ذات طول قياسي محدد كما قلنا [فهذه الدائرة بطول 15 وحدة كمية (15 متحرك)]. ويجب تثبيت مكوّنات الجزء الصوتية على محيط الدائرة (الأسباب والأوتاد)؛ ومن عند جزء بحر معين حـيّ مصدّر بوتد مجموع، تُفك الدائرة بحسب تقرير الخليل (13). ولها اتجاه دوران ثابت لا يجوز مخالفته، حتى لو أمكن مخالفة ذلك في بعضها (14)؛ ويجب تثبيت أماكن جميع البحور فيها؛ الحية منها والمهملة. فلأجل كل ذلك، ظهر الجزء الباطل فاعلاتكَ الذي ذكره الخليل في نظامه، ممثّلاً لسلسلة المتوفر عند تكراره ثلاث مرات، وليس هناك احتمال غيره.

    وهذا هو سبب أن أجزاء نظام الخليل تسعة أجزاء لفظاً وإحدى عشر حكماً كما قلنا. لكن جرت الإشارة لها في كتب العروض الخليلية بكونها ثمانية لفظاً وعشرة حكماً؛ لأن فاعلاتكَ جزء مهمل ألّف بحراً مهملاً. (الغامزة ص 27، وص 30، وص 52. وانظر: (شفاء الغليل في علم الخليل، ص 60)

    ونفس هذا الذي حصل لسلسلة المتوفر، قد حصل سلسلة السريع القياسية على دائرة المشتبه كما سنرى، فقد ابتدأت على الدائرة من عند السبب الخفيف الوهمي المتخلف عن صناعة الوتد المفروق؛ اللهم أنّ المتوفر بحر مهمل بنظر الخليل، أما السريع فبحر حَيّ بنظره.

    (13): لأجل قوة الوتد بنظر الخليل كما قلنا، خاصة الوتد المجموع، فقد قرّر الخليل بأن دوائر نظامه تُفك من عند وتد مجموع عليها. ولأن الأوتاد المجموعة على محيط الدائرة أكثر من واحد، ويمكن أن يبدئ من عند كل منها بحر وقد يكون مهملاً، فقد اصطلح الخليل على أنّ البحر الحي الذي جزءه مصدّر بوتد مجموع، هو بداية الدائرة، أي أصلها الذي تُفك من عنده. فدائرة المختلف التي منها الطويل والبسيط والمديد، وهي البحور الحية فيها، فالطويل هو مبتدئ الفك منها لأنه بحر حي وجزءه الذي تبتدئ به سلسلته القياسية هو فعولن المصدّر بوتد مجموع. ولذلك قد يُطلق البعض على دائرة المختلف مسمّى آخر وهو "دائرة الطويل". ودائرة المجتلب التي منها الرجز والهزج والرمل، فالهزج هو أصلها لأنه بحر حي وجزءه هو مفاعيلن المصدّر بوتد مجموع، ولأجل نفس السبب قد تسمّى بدائرة الهزج. ودائرة السبب الثقيل التي هي (دائرة المؤتلف)، التي تضم الوافر والكامل، فالوافر هو أصلها لأن مفاعلَتن مصدّر بوتد مجموع، ولذلك قد تسمّى بدائرة الوافر. ودائرة المتفِق التي أجلس الخليل المتقارب فيها وحده كبحر حَـيّ، فهو أصلها وبه قد تسمّى (دائرة المتقارب)، فالجزء الذي تبتدئ به سلسلة المتقارب هو فعولن المصدّر بوتد مجموع.
    وكان حق دائرة الوتد المفروق، أي دائرة المشتبه، أن يكون أصلها الذي يبتدئ من عنده فكها، هو بحر المضارع المبدوء جزءه بوتد مجموع (مفاعيلن)، لكن الخليل خالف ذلك فيها فجعل مبتدأ فكها هو السريع المبدوء بسبب خفيف على الحقيقة (في سلسلته الحقيقية في واقع الشعر)..! لكنه سبب خفيف وهمي على دائرة المشتبه كما سنرى بعد قليل ولذلك قد يسميها البعض بدائرة السريع. وقد كثرت التفسيرات لسبب مخالفة الخليل للأصل الذي جرى عليها فيها (الجامع في العروض والقوافي، ص 244 - الغامزة، ص 58)، وقضاعة كشفت سر ذلك لكنه ليس موضوعنا هنا.

