دعاء الخليل ربه بأن يرزقه علماً لا يؤخذ إلّا عنه، واستجابة الله له على ما نظن..

صاحب علم عروض قضاعة/ أبو الطيّب ياسر بنُ أحمد القريـــــــني البلوي القُضاعي

قد أشيع أنّ الخليل رحمه الله، دعا الله سبحانه أن يرزقه علماً لا يؤخذ إلّا عنه، فروقه الله علم العروض، أي علم "عروض الخليل" (1)؛ والذي نظنه أن هذا الدعاء قد تحقّق على أرض الواقع فعلاً (ظن ناقِب)، حتى مع ظهور نظرية قضاعة العروضية في هذا الزمن، والتي تفوّقت على نظرية الخليل بمراحل كثيرة.

(1) (وفيات الأعيان لابن خلكان، ج2، ص 220). وانظر: (إنباه الرّواة على أنباه النّحاة، ج 1، ص 377. للقفطي).

فزمن الخليل هو زمن تقعيد النواحي اللغوية والنحوية والصرفية للغة العربية، وغيرها؛ فلا مانع من أن يدعو الرجل منهم ربه بتأثير تلك الأجواء أن يرزقه علماً لا يؤخذ إلّا عنه، حتى دون أن يدور بخلده أن يكون علم عروض أو غيره؛ فكانت استجابة الله له بأن يسر له الالتقاء بشيخ المدينة الذي كشف له عن التنعيم الذي كان يعلمه للصبي، ثم استفاد هو منها على الكيفية التي شرحناها في مقالة "السر الدفين".


وتفسير رأيي بكون الله استجابة دعوة الخليل هذه، يتبين من خلال أربعة أوجه:

الأول: قد جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: {سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى. فقلت: يا رسول الله، إن كنت لأظن حين أنزل الله عز وجل: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)، أن ذلك تام..؟ قال صلى الله عليه وسلم: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحا طيبة، فيتوفى كل من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم} (صحيح مسلم: حديث رقم: 2907).

أقول (أبو الطيب القضاعي): وتلك مثل هذه، فبقاء علم عروض الخليل مدة ألف ومائتي سنة تقريباً، متربعاً على عرش علم عروض الشعر العربي دون منازع، فلم يستطع أحد أن ينقضه بما هو أحسن منه، حتى مولد عروض قضاعة؛ لهو الدليل على ذلك. إذ ليس شرطاً في استجابة الدعوة أن تكون مربوطة بنهاية الدنيا، إنما الشرط في تحققها هو الفترة الطويلة جدا من الحياة الدنيا، دلّ على ذلك هذا الحديث.

والوجه الثاني في التفسير، يشرحه لنا ابن مالك (المتوفى عام 672 هـ)، قال: {إذا كانت العلوم مِنحاً إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعَد أن يدخر الله لبعض المتأخرين ما عَسُرَ على كثير من المتقدّمين}. (تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، ص 2)

والوجه الثالث: أنه على الرغم من أن تحصّل الفكرة على درجة ظن متوسطة كدرجة الثاقب التي تحصّلت عليها نظرية الخليل بالمجمل [73 - 77 %]، بحسب تقديري [هذا التقدير هو طبعاً في ظل غياب علم عروض قضاعة عن الساحة]. فحتى مع بقاء احتمال خطأ الفكرة المقدرة بدرجة الثاقب غير معدوم بالكلية، لكنها برغم ذلك هي المؤهلة لأن تعيش في الأرض طويلاً في ظل غياب فكرة أقوى منها (راجع مختصر خريطة العقل للمؤلف).
فكان هذا سبباً عقلياً، وكذلك سبباً اجتماعياً؛ من أسباب تمكين علم الخليل في الأرض كل تلك المدة، واستجابة دعوته كما هو مشاهد. فهذا الأمر هو الذي مكّن علمه أن يجد له أعوانا ينصروه على المخالفين بعد مماته، أجيالاً وراء أجيال، ما تسبب بصموده طيلة الألف ومائتي سنة تقريبا. فأفعال الله في الأرض مع غير الأنبياء، ليس فيها خرقٌ لسنن الدنيا، إنما هي متماشية معها، وتتم الإرادة الإلهية من خلالها {سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا (23): سورة الفتح.

وبالمقابل، فإن تحصّل علم عروض الخليل على درجة الظن الثاقب بالمجمل، هو ما جعل لعروض قضاعة [أو لغيره]، مكانا محتملاً في هذه الساحة العروضية، طالما أنه ما زال هناك درجات فوق درجة الثاقب التي تحصّل عليها نظام الخليل؛ فعروض قضاعة بالمجمل قد حاز على درجة العازم. وهذا أيضا متماشي مع سنن الله في الكون، غير معارض لِما سبق؛ فهذا سنة التدافع المقررة في الأرض.

كما أنّ البحوث العروضية وأشباهها، أكثرها متعلق بماهية الواقع وليس بوجوده، ونتائج حكم العقل على ماهية الواقع نتيجته ظنيّة مهما علت كما قلنا (راجع مختصر خريطة العقل). كما أن التدافع بين الأفكار في الدنيا ليس محصوراً بين فكر صائب وفكر باطل، بل هو يمتد ليشمل التدافع بين الفكر الصائب والفكر الأصوب أيضاً. فالنزاع بين نظرية قضاعة ونظرية الخليل، هو نزاع بين صائب وأصوب، وليس نزاعا ًبين صائب وباطل. وبالتالي فلا يقدح هذا في دعوى استجابة الله لدعوة الخليل من هذا الجانب أيضاً، طالما أن نظامه امتد العمل به كل ذلك الزمن فتحققت الاستجابة لدعوته بطول تلك المدة ليس غير.

والوجه الرابع والأخير: أنه على الرغم من نظرية قضاعة مختلفة تماماً عن نظرية الخليل، إلّا أن عروض قضاعة لم يأت من فراغ أيضاً، بل خرج من رحم عروض الخليل كما قدّمنا؛ وكذلك هو الأمر مع جميع المحاولات التي هدفت للخروج على نظام الخليل؛ وبذلك فدعوة الخليل أن يرزقه الله علماً لا يؤخذ إلّا عنه، ما زالت نافذة في عروض قضاعة نفسه، وفي غيره من المحاولات من هذه الزاوية أيضاً..!

هذا والله اعلم واحكم.
أبو الطيّب ياسر بنُ أحمد القريـــــــني البلوي القُضاعي