    (14) اتجاه دوران دوائر الخليل عند الفك الذي تبـنّاه الخليل، هو اتجاه الكتابة في العربية من اليمين لليسار، وبذلك سيكون اتجاه الدوران على دوائره بعكس عقارب الساعة (راجع رسومات الدوائر لابن عبد ربّه الأندلسي في كتابه "العقد الفريد"). ومخالفة اتجاه دوران دوائر الخليل عند الفك، على أساس الأسباب والأوتاد وليس الحروف، على غير ما قرّره الخليل في نظامه، حتى مع الابتداء بالوتد المجموع؛ سيكون ممكناً في بعض دوائره، أي سوف تستطيع هذه الدوائر مع مخالفة اتجاه الدوران المقرّر، إفراز السلاسل عليها كما هي عند العرب على أساس الأسباب والأوتاد؛ إلّا في دائرتي الوافر ودائرة المشتبه، فمخالفة اتجاه الدوران فيها كما قرّره الخليل، سوف ينسفها نسفاً. وذلك بسبب دخول أربعة كوائن باطلة فيها، هما السبب الثقيل والوتد المفروق، وكذلك دخول السبب الخفيف الوهمي فيها، هذا المتخلّف عن صناعة كلّ منهما.
    وعلى الرغم من أن مخالفة اتجاه الدوران في بعض الدوائر سيكون ممكناً كما قلنا، لكن هذا سوف يصعّب فكّها، وسيوجد الاختلاف عند رسمها..؟ فلو وقفت عند مسمّى "الطويل" المرسوم على الدائرة، وأردت فكه من دائرته على غير ما قرّره الخليل في اتجاه الدوران، فلن يخرج لك بحر الطويل بل بحر المستطيل المهمل؛ وقس على ذلك. ولذلك، قرر الخليل اتجاه دوران موحّد لدوائره كلها، هو الذي عكس دوران عقارب الساعة كما قلنا؛ وأن يكون لكل دائرة بحر هو أصلها الذي تُفك من عنده.


    ففي غمرة افتتان محمد العلمي بظاهرة التقليب بكلا نوعيها، قد فاتته حقيقة السبب الثقيل ومعه أخوه السبب الخفيف الوهمي المتخلّف عن صنعه. وفاته كذلك أنّ الجزء ليس له شرعية في ذاته، إنما شرعيته مستمدة من الدائرة التي تحتويه. وفاتته كذلك ماهية الدائرة في نظام الخليل، من أن لها اتجاه دوران محدد، وأنها يجب أن تبتدئ من عند المكان الذي قرّره الخليل (البحر الذي هو أصل الدائرة)، خاصة في دائرة المشتبه ودائرة الوافر، لأن مخالفة هذين الشرطين في هاتين الدائرتين على الأخص، سوف ينسفهما نسفاً. فهي ستُعطي مع هذه المخالفات تقطيعات للسلاسل على خلاف ما يريده الخليل، وعلى خلاف ما هو موجود في واقع الشعر. فطبيعة الدائرة في نظام الخليل غير مهيأة سوى لمنح الشرعية للأجزاء المنضوية فيها، لأنّ الجزء ليس له شرعية في ذاته كما قلنا. ما يعني أنه لو كانت دائرة الوافر حرة الدوران، لكانت أعطت تلك التفاعيل الثلاثة الأخيرة المهملة التي افترضها العلَمي (أي غير فاعلاتكَ المهملة، إنما المثبتة في نظام الخليل).(15)

    (15): الاحتمالات الثلاثة المهملة غير فاعلاتك، بظن محمد العلَمي، والتي ستنتج عند مخالفة اتجاه الدوران المقرر، هي:
    1- [(مُفَا) (تُـنْ) (عَلَ): وتد مجموع ثم سبب خفيف ثم سبب ثقيل= //0 - /0- // = نعم لا //].
    2- [(عَلَ) (مُـفَا) (تُـنْ): [سبب ثقيل ثم وتد مجموع ثم سبب خفيف= // - //0 - /0 = نعملم لا].
    3- (تُـنْ) (عَلَ) (مُـفَا): [سبب خفيف ثم سبب ثقيل ثم وتد مجموع= /0- // - //0 = لا نعملم].
    (دراسة في التأسيس والاستدراك. ص 84- 85).


    وهكذا يتأكد لنا بأن هذا الجزء المشوّه فاعلاتكَ، لم ينتج بالتقليب المذكور، إنما نتج بسبب مفهوم الدائرة في نظام الخليل، التي يتوجب فيها ذكر البحر المهمل، فذكره فيها وفي نظامه ليس ترفاً على ما ظنّ البعض (16). ما يعني أنّ إدخال هذا السبب الخفيف الوهمي برفقة الوتد المجموع والسبب الثقيل، في باقي احتمالات التقليب في أجزاء دائرة الوافر، بمظِنّة أن فاعلاتكَ نتجت بالتقليب؛ على ما ظنّ محمد العلَمي؛ ثم القول بعد ذلك أنها احتمالات مهملة لم يستعملها العرب ولذلك أهملها الخليل، كما فعل بمهملات مواد المعجم اللغوية الناشئة عن تقليب الحروف، لـمّا لم يجد لها استعمالاً في واقع اللغة؛ هو ظن في غير مكانه؛ فلا مكان للتقليب هنا بكلا نوعيه جملةً وتفصيلا.

    (16): ذكر البحر المهمل في دوائر الخليل ليس ترفاً على ما ظنّ البعض. وفي ذلك يقول ابن عبد ربّه الأندلسي [ت/ 328 هـ]، الذي تتحقق به مظِنّة النقل عن كتاب الخليل المفقود لدينا، في أرجوزته عن العروض عموماً، وعن هذه الدائرة على الأخص، ووجود الجزء المشوّه فاعلاتكَ فيها:
    وهذه الثانيةُ المخصوصهْ .... بالسببِ الثقيلِ والمنقوصهْ
    أجزاؤها مُثْـلَثةٌ مُسبّعة ... قد كرهوا أن يجعلوها أربعه
    لأنـّها تخرج عن مقدارهم ... في جملة الموزون من أشعارهم
    فهي على عشرين بعد واحد ... من الحروف ما بها من زائد
    ينفكّ منها وافرٌ وكاملُ ... وثالثٌ قد حار فيه الجاهل
    (العقد الفريد، ج 6، ص 284). فالذي حار فيه الجاهل، هو المتوفر الذي جزءه فاعلاتكَ.
    وإذا كان الخليل قد طرح البندول من نظامه [من دائرة المتقارب]، والإجماع منعقِدٌ على ذلك. هذا الذي جزءه فاعلن (لا نعم) مكرراً أربع مرات، وليس فيه فعْلن (لا لا)؛ فهذا طرح له كبحر حَـيّ وليس كبحر مهمل؛ فهو مثبّت كبحر مهمل في الدائرة الخامسة من دوائر ابن عبد ربّه الأندلسي، (العقد الفريد، ج 6، ص 287- 289).
    وسبب طرح الخليل للبندول كبحر حَـيّ، قد أشرنا له في مقالة سابقة لنا، وهو أنّ بُنية نظام الخليل لا يمكنها استيعاب البندول في وجود بحر الخبب في الساحة العروضية حياً، وفعلاً هو حَيّ. فلو أثبت الخليل البندول في دائرة المتقارب كبحر حَـيّ، على ما فعل أبو الحسن العروضي(الجامع، ص 95، 238)، فسيكون البندول جسراً سيعبر منه الراقص إلى نظام الخليل؛ وهذا فعلاً هو مقصد أبي الحسن العروضي. لكن هذا الأمر لا تطيقه بنية نظام الخليل؛ فالراقص بحر لاعُقدي كما قلنا أمّا البندول فبحر عُقدي. ونظام الخليل كله قام على الوتد كما قلنا، وبالتالي فلا مكان فيه لبحر لاعُقدي إطلاقاً؛ لأنه إن حضر فيه سيخلخل بُنية نظامه خلخلة عظيمة؛ وسيُفقد هذا بالتالي صفة الترابط والشمولية التي حرص الخليل أشد الحرص على أن يتزيّا بها نظامه (ظن عازم). ولذلك قرّر الخليل طرح البندول والراقص معاً من نظامه كبحرين حيّين، وذلك حفاظاً منه على ثبات نظامه واستقراره (ظن عازم). مبقياً على البندول بحراً مهملاً في دائرة المتقارب طبعاً، لأن ذكر البحر المهمل في دوائر الخليل ليس ترفاً كما قلنا. فالإثبات في النظام أخطر بألف مرّة من التجاهل. راجع مقالتنا في رابطة الواحة التي بعنوان "قصة المستدرِكين بحر البندول والبحر الراقص على الخليل" لمزيد من التفاصيل عن ذلك.

    إضافة: وصف سلسلة المتوفر بأنها تمثل بحراً مهملاً في شعر العرب، هو تجني على عروض الشعر العربي وعلى العرب (ظن جازم). والخليل يعرف هذا (ظن ثاقب). فالخليل يعرف أن التفعيلة (فاعلاتك) تفعيلة باطلة، لكنه كان مضطراً لها بسبب ما ذكرنا (ظن ثاقب). ومثلما وقع العلمي في فخ دائرة المؤتلف الوهمية (دائرة السبب الثقيل)، فراح يبحث عن سبب إهمال العرب لهذا المتوفر، وإهمال (فاعلاتكَ) معه بالمعية، من كون فاعلاتكَ لم تدخل في تكوين أيّ نسق إيقاعي عند العرب (دراسة في التأسيس والاستدراك، ص 85)؛ فكذلك وقع العروضيين القدامى في هذا الفخ. فراحوا يحاولون تفسير سبب إهمال العرب للمتوفر، منهم الصفاقسي والشريف والدماميني، مثلاً لا حصراً. فقد انصرفوا في تفسيرهم لسبب إهماله المزعوم، إلى ما يلزم عليه من المحذور، وهو إمّا لزوم الوقف على المتحرك إن ترك الحرف الأخير على حاله من التحرك، أو عدم تماثل أجزاء البيت إن سكّن، لأنه من دائرة المؤتلف المبنية على تماثل الأجزاء، قال ذلك الصفاقسي. أمّا الشريف فذهب إلى أن السبب في إهماله ما يلزم عليه من تفريق السبب الثقيل من الخفيف، وكلاهما كالصوت الواحد الذي لا تفرّق أبعاضه، ولذا أطلق أئمة هذا الفن عليهما اسم الفاصلة، فأفردوهما باسم يختص بهما كالوتد والسبب كما قال. واعترض عليه الدماميني في ذلك بكلام ليس يعنينا هنا. (الغامزة ص 27، وص 30، وص 51)


  8. #8
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي


    (7)

    وإذا كانت أجزاء بحور دائرة الوتد المفروق (دائرة المشتبه)، بحضور الوتد المفروق والسبب الخفيف، قد حضرت فيها ظاهرة التقليب مكتملة على مستوى الجزء، إذ قد ظهرت في ثلاثة أجزاء سباعية مشتملة على الوتد المفروق، موجودة في ثلاث بحور حيّه بتقرير الخليل [المنسرح- الخفيف- المضارع]، محققة للاحتمالات الثلاثة لتقليب الوتد المفروق مع السبب الخفيف [مفعولاتُ /0 - /0 - /0/- مستفع لن /0 - /0/ - /0– فاع لاتن /0/ - /0 - /0]. وهو ما لم يحصل مع دائرة السبب الثقيل كما رأينا، مع أن حال الوتد المفروق هو كحال السبب الثقيل في طريقة نشوء الثقيل عن الفاصلة الصغرى (//- /0)..!

    والسبب في ذلك أنّ قصة نشوء الوتد المفروق مختلفة قليلاً عن قصة نشوء السبب الثقيل، فهو وإن كان قد نشأ عن طريق شق الوتد المجموع هذه المرّة ( /- /0)، لكن أضيف قبله للمتحرك المفصول عنه، السبب الخفيف الذي لم يزاحفه العرب إطلاقاً [/0/ - /0]؛ فهكذا نشأ الوتد المفروق. وقد تخلّف عن صناعته سبب خفيف وهمي يأتي مباشرة بعد الوتد المفروق [/0/ - /0]، تماماً كما نشأ عن صناعة السبب الثقيل سبب خفيف وهمي يأتى بعد الثقيل مباشرة.

    أقول: مع أنه قد حضرت في أجزاء بحور دائرة الوتد المفروق، ظاهرة التقليب على مستوى الجزء مكتملة، لكن هذا أيضاً ليس دليلاً لهم على أنّ التقليب كان مقصوداً فيها، أي أنه هو الذي تسبّب بذلك بزعمهم. فقد حضرت فيها ظاهرة التقليب مصادفة، ولم يتقصّد الخليل حصولها. وسبب ظهورها فيها ناتج عن أمرين متلازمين:

    أولهما هو هروب الخليل من التجزيء التساعي الذي لا يحتمله نظامه، فنظام الخليل لن ينعم بالترابط وصفة الشمولية، إلّا إذا اقتصرَ على الجزء السباعي والخماسي فقط، ودون تشابك بينهما (ظن عازم) (17). ونسق العنقاء ذي الأسباب الثلاثة المتبوعة بعقدة (لا لا لا نعم)، هو المكوّن الأصيل في دائرة المشتبه (18)، وكذلك في البحرين اللذين هما عُمدة هذه الدائرة وسبب وجودها، أي المنسرح وبحر الخفيف، لكن العنقاء لن تتقبل التجزيء السباعي لأنها مؤلّفة من تسعة حروف وليس سبعة.

    (17): راجع مقالتنا في رابطة الواحة (نظام الخليل العروضي لا يحتمل التجزيء التساعي لأيّ سبب كان).
    (18): العنقاء مصطلح من مصطلحات نظام قضاعة، فعروض الشعر العربي برأي أبي الطيب، قام على ثلاث انساق عُقدية فقط، نسق الفتلة (لا نعم)، ونسق القنطرة (لا لا نعم)، ونسق العنقاء (لا لا لا نعم).

    والمنسرح هو مفجّر معضلة التجزيء التساعي الذي لا يطيقه نظام الخليل، أي هو قادح فكرة الوتد المفروق في ذهن الخليل للتخلص من هذا المأزق..؟ فالمنسرح بحرٌ حَيّ على ألسنة الشعراء، لكن العنقاء فيه رفضت الاختباء بين الأجزاء على غرار عنقاء بحر الخفيف، فاستحال تقطيع سلسلته التامة مع المحافظة على لازمة الوتد المجموع قائمة في الجزء (19). ما دفع الخليل للتضحية بلازمة الوتد المجموع في عنقاء المنسرح، فحطّمه وصنع على أنقاضه وتداً مفروقاً، يتموضع دائماً مكان عُقدة العنقاء (مكان وتد العنقاء المجموع)؛ وذلك ليُخضع العنقاء للتجزيء السباعي الأحرف (ظن عازم). وهذا طبعاً بعد أن تأكد للخليل تماماً، بأن ساكن السبب الخفيف الذي يسبق عُقدة العنقاء (لا لا لا نعم)، لم تزاحفه العرب إطلاقاً؛ وهذا أمر جدّ مهم في نظام الخليل، لأنه سيكون ساكن الوتد المفروق المزمع صناعته، وسواكن الأوتاد لا تزاحف بتقرير نظامه.

    (19): هذا هو ترميز سلسلة المنسرح التامة بتأصيل الخليل، دون إبراز الوتد المفروق فيها: /0 /0 //0 /0 /0 /0 //0 /0 //0 (ع.=12): وهذا هو بأنساق قضاعة: لا لا نعم، لا لا لا نعم، لا نعم (ع.=12)؛ فحاول تقطيعه بأجزاء نظام الخليل دون التضحية بلازمة الوتد المجموع للعنقاء، ومحافظاً في نفس الوقت على شرط احتواء الجزء على وتد مجموع واحد؛ لا تحاول فلن تستطيع..! أمّا تنعيم سلسلة بحر الخفيف بتأصيل الخليل إنما بأنساق قضاعة، فهو هكذا: لا نعم، لا لا لا نعم، لا نعم، لا (ع.=12). فلاحظ أن عنقاء بحر الخفيف يمكن تخبئتها بين الأجزاء دون التضحية بلازمة الوتد المجموع للعنقاء، هكذا: فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن.

    فصار تقطيع سلسلة المنسرح التامة في نظامه، بعد حقنها بالوتد المفروق، هكذا: مستفعلن مفعولاتُ مستفعلن. وبذلك وصارت أجزاء المنسرح كلها سباعية، وظل شرط صحة الجزء في نظامه قائماً أيضاً، فالجزء مفعولاتُ يحتوي على وتد مفروق واحد وسببين خفيفين فقط.

    ومع أنّ عنقاء بحر الخفيف يمكنها الاختباء بين الأجزاء كما قلنا، فيمكن أن تظل مستفعلن فيه محتفظة بالوتد المجموع، لكن يتوجب عندئذ منع طيها على الإلزام (الطي هو حذف الرابع الساكن في الجزء)؛ لأن طيها سوف يتصرّف بساكن السبب الخفيف الذي يسبق عُقدة العنقاء بحذفه، هذا الذي لم تزاحفه العرب كما قلنا. لكن لـمّا أجمعَ الخليل أمره على اختراع الوتد المفروق بسبب ما ذكرنا، جعل تقطيع بحر الخفيف هكذا: فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن. وذلك كي لا يتناقض مع نفسه؛ فبحر الخفيف يحتوي على نسق العنقاء مثله مثل المنسرح، والوتد المفروق يتموضع على عقدة العنقاء كما رأينا. وبالمعيّة سيمنع ساكن الوتد المفروق طيّ (مستفْع لن)، لأن طيها يستلزم حذف ساكن السبب الخفيف الذي يسبق عُقدة العنقاء، هذا الذي لم تزاحفه العرب كما قلنا.

    وبذلك ظلّ الجزء (مستفع لن) في بحر الخفيف محافظاً على شرط صحة الجزء في نظامه قائماً أيضاً، فهو يحتوي على وتد مفروق واحد وسببين خفيفين فقط. وهكذا نشأ أهمّ جزأين في أهم بحرين في دائرة المشتبه، وظهرت فيهما ظاهرة التقليب مصادفة دون تقصّد من الخليل، أليس كذلك..؟ والأمر الثاني المفسّر لسبب ما قلنا، سوف يغلق الطريق على أيّ اعتراض قد يوجّه لهذا الأمر الأول المفسّر لذلك.
    التعديل الأخير تم بواسطة ابو الطيب البلوي القضاعي ; 01-04-2023 الساعة 10:00 PM سبب آخر: تعديل تنسيق

  9. #9
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    (8)

    فالأمر الثاني الذي أدّى لظهور ظاهرة التقليب مكتملة في أجزاء بحور دائرة المشتبه، والمتشابك مع الأمر الأول، هو مفهوم الدائرة وأهميتها في نظرية الخليل العروضية، بل وأهميتها لأيّ نظرية عروضية عربية قوية. نقول هذا حتى مع اعتراض صاحب عروض قضاعة على ماهية الدائرة عموماً في نظام الخليل. واعتراضه على دائرة المشتبه على الأخص. بمعنى أن الخليل وأبو الطيب يقرّان بوجود واقع الدائرة، لكنهما يختلفان في ماهيتها في عروض شعر العرب (يختلفان في مفهومها). (20)

    (20): راجع مقالتنا في رابطة الواحة التي عنوانها: (للدائرة وجود حقيقي في عروض العرب، لكن الخليل وظّفها لخدمة نظامه فقط؛ فلا يمكن إعادة هيكلة نظام الخليل بحيث يبقى مترابطاً شاملاً، دون فكرة الدائرة).

    فدائرة المشتبه وإن كانت تمثّل دائرة إيقاعية بالمفهوم العام، لكنها ليست دائرة عربية على الإطلاق، فلم يفرضها واقع شعر العرب على الخليل كما حصل مع الدوائر السابقة، إنما هو من فرضها من عنده بسبب ما ذكرنا، أي لكون أن نظامه لا يطيق التجزيء التساعي. فدائرة المشتبه تتألف من ثلاثة انساق، بينما الدائرة العربية تتألف من نسقين على الأكثر. (ظن عازم)

    ومع أنّ هناك احتمالين لصناعة دائرة ثلاثية النسق، لأنها بحضور الثلاثة انساق لن تكون حرّة الدوران حتى لو أرادت. فإن الدائرة الواجبة الحضور هنا ليتحقق بها غرض الخليل في ضم أهم بحرين لها، أي المنسرح والخفيف، هي الدائرة التي يأتي فيها نسق الفتلة بعد نسق العنقاء وبعدهما نسق القنطرة، ويستمر الدوران بهذا الترتيب. وهذه هي دائرة المشتبه على الحقيقة، أي بدون كائن الوتد المفروق المتوهّم. وبغير ذلك لن يكون لأهم بحرين مكان فيها. (انظر الشكل)

    دائرة المشتبه الهندسية.jpg

    وحيث أن الخليل أصرّ على اعتبار السبب الخفيف الوهمي المتخلّف عن صناعة الوتد المفروق، هو سبب حقيقي كامل الأهلية فيجوز عليه الزحاف؛ لذلك توجّب عليه أن يضع هذا السبب الوهمي على محيط دائرة المشتبه برفقة الوتد المفروق والوتد المجموع، وأن تبدأ من عنده سلسلة. وذلك ليستقيم أمرها في نظامه كدائرة هندسية تامة مغلقة على المكونات الصوتية لأجزاء بحورها (السبب بنوعيه والوتد بنوعيه). فاحتوت دائرة المشتبه بسبب ذلك على سبب خفيف وهمي واحد مقابل خمسة أسباب خفيفة حقيقية؛ وعلى وتدين مجموعين فيها مقابل وتد مفروق وهمي واحد. وبذلك كان هناك تسعة مواضع للبداية على دائرة المشتبه، نتج عنها تسعة سلاسل تامة غير مكرّرة [وهذا بعكس ما حصل في الدوائر الأخرى حتى في نظامه]؛ من عند كل موضع منها يجب أن يبتدئ بحر، حياً كان أو مهملاً؛ لأن ذكر البحر المهمل في دوائر الخليل ليس ترفاً كما قلنا. انظر أدناه رسم دائرة المشتبه مفرودة كتوضيح لهذا الأمر.

    مشتبه- مفرودة.jpg

    هذا مع ملاحظة أنّ هناك ثلاثة سلاسل قياسية في دائرة المشتبه من أصل تسعة، لا وجود للعنقاء فيها. اثنتان منها مثّلتا بحرين حيّين بنظر الخليل، وهما المجتث والسريع. وواحدة مثّلت بحراً مهملاً هو المطرد. ومعنى أنه لا وجود للعنقاء فيها، أنّ الوتد المفروق المزعوم لها لم تكتسبه من سلاسلها القياسية، إنما اكتسبته من دائرة المشتبه المحقون فيها هذا الوتد المفروق. وهذا أهم مطعن في هذه الدائرة؛ فواقع الوتد المفروق مربوط بعقدة العنقاء، فهكذا نشأ أصلا وفصلاً كما رأينا.

    ومع ذلك، فإنّ اكتساب جميع تلك السلاسل القياسية التسعة للوتد المفروق بسبب الدائرة، حتى لو لم تحتو بعض السلاسل القياسية فيها على العنقاء، هو ما أتاح لظاهرة التقليب أن تظل برأسها دون تقصّد من الخليل..؟ فزراعة الوتد المفروق هذه الدائرة، والذي سينعكس فيما بعد في السلاسل المقتطعة منها، قد استلزم أن يتموضع الوتد المفروق على عُقدة العنقاء فيها. وما سيسبق الوتد المفروق على هذه الدائرة هو السبب الخفيف الثاني للعنقاء، وما سيلحقه هو السبب الخفيف الوهمي المتخلّف عن صنعه. أي سبب خفيف ثم وتد مفروق ثم سبب خفيف؛ وهذا هو احد أوجه تقليب هذه المكونات الصوتية، والذي ارتدى هندام مستفع لن (/0 - /0/ - /0).

    وفي ظل أن دائرة المشتبه بها تسعة مواضع لبدء سلسلة قياسية تامة عليها كما رأينا، وكل منها لها مكان ابتداء على هذه الدائرة غير الأخرى، فهذا ما أعطى المجال واسعاً، ودون تقصّد من الخليل، أن تظهر ظاهرة التقليب بحضور الوتد المفروق في كل أحوال تقليبه مع السببين الخفيفين الذين يجامعانه، ولأكثر من مرّة فيها (فاع لاتن /0/ - /0 - /0– مستفع لن (/0 - /0/ - /0 )– مفعولاتُ /0 - /0 - /0/).

    وهكذا يتأكد لنا أنّ الخليل لم يستعمل فكرة التقليب الثابت في أجزاء بحور دائرة المشتبه، أي على مستوى الجزء، إنما هي ظاهرة ظهرت فيها مصادفة، فلم يتقصد الخليل حصولها. بل لا يستطيع ذلك عقلاً كما قلنا بداية هذه المقالة؛ على الرغم من أن دائرة المشتبه صنعها الخليل على عينه كما رأينا..!
    وحيث أن ظاهرة التقليب في الجزء لا قيمة لها بمعزل عن السلاسل القياسية كما قلنا، فإنه يكفي للتدليل على بطلانها في دائرة المشتبه كتقليب متحرك بحسب افتراض محمد العلَمي، هو أن الجزء مفعولاتُ عند تكراره ثلاث مرات، فلا يمكن به تقطيع سلسلة قياسية تامة [أي لا يتركب منه بحر، وهذا ما انتبه له الجوهري من قبل (عروض الورقة، ص 11)، وبذلك تسقط ظاهرة التقليب المفترضة بكلا فرعيها، الثابت والمتحرك، في عروض الخليل عموماً، وفي دائرة المشتبه خصوصاً.

    والحديث عن دائرة المشتبه متشعّب جداً، فهناك تفاصيل أخرى كثيرة عنها وعن بحورها وقوالبها، وكيفية مطاردة الخليل للثغرات الكثيرة التي نشأت عن صناعة كائن الوتد المفروق، من أجل إقفالها في نظامه؛ أو حتى الاستفادة منها في بعض الأحيان كما قلنا؛ تجنّبنا ذكرها هنا منعاً لتضخم حجم هذه المقالة، ومنعاً لخروجها عن العنوان الذي انطلقنا منه. وللعلم، الاستفادة المقصودة من صناعة كائن الوتد المفروق، هي قوالب الرجز التي فصلها الخليل عن الرجز فجعلها بحراً مستقلاً تحت مسمّى السريع، لكونها تتسبّب بمعضلة عويصة لبُنيه نظامه. وهي استفادة جاءت بضربة حظ على دائرة المشتبه. وسنرى لاحقاً تفاصيل ذلك.

    وفي الجزء الثاني من هذه المقالة، ستكشف قضاعة السّر الدفين الذي جعل نظرية الخليل العروضية مترابطة ومتينة وشاملة، والذي يعرفه الخليل أيضاً؛ لأنه سبب ظهور الجزء أسّ نظامه، مع شرط صـحته الذي ظل ملازماً له في كل نظامه (ظن عازم). هذا السر الذي أفرزَ بالمعيّة - ودون تقصّد من الخليل- ظاهرة التقليب بكلا نوعيها، أي التقليب الثابت والتقليب المتحرك على حدّ وصف محمد العلَمي؛ هذه الظاهرة التي فُـتِن بها البعض كما رأينا. وهو نفس السر الذي جعل الكل عـاجزين عن الإتيان بنظرية صوتية عروضية أقوى من نظرية الخليل، أو حتى مساوية لها في القوة.

    هذا، والحمد لله من قبل ومن بعد..
    وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..

    أبو الطيّب ياسر بن احمد القريـــــــني البلوي القُضاعي/ صاحب علم عروض قضاعة
    1- 4 - 2023

    التعديل الأخير تم بواسطة ابو الطيب البلوي القضاعي ; 01-04-2023 الساعة 10:18 PM سبب آخر: تعديل تنسيق

  10. #10
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    https://www.mediafire.com/view/onre3...%25A9.png/fileصور اوضح للصورة الاخيرة
    الصور المرفقة الصور المرفقة

صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة